خطاب د. جورج حبش، 1970/6/12، عمّان، فندق جوردان انتركونتينتال ــ ملفّ
27-03-2017

 

ترجمة: محمد منصور

تقديم: خالد بركات

 

تُعتبر كلمة "الحكيم" جورج حبش التي وجّهها إلى الرهائن الأجانب المحتجزين في فندق جوردان انتركونتينتال في عمّان في 12/6/1970 وثيقةً مهمّةً تكشف لنا عن جوهر أهداف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين من القيام بـ"العمليّات الخارجيّة،" وتشكّل جوابًا مُكثفًا على الأسئلة المركزيّة التي أرادت "الجبهة" طرحَها على العالم في تلك الفترة: من هم الفلسطينيون؟ مَن يقاتلون؟ ولماذا يقاتلون؟

ولا يكشف خطابُ "الحكيم" عن دماثة أخلاق هؤلاء الثوريين الفلسطينيين فقط، واحترامِهم للكرامة الإنسانيّة وحسب، بل يكشف أيضًا عن عقلٍ فلسطينيّ يملك القدرةَ على فهم "العقليّة الغربيّة الليبراليّة،" ويعرف كيف تفكّر، ويَفهم المداخلَ إلى التأثير فيها .

يؤسِّس حبش خطابَه، منذ البداية، على فكرةٍ بسيطة، يفهمها هؤلاء "الضيوفُ" الأجانبُ جيّدًا، وتقول:

نحن شعبٌ يعيش واقعًا غيرَ واقعكم، ونحيا شروطًا لم نخترْها، بل هناك قوًى دوليّة وغير دوليّة مسؤولة عن هذا الوضع؛ وعليه، فمن الطبيعي ألّا يفكّر شعبُنا مثلَكم. وهذه قصتنا، باختصار شديد، نقدّمُها إليكم، مع شعورنا بواجب تقديم الاعتذار عن أيّ إزعاج سببناه لكم. غير أنّ العالم لم يترك أمامنا أيّة خيارات بديلة لإسماع صوتنا!

واذا كان الدكتور وديع حدّاد مسؤولًا عن هندسة هذه "العمليّة" وتنظيمِها وإدارةِ تفاصيلها وما يتعلّق بالجوانب اللوجستيّة والمفاوضات وغيرها ، فقد كان الحكيم هو المسؤولَ السياسيَّ عن إدارة العمليّة، ومخاطبةِ الرهائن، وتوجيهِ الرسائل السياسيّة إلى الدول والأطراف المعنية. أمّا الشهيد غسّان كنفاني فكان المسؤول عن تظهير مواقف "الجبهة" ونشرِها ومخاطبةِ الصحافة العربيّة والأجنبيّة.

خالد بركات

***

 

الساعة الخامسة صباحًا، 12 حزيران، 1970.

أيّتها السيّدات، أيّها السادة،

أشعر أنّ من واجبي أن أشرحَ لكم لماذا فعلنا ما فعلناه.

طبعًا، من منظورٍ ليبراليّ، أشعرُ بالأسف لما حصل، وأنا آسفٌ لما سبّبناه لكم من متاعب خلال اليوميْن الماضييْن أو الأيّام الثلاثة الماضية.

لكنْ، إذا وضعنا ذلك جانبًا، فإنّني آملُ أن تتفهّموا، أو على الأقلّ، أن تحاولوا أن تتفهّموا، لماذا فعلنا ما فعلناه.*

قد يَصعب عليكم أن تتفهّموا وجهةَ نظرنا؛ فالناس الذين يعيشون في ظروفٍ مختلفة يفكّرون بطرقٍ مختلفة. والظروف التي نعيش في ظلّها، نحن الشعبَ الفلسطينيّ، منذ عددٍ لا بأس به من السنين، قد ساهمتْ في صياغة طريقةِ تفكيرنا. لم تكن أمامنا خياراتٌ. يمكنكم تفهّمُ طريقة تفكيرنا حين تدركون حقيقةً أساسيّةً جدًّا، [وهي أنّنا]، نحن الفلسطينيين، وعلى مدى الاثنين والعشرين عامًا الماضية، نعيش في خيام، ونسكن في مخيّمات. لقد طُرِدنا من بلدنا، من منازلنا، من أراضينا. اقتُدنا كالغنم، وأُودِعنا هنا، في مخيّمات للاجئين، في ظروفٍ ــــ هي بحقٍّ ــــ غيرُ إنسانيّة.

