الغيمة البيضاء
06-09-2019

 

جلستْ أمّ أحمد على حافّة الحاكورة الصغيرة في بيتها. بيدها التي غطّتها بقعُ العمر البنّيّة، أمسكتْ منكوشًا صغيرًا، وراحت تضرب ضرباتٍ خفيفةً فوق التراب.

بدا أنّ شيئًا ما يَعُوق طريقَ منكوشها، فاستخدمتْ إصبعَها لتحفرَ أعمق، فلامستْ شيئًا ما. سرّعتْ إيقاعَ الحفر. توقّعتْ أن يكون أحدُ أولادها قد دسّ شيئًا حين كان يلعب. بعد حفرٍ حثيث، تبدّى أنّ المدفون قماشةٌ، رُبط فيها شعرٌ وعظامٌ وكفٌّ للعين أزرق، كانت قد فقدتْه من فوق عتبة بيتها منذ سنوات.

فهمتْ أمُّ أحمد أنّ ما تمسكُه بيدها عملٌ من أعمال السحر.

تناولت اللفّةَ. جلستْ طويلًا على طرف حجرٍ من حاكورتها الصغيرة، التي زرعتْها بالحبق والورد الجوريّ والزعتر. شعرتْ أنّ شيئًا ثقيلًا هدّ كتفيْها. جرّت رجليْها إلى البيت، وجلستْ قرب الباب.

عاد أولادُها من المدرسة واحدًا تلو الآخر. صبّت لهم الحساءَ الذي أعدّته وهي سارحة، فأجمعوا على أنْ لا طعم له:

- أمّي، ليس من عادتكِ أن تجعلي العدسَ مفصولًا عن المرق!

- كلْ واسكتْ! قالت بحدّة.

نظر إليها زوجُها لائمًا، فتفادت النّظرَ إليه.

في الصباح، تشاغلتْ ببعض أعمال البيت. غيّرت الملاحفَ والشَّراشف. فتحت الشبابيكَ، فدخلتْ نسمةٌ رقيقةٌ من نسائم كانون الصباحيّة. تركتْ وجهَها يتلمّسها، ورفعتْ عينَها نحو السماء.

غسلتْ. رمت ماءً كثيرًا في الأرض، دفعتْه خارج العتبة بقوّةٍ لم تؤتها منذ سنوات. كانت تحدّث قلبَها وهي تحوم في البيت من غرفةٍ إلى أخرى. عرفتْ أنّ ما شاهدتْه في نومها، منذ مدّة، كان رسالةً لم تتنبّهْ إليها حينها.

وضعتْ على النّار قدرًا فيه لحمٌ؛ ستعوِّض الأولادَ من حساء الأمس. شعرتْ أنّ لها قوّةَ عشرة رجال، فخرجتْ إلى الدار وشطفتْ ما تَراكَمَ في زاويتها من أمطار الليلة الماضية. حدّقتْ في تلك الزاوية حيث اللفّة. "سأرميها في البحر،" قالت.

- يعني يا أمّ أحمد، حملتِ اللفّة بيدِك ورميتِها في البحر؟

- قلتُ لكِ لا تكلّميني في هذا مجدّدًا. الحقّ عليّ أنّني أخبرتُ ثرثارةً مثلك.

قامت تريد الانصرافَ، فاستبقتها حليمة:

- انتظري، لا تكوني عصبيّةً. اجلسي معي وأنا أعجن. عندي ضيوف على الغداء. انظري ماذا أعددتُ بالأمس.

قامت وأرت أمَّ أحمد صينيّةً صفّت فوقها الكعكَ، وقد رشّته بالسكّر الناعم. أضافت، وهي تمدُّ الصينيّةَ إلى جارتها الخمسينيّة:

- طبّقتُ ما قلتِ لي بالحرف، كُلي وأعطيني رأيك!

نظرتْ أمُّ أحمد إلى حليمة نظرةً معبِّرةً، فعرفت المرأةُ أنّ حديثّها عن الكعك لم يزد الطينَ إلّا بلّةً، فقالت محاولةً التّخفيفَ عنها:

- لا تتشاءمي. كلّه بأمر الله.

***

لم تنم أمّ أحمد في الليالي التي تلت رميَ اللفّة في البحر. أرادت أن تسمعَ نبأً ما يطمْئِنها أنّ ملوكَ البحر، الذين وكّلتهم إبطالَ السحر، قد أجابوها إلى طلبها. حسرتْ رأسَها وتضرّعتْ إلى الله. صلّت الصّبحَ وقامت إلى شبّاكها تفتحُه. رأت سحابةً. رقّت في عينها دمعةٌ، ما لبثتْ أن ذابت حين نادى عليها زوجُها.

