الحراك اللبناني: الحل والآليات المقترحة
14-11-2019

 

لا يمكن الحديثُ عن حراك عامٍّ في العالم العربيّ من دون الوقوف عند الأسباب الموضوعيّة (الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة) التي أفضتْ إليه. ولا نستطيع أنْ نتحدّثَ عن حراكٍ عامّ من دون التحدّث عن محاولة بعض السفارات الاستفادةَ منه.

لذلك، في كلّ حراكٍ عامّ، علينا ألّا نُهملَ التناقضَ الأساسَ: بين مسألة الحقوق (الحيّز الموضوعيّ لأيّ حراك)، ومسألة الهيمنة (الأقل حضورًا ولكن الأكثر فاعليّةً). والأخيرة غالبًا ما تكون أصلَ البلاء.

تعتاش الهيمنةُ على الإفساد والفساد. وبالتوازي، تعتاش أيضًا على ركوب موجات الغضب متى سنحتْ لها الفرصة. يبدّل الأمريكيّون (وهم على رأس هرم الهيمنة الليبيراليّة) أوراقَهم متى ترنّحت السلطةُ أو عجزتْ عن ضبط غضب الفقراء. هذا ما يفعله "القتَلةُ الاقتصاديّون"[1] حين يبدأون بإفساد الطبقة الحاكمة، مرتكزين على الثواب والعقاب: كنْ فاسدًا، أو تخسرِ الحكمَ عبر انقلابٍ أو اغتيالٍ أو غزوٍ عسكريّ (بولندا، نهايةَ الثمانينيّات، كانت شاهدةً على التدخّل الأمريكيّ بالاستفادة من حالة الغليان الشعبيّ؛ أوكرانيا 2005؛ مصر 2011؛ فنزويلا 2019؛ والقائمة تطول). وحين تفسد المجموعةُ الحاكمة، يبدأ البلدُ بالغرق في الدَّيْن، حتى يعجزَ عن التسديد، فتأتي الشركاتُ العابرةُ للقارّات لتستحوذَ على مرافقه الحيويّة، ثمّ تبدأ بنهب مقدّراته، فيخسر السيادةَ الوطنيّةَ، ويصبح مرتهنًا للخارج.

 

الحالة اللبنانيّة

في لبنان أكل الفسادُ كلَّ شيء، وفاقت خدمةُ الدَّيْن العامّ سنة 2019 ثلاثة مليارات دولار. ومع ذلك لم تجْرِ أيُّ مراجعة للسياسات الماليّة والنقديّة في البلاد، ما أدّى إلى تردّي الأوضاع المعيشيّة. فتلك الطغمةُ الحاكمة لا تريد أن تدفع الدَّيْن العامّ إلّا على حساب الفقراء. ثم رأينا العجزَ في الموازنة العامّة، فلم ترَ هذه الطغمةُ حلًّا إلّا من خلال ضرائب غير مباشرة (أي الضريبة على القيمة المضافة) تطول الطبقةَ الوسطى والفقيرة بشكلٍ رئيس. ونتيجةً للفساد أيضًا تآكلت التقديماتُ الاجتماعيّة والخدماتُ العامّة؛ فلا مدارس رسميّة يمكن التعويلُ عليها، ولا مستشفيات، ولا نقل،...

لقد وصل التمادي بالسلطة إلى إنْ أعلن وزيرُ الاتصالات في الحكومة المستقيلة ضريبةً على الواتساب، فانفجر غضبُ الشعب، واستحالت الشوارعُ في غضون أيّام إلى موجٍ بشريٍّ تنوء بحمله الطبقةُ السياسيّة.

 

في لبنان فاقت خدمةُ الدَّيْن العامّ سنة 2019 ثلاثة مليارات دولار

 

مطالبُ الشعب محقّة بالتأكيد، ولكنّ المؤامرة ممكنة أيضًا. فالأمريكيّ لن يترك هذه الفرصة تضيع وسيحاول الاستفادةَ منها.

 

ثلاثة سيناريوهات

- السيناريو الأول: تعيد السلطةُ بناءَ نفسها عبر إرساء توازنات جديدة تتيح توسيعَ قاعدة النظام اقتصاديًّا، واحتواءَ تناقضاتها، وتشكيلَ ستاتيكو المحاصصة والمنافع. لكنْ دون ذلك خرقُ القتاد. وهذا السيناريو موقّت بطبيعة الحال، لأنّ الانفجار سيعود بشكلٍ أكبر بعد فترة قصيرة.

- السيناريو الثاني: أنْ يتفاقم الوضع، فتتّجه الأمورُ نحو الفراغ، وينكشف لبنان بالمعنييْن الأمنيّ والسياسيّ. وهذا السيناريو يمكن أن يتقاطعَ وتطلّعاتِ ترامب، ومن خلال جماعات متعدّدة تجد أنّ ثمّة مصلحةً في إتمام صفقة القرن بتسعير التناحر الطائفيّ والعرقيّ في لبنان والمنطقة.