طوال اثنين وعشرين عامًا، انتظرَ شعبُنا استرجاعَ حقوقه. لكنّ شيئًا من ذلك لم يحصل. منذ ثلاثة أعوام، أصبحت الظروفُ ملائمةً، وتسنّى لشعبنا امتشاقُ السلاحِ للدفاع عن قضيّته، وللبدء في القتال من أجل استرداد حقوقه؛ لكي يعودَ إلى بلده، وليحرّرَ وطنه. بعد اثنين وعشرين عامًا من اللاعدالة، من اللاإنسانيّة، من العيش في المخيّمات، من دون أن يكترث بنا أحدٌ، نشعرُ بأنّ لنا كاملَ الحقّ في حماية ثورتِنا. فثورتُنا هي مرجعيّتُنا الأخلاقيّة. كلُّ ما يحافِظ على ثورتنا، ما يساعدُ ثورتَنا، ما يحمي ثورتَنا، هو الصواب. هو صائبٌ جدًّا، ومشرِّفٌ جدًّا، ونبيلٌ جدًّا، وجميلٌ جدًّا؛ ذلك لأنّ ثورتنا تعني العدالةَ، تعني استردادَ بيوتنا، استردادَ بلدنا، وذلك هدفٌ عادلٌ ونبيلٌ جدًّا. عليكم أخذُ هذه النقطة في الاعتبار. إذا شئتم التعاونَ معنا، بطريقةٍ أو بأخرى، حاولوا أن تتفهّموا وجهةَ نظرنا: نحن لا نستيقظُ في الصباح لنتناول فنجانًا من النسكافيه مع الحليب، أو لنقضيَ نصفَ ساعةٍ أمام المرآة ونحن نفكّر في السفر إلى سويسرا، أو في قضاء شهر من الإجازة في هذا البلد أو ذاك. ليس لدينا آلافُ الملايين من الدولارات كالتي لديكم في أميركا وبريطانيا. نحن نعيشُ كلَّ أيّامنا في مخيّمات. زوجاتُنا ينتظرنَ وصولَ الماء الذي قد يصل في العاشرة صباحًا، أو الثانية عشرة ظهرًا، أو الثالثة من بعد الظهر. نحن لا نستطيع أن نكون هادئين مثلَكم. لا نستطيع التفكيرَ مثلكم. نحن عشنا في هذه الأحوال، ليس ليومٍ واحد، ولا ليومين، ولا لثلاثة أيّام، ولا لأسبوع، ولا لأسبوعين، ولا لثلاثة أسابيع. ولا لعام، ولا لعامين... بل لاثنين وعشرين عامًا. لو أتى أيٌّ منكم للعيش في هذه المخيّمات أسبوعًا أو أسبوعين، فسوف يتأثّر. سوف لن يستطيع التفكيرَ، أو إدارةَ أموره، من دون أن يتأثّرَ بظروف المعيشة تلك.

عندما انطلقتْ ثورتُنا قبل ثلاثة أعوام، جرت محاولاتٌ عديدةٌ لضربها.

الواقع أنّ كلَّ المنظّمات الفدائيّة التي انطلقتْ بعد حزيران عام 1967، وهو تاريخٌ معروفٌ جدًّا لديكم، قد وَضعتْ نصبَ أعينها الأرضَ المحتلّةَ [هدفًا لعمليّاتها]. لكنْ، عندما تمكّنت الثورةُ من الاستمرار، بدأ العديدُ من القوى ــــ المعادية ــــ بالتخطيط لهزيمةِ هذه الثورة. إنّ أميركا ضدّنا. نَعْلم ذلك جيّدًا. ونشعر بذلك جدًّا. شعرنا بذلك العامَ الماضي عندما ألقت طائراتُ الفانتوم "مساعداتِها." إنّ أميركا ضدُّ ثورتنا. هم [الأميركان] يعملون من أجل القضاء على ثورتنا. يعملون من خلال النظام الرجعيّ في الأردن، والنظامِ الرجعيّ في لبنان. لقد حاولوا في الرابع من نوفمبر 1968 القضاءَ على الثورة. في كلّ الأحوال، وفي خضمّ الأحداث هنا، فإنّ هدفَنا [لا يزال] هو الأرضُ المحتلّة. كانت تلك هي المحاولةَ الأولى في الرابع من نوفمبر 1968. المحاولة الثانية كانت منذ أربعة شهور، في العاشر من فبراير. وخلال الأسبوع المنصرم، شهدنا المحاولةَ الثالثة. في الواقع، المحاولات تتكرّر بشكلٍ يوميّ. وما هذه التواريخُ إلّا شواهد. كلّما استَعَرَتْ محاولاتُهم، تقدّمنا رجالًا، قّدمنا دماءً، قدّمنا تضحيات. في العاشر من فبراير، كان هناك ما يقارب خمسين ضحيّةً، على أقلّ تقدير. في ما يخصّ هذه المحاولةَ الثالثة، من قِبل النظام الرجعيّ للقضاء على الثورة (والناس الذين يعيشون هنا، في الأردن، يدركون هذا جيّدًا)، فإنّ هذا النظام الرجعيّ هو مَن بدأ ذلك. أيُّ شخصٍ يعيش في الأردن يعلم ذلك جيّدًا. لا نستطيع  بناءَ ثورتنا على أكاذيب. إنّا هنا أسردُ حقائق.