- أيعقل أن تكون للسحر يدٌ في ذلك؟ ربّاه كيف تسمح؟

هجستْ أمُّ أحمد بذلك وهي تنظّف الدارَ. أسالت الفكرةُ دمعَها صبًّا. كنّستْ وهي تبكي. نفضت الغبارَ عن الزّوايا والمزهريّات وهي تبكي. لملمتْ ثيابَ زوجها المتّسخة وهي ما تزال تبكي.

مرّ يومُها كما الأيّام التي سبقته: تهجس بالأفكار. تناجي ربَّها. تستذكر ذلك الطّيفَ ذا العود الرقيق، فتبكي. وتكبت الشهقاتِ مع الغصَص حين يطرق أحدٌ بابَها يريد شيئًا.

يعود زوجُها، فتضع له الطّعامَ ولا تقْربُه. يعود الأولاد، فتُسكتُ أيَّ نأمةٍ تصدر منهم. عوَّدتهم أنْ يدرسوا وحدهم، فأراحها ذلك من همٍّ إضافيٍّ في مثل ذلك الظرف الذي كانت تمرّ به. يدرسون، ثمّ يتناولون عشاءهم، وينامون، وتتوالى الأيّام.

"كنّا جميعًا في مكانٍ فسيح، أرضُه من العشب الذي جفّ ومال إلى الصفرة. كنتُ أشاهد المنظرَ وأعيشُه في الوقت نفسه. السّماءُ كانت ضبابيّةً، تُحلّقُ فيها من بعيدٍ نسورٌ سود. وفي زاويةٍ قريبةٍ فوقنا حيّةٌ، كان الأولادُ ينظرون إليها خائفين. كانت كبيرةً جدًّا، سوداءَ، غليظةً، تنفث من فمها سائلًا أسود، كأنّها تمطرُه فوق رؤوسنا؛ نحاول الاحتماءَ منه، فيتطاول ويطولُنا أينما ولّيْنا. ثمّ لم أعد أرى شيئًا. صرختُ صرخةً واحدةً غطّت كلَّ شيء، ثمّ رأيتُني أبتلعُ الحيّة ..."

***

تغيّبتْ عنها حليمة أسبوعًا أو أكثر. تأتيها أخبارُها مع أحد أولادها الذين يرافقون أولادَ حليمة في طريق المدرسة. رحل ضيوفُها بعد يومين، فلِمَ لم تزرْها حليمة؟ انشغالُ أمّ أحمد بتقليب الأمر صرفها عن العتب، فقرّرتْ إنّ تزور حليمةَ عصرًا. وحين عاد زوجُها، استأذنتْه في الذهاب إليها.

لبستْ عباءتَها المخمليّةَ السّوداءَ التي لم تترك لونَها منذ ذلك اليوم المشؤوم. وضعتْ غطاءَ رأسها القطنيّ بعد أنْ سقت زهورَها تحت الشّبّاك. وضعتْ ركوةَ القهوة لزوجها كي يصحو فيجدَها جاهزةً، فلا يتأفّفَ من غيابها إنْ طال حديثُها وحليمة. دسّت في جيبها ورقتيْن من شتلة العطرة، لفّتهما بقماشة، وقصدتْ دارَ حليمة التي تُقابل بيتَها في الحيّ. سمعتْ من خلف الباب:

- لكنّي فعلتُ كلَّ ما طلبتِه منّي. اتركي المرأةَ تعيش بسلام. اتركيها ويكفيكِ تجبّرًا. لن أفعلَ ما تطلبين. في المرّة السّابقة مات ابنُها، فماذا تريدين الآن؟ أنْ تموتَ هي؟ ماذا فعلتْ لكِ؟ اتركيها! حزنُها على ابنها كاد يقتلُها. خسارة يا أحمد، كان كعود الحبق!

"أحمد؟" تساءلتْ أمُّ أحمد، "وما علاقةُ حليمة بموته؟ ربّاه!"

أصاخت السمعَ. لم تعرف الصوتَ، لكنّه بدا مألوفًا. كان رجلٌ يهدِّدُ حليمة، يقول إنّه سيفضح سرَّها.

"ماذا فعلتِ يا حليمة؟" تساءلتْ أمّ أحمد من جديد.

