الوشم
10-11-2020

 

دخلتُ بيتَها مرّةً واحدةً، وذلك حين أرسلتْني جدّتي بصحن طعامٍ إليها. لم يكن ثمّة بابٌ. كانت تنام حينها. استرقتُ النّظرَ إليها: شعرُها أبيضُ مبعثر، تحت إشاربٍ قطنيٍّ قصيرٍ استحال بياضُه صفرةً. فستانُها مزركشٌ بورودٍ صغيرةٍ ملوّنة، بدت مؤخّرتُها البيضاءُ من فتحاته. كانت تنام بحذائها. شخيرُها يعلو كأنّه رعد. وحين شخرتْ تلك الشّخرةَ الكبيرةَ جدًّا، سقط صحنُ الفخّار منّي، فتركتُه وهرولتُ.

كانت عيناي مغمضتيْن، فصدمتْني سيّارة.

سألتُ جدّتي التي كانت تلومني على تهوّري حين عبرتُ الشارع وسقطتُ أمام سيّارةٍ خلّف اصطدامُها بي أثرًا فوق عيني اليسرى إلى اليوم: "جدّتي، لِمَ تنام أمّ سليمان بحذائها؟"

لم تكترثْ جدّتي لسؤالي، وقالت: "تغطّي جيّدًا، فالبردُ شديد."

في الليالي التي تلت، كنتُ أتخيّل العجوزَ تقطع الشارعَ نحو بيتنا، متأرجحةً ذاتَ اليمين وذاتَ اليسار. أتخيّلُها تفتح البابَ وتحدِّق إليّ، فيستحيلُ لونُ الغرفة أخضرَ كلون وشمها، فأغمضُ عينيَّ، وأدفنُ رأسي عميقًا في وسادتي كي لا تأخذَني تحت فستانِها الواسع.

قبل تلك الحادثة، كنتُ أتجنّب بيتَها حين أسير إلى المدرسة. منذ سنوات وهي تعيش وحدها في ذلك القبو العطن. لم يعرف لها أحدٌ ماضيًا. ألها أولاد؟ كم عمرُها؟ من أين جاءت؟ بدت كأنّها كانت هناك منذ الأزل.

لكنّي منذ تلك الزّيارة أشعرُ أنّ شيئًا ما يشدُّني إلى العودة.

في ليلة رأس السّنة قالت جدّتي: "خذي حبّاتِ الكستناء هذه إلى أمّ سليمان، وانتبهي وأنت تَعْبرين الشارع." وضعتْ فوق كتفيَّ شالَها الكشميرَ، ولفّتْه جيّدًا. نظرتْ في عينيّ، وحمّلتْني الصَّحنَ بإحكامٍ كأنّها تقول "عودي من دون أضرارٍ أخرى."

لم يكن بيتُنا يبعد عن بيتها سوى أمتار. كان عليّ فقط أن أعْبرَ الشارع، وأخطوَ خطواتٍ معدودةً يمينًا، حتّى أكونَ أمام عتمته.

كان الوقتُ عشاءً، وليلُ الشتاء القصير قد بدأ منذ ساعة. الشارع فارغ إلّا من صوتِ الريح وبعضِ المارّة العائدين إلى مدافئهم. سماءُ المدينة غائمةٌ وتُنذر بمطرٍ قادم. دكّانُ زكريّا مغلقٌ حتّى عودتِه من الصلاة، على ما ذكرتْ إشارةٌ وضعها لزبائنه.

شعرتُ بقرصةٍ في معدتي. لفّني الهواءُ البارد. نظرتُ جهةَ البحر الذي يفصلنا عنه شارعٌ طويل، ويبدو من بعيدٍ بلون السّماء الرّماديّة. ضغطتُ حبّاتِ الكستناء الساخنة بيديّ، فأشعرني دفؤها ببعض الأمان من خفافيشَ قد تطير من الزّوايا وتقتلع عينيّ.

بعد تردّد أمام العتبة التي وُضع فوقها غطاءٌ شتويٌّ يحجب البردَ، دخلتُ.

كانت مستلقيةً في أكثر الزوايا عتمةً. حولها أكياسُ الطعام الذي يتركه أهلُ الحيّ. رائحةٌ غريبةٌ ومقيتةٌ لفحتْ أنفي؛ لعلّها بقايا الطعام ممزوجة ببراز القطط التي تنام مع العجوز، أو ببرازِ الكلاب التي تزورُها وتأكلُ معها من تلك الأكياس.

لم أُصدرْ أيَّ صوت. وضعتُ الصحنَ جانبًا. فاحت رائحةُ الكستاء وطمستْ شيئًا من رائحةِ العجوز الخانقة.

هممتُ بالخروج، لكنّ صوتًا رقيقًا لم أتبيّنْ صاحبتَه نادى: " انتظريني!"