- السيناريو الثالث: أنْ يحقّق الثوّارُ مطالبهم، وأنْ ينكسر الستاتيكو الطائفيّ.

لكن مهلًا؛ ما هي مطالب الثوّار؟ طبابة، تعليم، سكن، نقل، خفض الأسعار، كهرباء، ماء، حماية الغابات، ضمان شيخوخة،...؟

يختلف الشعب في ترتيب الأولويّات، ويتّفقون على مطلبٍ واحد: البدء بالتغيير. لكنّ السؤال يظلّ مراوحًا: مِن أين يبدأ التغيير؟

إنّ في الرهان على انتخابات مبكّرة الكثيرَ من المجازفة. للعلم فقط، لقد مدّدتْ هذه السلطةُ لنفسها في السابق وعند كلّ استحقاقٍ شعبيّ، وعلى مدى خمسةٍ وعشرين عامًا، فمِن أين سيأتي التغيير؟ الانتخابات مَقتلٌ يعيد إنتاجَ الطغمة نفسها، ولو تغيّرت الأسماء. المشكلة تكمن في البنية، لا في الأشخاص. إنّ هذه البنية تلفظ أصحابَ الأيدي النظيفة وتُفْسدهم (سليم الحصّ ونجاح واكيم، وغيرُهما، خيرُ مثال على الإقصاء الذي مارسته هذه السلطةُ تجاه هذه الأيدي). أمّا من بقي في السلطة مستمسكًا بها، فسيظلّ بالنسبة إلينا محطَّ سؤالٍ ومساءلة. إنّ غياب الشفافيّة يجعلنا نقول "كلّن يعني كلّن!" فهذه البنية تجعل مَن في داخلها فاسدًا أو – في الحدّ الأدنى – ساكتًا عن الفساد.

 

الحلّ؟

الحلّ يكمن في كسر هذه البنية. وهو يبدأ من: 1) نظام ضريبيّ عادل يتيح إعادةَ توزيع المداخيل. 2) استعادة المال المنهوب، وتعزيز قوانين الشفافيّة، ومنع الفساد اللاحق عبر إقرار القوانين المرميّة في الأدراج. 3) تعزيز استقلاليّة القضاء. 4) إجراء انتخبات في ظلّ قانون نسبيّ خارج القيد الطائفيّ، مع إقرار لبنان دائرةً واحدة.

للوصول إلى هذا الحلّ، يجب أوّلًا فهمُ طبيعة هذا النظام. إنّ نظامَنا ليس نظامًا ديكتاتوريًّا؛ وهذه نقطةُ قوّةٍ وضعفٍ له في آن. إنّه نظامٌ أوليغارشيّ. وهو أيضًا نظامٌ قادرٌ على أن ينقسمَ على نفسه، وأن يُشْعل حربًا أهليّةً إلى أن تعود أطرافُه لتشكّل ستاتيكو جديدًا بُعيْد انتهاء الحرب، فيدفعَ الشعبُ ثمنَ هذه الحرب كما حصل في الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 - 1990). لذا وجب علينا تشكيلُ مجموعةٍ عابرةٍ للأحزاب والطوائف والإيديولوجيات، هدفُها تحقيقُ هذه المطالب الأربعة.

 

الآليّات

- الضغط على النوّاب ودفعهم إلى الذهاب إلى جلسة نيابيّة منقولة على الهواء مباشرةً، للتصويت بشكلٍ علنيّ على القوانين والمطالب المذكورة. وفي هذه الحالة سيعرف الجميعُ مَن الصالح ومَن الطالح.

- الضغط على مجلس النوّاب كي يعدّلَ القوانين، ويُقرَّ بالقانون النسبيّ خارج القيد الطائفيّ مدخلًا إلى كسر النظام الطائفيّ الذي يحمي الفسادَ والمفسدين.

- الضغط على المفاصل الضعيفة الفاسدة، كميقاتي والسنيورة، ومن يحميهم من قضاة، ورفع الضغط للوصول إلى قضاءٍ مستقلّ.

- الإضاءة على المخالفات الواضحة، مثل الأملاك البحريّة، واسترجاعها مع مفعولٍ رجعيّ.

- رسم مسار من التعاون بين الثورة والشخصيّات القضائيّة المستقلّة، أو النزيهة، للعمل في بعض الملفّات الواضحة التي لا تحتمل الالتباس. وهذا يصبّ في ترشيد عمل الثورة وتثميره، وتعزيز دور القضاء النزيه، ودفعه إلى أخذ زمام المبادرة من دون الخوف من السياسيين.

بيروت


[1]  من وحي كتاب جون بيركنز، الاغتيال الاقتصاديّ للأمم، اعترافات قرصان اقتصاد (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2004).

فيصل صفير

مجاز في الاقتصاد، وناشط في المجتمع المدنيّ، ورئيس جمعيّة شباب.