أسرعتْ أمُّ أحمد الخطوَ عائدةً إلى بيتها. كان قلبُها يدقُّ كطبل، ويداها تتعرّقان، وعيناها لا تريان الطريقَ. تعثّرتْ، ووقعتْ على ركبتها، فجرحتْها جرحًا بليغًا. في البيت كان زوجُها يدخّن ويشرب القهوة. دخلت المطبخ، ووضعتْ بعضَ البنّ على ركبتها.

"من صاحبُ ذلك الصوت؟ ولِمَ يهدّدُ حليمة؟" سألتْ نفسَها.

***

كيف تنسى أمّ أحمد تلك النيرانَ أو ذلك اليومَ المشؤوم؟

كان أحمد قد عاد من العمل. دخل الحمّامَ من دون أن يردَّ على أيٍّ من أسئلة أمّه عن والده الذي يعمل وإيّاه في المنجرة. توجّهتْ نحو المطبخ تُنهي قليَ السّمك للغداء. سمعتِ اندلاقَ طستٍ كبيرٍ على الأرض، فقامت تتفقّد. التهم عينيْها الدّخانُ الأسودُ الخارج من باب الحمّام. صرختْ وراحت تحاول فتحَ الباب، لكنّه كان مقفلًا بالمفتاح.

صرختْ بعدلي، جارِهم الحدّاد. تَحلّق الجيرانُ حول باب الحمّام، على الرغم من تصاعد الدّخان من تحت العتبة. بعد محاولاتٍ امتزجتْ بالعويل والندب والابتهالات، فُتح الباب. دخل الرجال، وبقيت النّسوةُ ينتظرن بأعينٍ شاخصة.

خرج عدلي يطلب حرامًا ولفّافات. حاولتْ أمّ أحمد أن تدخل، فسَدَّ البابَ في وجهها. بكتْ وأعولتْ وارتمتْ بين يديه تترجّاه. سلّمها الرّجلُ إلى زوجته حليمة. أمسكتْ بها حليمة، وغاصت المرأتان في بكاءٍ عالٍ.

خفّ الدّخان، فتطلّعت العيونُ إلى الحمّام. كان أحمد ملفوفًا بالأغطية، يرتجف، ويزفر، وعيناه في مكانٍ آخر.

***

مرّت أيّامُ العزاء ثقيلةً. بدت أمُّ أحمد غائبةً عن العالم من حولها. توافد الجيرانُ والأصدقاء والأقارب، وكان من بينهم ابنُ عمّتها خليل، الذي عاد إلى زيارتهم بعد الأربعين. جاء عصرًا من دون زوجته. جلس قبالة أمّ أحمد، التي لم تقل كلمة واحدة. شعر بثقل زيارته وعبثها، فقام مودّعًا. ركب سيّارته. كان ينظر في مرآته الخلفيّة حين لمح أبا أحمد يدخل دارَ جارهم عدلي، الذي انتشرتْ أخبارُ بطولته في محاولة إنقاذ أحمد. تساءل عمّا يفعله عند امرأةٍ مات زوجُها، وقرّر أن يعرف السّبب. راح يراقب المكان. وحين عرف الحقيقة شعر بالرّاحة. يمكنه الآن أن ينتقم!

***

بعد موت أحمد، مات عدلي، زوجُ حليمة. وجدتْه في الصباح متخشّبًا. مات بصمت، وحليمة لم ترتدِ بعده الأسودَ ولا أقامت عدّةً. قالت إنّ ولديْها يحتاجان أنْ تعملَ لتَعُولهما. كانت تتركهما ساعاتِ النهار عند أمّ أحمد، وحين تعود تجلبُ معها أيَّ شيء يخفّف حرجَها من الجارة التي ترعاهما. ولكنّ أبا أحمد كان يقول لأمّ أحمد إنّه لا يطيق رؤيتَهما في بيته. وكانت المرأة تظنّ أنّ موتَ أحمد يجعله عصبيًّا، فتحاول أن تحنّن قلبَه عليهما.

مع الأيّام، سكت الرّجل، والتهى عنهم، وعاد إلى ورشته يصمِّم غرفَ النّوم للعرائس الجدد الذين يقصدونه من شمال البلاد وجنوبها.