يومَ السبت الماضي، حصل حادثٌ، هنا في عمّان. يومَ الأحد، حصل حادثٌ في الزرقا. وبعدها شهدتِ الأمورُ تصعيدًا. هذه المرّةَ، شعرنا ــــ ولأكنْ صريحًا معكم ــــ أنّ هذه المحاولة أرادها النظامُ أن تكون الأخيرة. وأنا أعني أنّنا شعرْنا أنّهم مصمّمون على القضاء على الثورة مهما كان الثمن. هنا، شعرْنا أنّ لنا كلَّ الحقّ في العالم بأن نحميَ ثورتَنا. استذكرْنا كلَّ المآسي، كلَّ الظلم، استذكرنا شعبَنا والظروفَ التي يحيا فيها، اللامبالاةَ الباردةَ التي نظر بها العالمُ إلى قضيّتنا. وهكذا شعرْنا بأنّنا لن نسمح لهم بتدميرنا.

أنتم لستم أفضلَ من أبناء شعبنا.

في الأحداث الأخيرة، بلغتْ خسائرُنا خمسمائة شهيد، على الأقلّ. صدّقوني، على الأقلّ. في الأمس، كنتُ في مشفًى واحد فقط، فأخبرني الأطبّاءُ أنّ لديهم 280 جريحًا، وستّين قتيلًا (شهيدًا). ستّون قتيلًا (شهيدًا) من المقاتلين.

أيّتها السيّدات، أيّها السادة،

أشعرُ بالارتياح الآن لأنّنا لم نُحشرْ في الزاوية، ولم نضطرَّ إلى تنفيذِ ما عقدنا العزمَ على فعله في حال سير الأمور في ذلك الاتّجاه. أعرفُ طريقةَ التفكير الليبراليّة، أعرفُها جيّدًا. أعرفُ شدّةَ صعوبة إقناعكم. أعرفُ أنّ بعضَكم سيقول الآن: "وما شأني أنا بهذه الأمور؟ إنّ ذلك مجحفٌ كثيرًا، وغيرُ عادل أبدًا، ومؤذٍ، وأنانيّ." حسنًا، إنّ الأوضاع التي يعيش فيها الناسُ هنا ــــ في الواقع ــــ هي التي تحدِّد طريقةَ تفكيرهم ومرجعيّتَهم الأخلاقيّة. لقد بذلنا كلَّ ما في وسعنا ــــ وأرجو أن نكون قد وُفّقنا في ذلك ــــ خلال وجودكم في هذا الفندق برعاية الجبهة من أجل أن نقدّمَ إليكم أفضلَ ما نستطيعه من حسن المعاملة. هذه أوّلُ مرّةٍ ندير فيها فندقًا. رجالُنا يُجيدون القتالَ بامتياز، أنا متأكّد من ذلك، لكنّي لا أعرف كم يجيدون إدارة الفنادق! لكنّ التعليمات كانت واضحةً تمامًا. وأرجو أن يكونوا قد وُفّقوا في ذلك.

أعتقدُ أنّنا قمنا بمساعدتكم دائمًا عبر محافظتنا على أعصابنا. قبل يومين، قُصِف مخيّمُ الوحدات على مدى نصف ساعة. يستطيع أيٌّ منكم الذهابَ إلى مخيّم الوحدات، وأن يعاين المناطقَ التي استُهدفتْ. من الطبيعيّ جدًّا أن نبدأ التفكير بتنفيذ الردّ. لكنّنا حافظنا على أعصابنا بقوّة.

أيّها السيّدات والسادة،

اعذروا لغتي الإنكليزيّة. وفي الجانب الشخصيّ، دعوني أقُلْ إنّني أعتذرُ منكم. أنا آسفٌ لمتاعبكم خلال الأيّام الثلاثة أو الأربعة الماضية. لكنْ، من وجهة نظر ثوريّة، فإنّنا نؤمن، وسنبقى نؤمن، بأنّ لنا كاملَ الحقّ في أن نفعل ما فعلْناه.

شكرًا جزيلًا لكم.

د. جورج حبش

* في بداية يونيو 1970 شنّ طيرانُ النظام الأردنيّ غاراتٍ وحشيّة ومكثّفة على المخيّمات، ما اضطرّ "الجبهة" بعد أيّام إلى احتلال فندق فيليدلفيا، إضافةً إلى الفندق الذي وجّه منه الحكيم كلمته (جوردان انتركونتينتال) واحتُجز من فيه من أجانب.