التفتُّ مذعورةً، وكدتُ أبلِّلُ ثيابي لولا أنّ وجهًا ملائكيًّا ظهر من الزاوية المعتمةِ حيث العجوز.

- من أنتِ؟ سألتُها.

- رزان.

- من أنتِ يا رزان؟ ماذا تفعلين في بيت أمّ سليمان؟ مَن جاء بك إلى هنا؟

- هي مَن جاء بي.

- هل خطفتْكِ؟ أين والداكِ؟

- كلّا، لم تخطفْني. نحن معًا لا نفترق. والدايَ ماتا منذ زمنٍ في الحرب. طائرةٌ قصفتْ بيتَنا.

- هل كانت أمّ سليمان معكِ في الحرب؟

- نعم، قلتُ لك إنّنا لا نفترق. هدمت الطائراتُ البيتَ فوق رؤوسنا. صحوتُ فوجدتُ نفسي تحت الرّكام. وحين تمكّنتُ من الخروج من بين الأتربة، وجدتُ والديَّ مُدْميَيْن، وإخوتي مهروسةً أجسادُهم لا يَظهر منهم إلّا فتاتٌ أو أشلاء. خرجتُ أريد أن أستغيث، فوجدتُ القريةَ قد أبيدت. مشيتُ على غير هدًى أيّامًا، ومن دون أيّ طعام. شربتُ ماءَ الصّخور. صفع جسدي بردُ الفجر، وأحرقني حرُّ النّهار. في طريقي، غاب وجهُ أهلي. محتْه ذاكرتي. حاولتُ طويلًا أن أستعيدَ وجهَ أمّي، فلم أستطع. ناديتُها، فلم تجب. كبرتُ فجأةً. طال شعري وابيضّ وأنا أمشي. مشيتُ في الشُّموس الساطعة وتحت المطر الغزير، بين الرّياحين وفي النّيران. حملتُ بأطفالٍ وولدتُهم. تركتُهم وتركوني، ثمّ بقيتُ وحدي.

كنتُ أسمع غيرَ مصدّقةٍ أنّي أعيش تلك اللحظات حقيقةً. كانت رزان جميلةً، وتتحدّث بطلاقةٍ ومحبّةٍ وصدق. تبدو طفلةً لمن يراها، لكنّ حديثَها عتيقٌ كقِصّتها. شعرُها قصير كستنائيّ مموَّج. لها غرّةٌ فوق جبينٍ عريض. عيناها واسعتان، في إحداهما انحناءةٌ نحو الأسفل تجعلها تبدو مغمضةً أو أصغرَ من عينها الأخرى. أخبرتني أنّها رأتني حين صدمتني السّيّارة. وحين أبديتُ استغرابًا ردّدتْ: " أنتِ لا تفهمين."

قالت إنّ جدّتي سيّدة طيّبة، لكنّ أكلَها لا نكهة فيه، وأنّها تطعمُه الكلابَ التي تزورها. ضحكنا؛ فأنا لم أكن أحبُّ طعامَ جدّتي، ومنذ توفّي والدايَ في حادثة الطّائرة وأنا مجبرةٌ على السَّكنِ معها وتحمُّلِ رداءةِ طعامها.

سمعتُ أجراسَ الكنيسة المجاورة تدقّ، وصيحاتِ الجيران تنبعث من خلف الشبابيك في الطوابق العلْويّة والبناياتِ المجاورة، معلنةً العدَّ التّنازليَّ لبدء العام الجديد. تنبّهتُ إلى الوقت، وخفتُ من تأنيبِ جدّتي.

ودّعتُ رزان. قالت إنّها ترغب في رؤية الاحتفالات. تقدّمنا معًا نحو العتبة. شعرتُ أنّي لا أريد مفارقتَها، وشعرتُ أنّها تريد البقاءَ معي وقتًا أطول. أمسكتْ يدي. لفح الهواءُ وجهي باردًا طريًّا كأنّه نسيمُ الرّبيع.

نظرتُ إلى وجه رزان، فلم أجدْه. خلتُها دخلتْ إلى البيت من دون أن أنتبه. تلفّتُّ فلم أجد العجوزَ مستلقيةً كما كانت. أدرتُ وجهي أبحثُ في المكان على ضوء الألعاب النّاريّة. مرآة مكسورة في الزاوية، يتراقص فيها ضوءُ الشَّمعة الخافت. وشمي الأخضر فوق عيني. مددتُ يدي ألتقط العصا التي تتعكّز عليها؛ كان دفءُ يدها هناك.

مشيتُ خارجًا، فإذا فستانُها ينتفخ، ويعلو ويهبط. لحقتُها. ناديتُها. ظلّت تمشي نحو البحر وأمشي نحوه.

صيدا

وداد طه

روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.