بعد موت أحمد، صارت أمُّ أحمد تنام ليلَ نهار كي يزورَها أحمد في الحلم. كان أحمد يقف فوق غيمةٍ بيضاءَ كبيرة، يستحمّ بمطرها الناعم، يبتسم لها بحنوّ، فتبتسم لابتسامته. تصحو فتجد نفسَها تحتضن صورتَه بثيابه البيضاء حين كان في العاشرة، وتسأل نفسَها: "لِمَ فعلتَ ذلك يا صغيري؟" ثمّ تبكي إلى أن يجفَّ دمعُ العين، فتقوم إلى صلاتها وتعتب على ربّها: "أكان كثيرًا لو حميتَه؟ لِمَ تركتَه يحترق وأحرقتَ قلبي وأنا أعبدُكَ؟ لمْ أقترفْ ذنبًا، لمْ أزنِ، لمْ أسرقْ، لمْ أقتلْ. ماذا كنتَ تريد بعد؟"

تقول ذلك ثمّ تستغفرُه وتمسح وجهَها الذي تغضّن من الدّموع.

***

حاولتْ أمّ أحمد أن تستعيدَ شكلَ الرجل الضخم الذي كان يحدّث حليمة. بدا صوتُه مألوفًا. جلستْ إلى شبّاكها، فغفت. أفاقت تشهقُ بأنفاسها. لقد عرفتْ ذلك الوجه، صاحبَ الصوت. رأته كاملًا واضحًا. ربطتْ بين الصوت والتفاتة الظهر، فتأكّد لها أنّ ما رأته في منامها صحيح:

إنّه خليل، ابنُ عمّتها، الذي خطبها قبل زواجها من أبي أحمد!

أعادت الحوارَ الذي سمعتْه مئاتِ المرّات، وأضافت إليه ما سمعتْه في منامها: "سأفضحُ ما كان. مازال موتُ أحمد أحجيةً، وأمُّه تقصد العرّافين والشّيوخَ وقارئاتِ الفنجان تتقصّى الحقيقة."

كانت الأيّام تتوالى، وأمُّ أحمد مصمّمةٌ على أنْ تعرف الحكاية. كبّرتْ فتحةَ قفل دارها، بحيث تمكّنتْ من رؤية المارّين من دون أن يراها أحد. أبقت حركتَها عاديّةً في الحيّ: فكانت تقصد الدكّانَ لتشتري أغراضَها، وتحادث الجاراتِ عند الباب، وترْتق ثيابَ زوجها أمام العتبة، وتستقبل الأولادَ وتودّعهم، وتسقي الياسمينةَ، وتفتح شبّاكَها الأخضر، وتنظر في الغيمة البيضاء التي تَعْبر السّماءَ كلَّ يوم.

كانت ذلك العصرَ تجلس، وفنجانُ قهوتها بيدها، والمسبحةُ بيدها الثانية، تنظر من الفتحة الكبيرة. فإذا بأبي أحمد يدخل الحيَّ. لم يكن ذلك وقتَ مجيئه المعتاد، ولم يقصد البيتَ، بل دخل بيتَ حليمة.

ربّاهُ، لطفَكَ بي!

رأته يخرج بعد وقت. عاد مساءً كما كلّ يوم. حضّرتْ له عشاءه. أخبرتْه ببعضِ ما حصل معها. أنصتَ بصمتٍ كعادته. قالت بخبث: "تريد حليمة أنْ تتركَ أولادَها عندنا أسبوعًا. جاءها عريسٌ وستقصد قريتَها كي تحضِّرَ للخطوبة. يبدو أنّه مستعجل. رأيتُه يخرج من بيتها حين رحتُ أزورها."

اعتدل أبو أحمد في جلسته. لاحظت المرأةُ أنّ مزاجَ زوجها قد تبدّل، لكنّه حاول أنْ يحتفظَ ببروده. قام وقصد سريرَه للنّوم. سألتْه إن كان يريد أن يشاهدَ الحلقةَ الأخيرةَ من المسلسل، فقال إنّه تعبان ويحتاج إلى النوم.

بكّر الرجل في الخروج إلى العمل في اليوم التالي. جلستْ أمّ أحمد خلف بابها ورأته يقف بباب حليمة، ورأتها تكلّمه وتلوّح بيدها، وهو يمسك بها، ثمّ يرميها أرضًا ويمضي.

***

حاولتْ أمُّ أحمد أن تعيشَ كلَّ يوم وكأنّها لا تعرف شيئًا. قد يكبر الحقدُ حتّى يقتلَ قلبَ صاحبه، فهل يمكن أن يكون خليل إنسانًا وقد أعماه حقدُه إلى تلك الدّرجة؟

وقد يكون من الأفضل لنا ألّا نعرفَ الحقيقةَ مطلقًا. فلماذا ينبغي لأمّ أحمد أن تعرفَ أنّ ابنَها أحرق نفسَه بعد أن رأى والدَه يجامع حليمةَ خلف أحد الرّفوف الكبيرة المتراصّة في المنجرة؟ وهل تستحقّ حليمة سوى الموت؟

كان على خليل أن يُبْطل مفعولَ سحره الذي دفنتْه حليمة في بيت أمّ أحمد، بعد أن تآمرتْ معه كي يساعدَها على أن تتزوّجَ أبا أحمد بعد موت زوجها عدلي. هدّدتْه أمّ أحمد بقتل أحدِ أبنائه. وحين علم أنّها دعتْ زوجتَه إلى الغداء عندها، أدركَ أنّ المرأة لم يعد لها ما تخسره، وأنّها جادّةٌ في تهديدها. "اسمعْ يا خليل،" قالت أمّ أحمد، "أنت تعرف أنّي لا أخاف شيئًا. كنتُ فتاةً صغيرةً حين طلبتَني للزواج ورفضتُكَ من دون خوفٍ من أيّ شيء. ما شأنكَ أنتَ وحليمة؟ رأيتُكَ في بيتها. كنتَ تكلّمُها عن ابني أحمد ... إحكِ كلَّ شيء، وإلّا أخبرتُ زوجتَكَ أنّك تزور امرأةً أخرى."

***

صار أبو أحمد يعود إلى البيت في وقت أبكر. يستحمّ ويشرب القهوةَ بعد أن يصبَّ لها فنجانًا. يحادثها مطوّلًا، كما كان يفعل في أوّل زواجهما، قبل أن تنتقل حليمة إلى الحيّ. كانت أمّ أحمد تكرهه في سرّها؛ أَوَليس طيشُه السّببَ في موت أحمد؟ صوتٌ ما في داخلها كان يقول إنّ ذلك الظّلم لن يرجعَ على أصحابه إلّا بظلمٍ أقسى. تركت الأيّامَ تدور وهي تنتظر. وبينما كانت تحمل صينيّة القهوة متوجّهةً إلى المطبخ قالت له: "ستترك حليمة ابنَها عندنا. ستأخذ الآخرَ معها إلى القرية. الأولاد سيذهبون عند عمّتهم. هل أحْضر لك شيئًا قبل أن أنام؟"

أشار الرّجل برأسه أنْ كلّا. توجّهتْ أمّ أحمد إلى شبّاكها الأخضر، فأقفلتْه وهي تُودِع غيمتَها البيضاء بنظرةٍ.

***

مرّ شهران على سفر خليل، الذي لم يجد بدًّا من الهروب بعد أن افتُضح أمرُ مؤامرته الخبيثة مع حليمة، وخاف أن تعرفَ أمُّه، أو أن يَدفع الحقدُ أمَّ أحمد إلى تنفيذ تهديدها يومًا ما.

وكانت أمّ أحمد تقصد بيتَ عمّتها تتفقّد أحوالها. تبكي كلٌّ منهما على فقيدها. تحادثها، وتعطيها دواءها وما أعدّته لها من طعام، وتغطّي قدميها بلحاف رقيق يقيها بردَ كانون، ثمّ تقصد البيت قبل العتمة. في طريق عودتها كانت تستعيد صورًا كثيرةً لأحمد، ولأبيه الذي قضى حين وقع عليه أحدُ الألواح الخشبيّة الضخمة.

الهواء مشبعٌ بالبرد الذي يوقظ في الروح أشباحَ الغربة والحنين. تدخل أمُّ أحمد الحيَّ. يلوح شبّاكُها الأخضر. ورودُه المتفتّحة يجعلها أوّلَ الليل أنسًا وسلامًا للعابرين. يُطلّ منه عدلي الصّغير. يلوّحُ لها مبتهجًا بعودتها. يركض نحوها ويحتضنُها. تولي ظهرَها بيتَ حليمة، الذي صار خرابةً بعد احتراق السيّارة التي كانت تُقلّها إلى قريتها في طريقها إلى زيارة أمّها المريضة. يقول عدلي وهو يمسك بطرف عباءتها البيضاء:

- اليوم، حكت لنا المعلّمة عن فارس نبيل. صار غيمةً بيضاء بعد أن احترقتْ مدينتُه. هل يعقل ذلك يا خالة؟

تبتسم أمّ أحمد للصّغير. تريه ما أحضرته له من حلوى. يفرح ويتقافز قربها. يسبقها إلى البيت. تقف بالباب، وتلوّح لغيمةٍ بيضاءَ بقيت على الرغم من العتمة.

صيدا

وداد طه

روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.