أسود، أحمر، تقرير
10-02-2020

 

نظرت السيّدة سلوى إلى لمستها الأخيرة على الورقة التي تطبعها عبر الكمبيوتر. ابتسمتْ برضًى. عدّلتْ من وضع جاكيتتها، فزمّتها نحو كتفيها. لكنّ حجم معدتها الكبير لم يسمح لها بأن تقفل الأزرار، فاكتفت بإمساك جاكيتتها من الأسفل، وليّ رقبتها نزولًا في الياقة. كبستْ بثقة زرّ الإرسال. أغلقتْ شاشة الكمبيوتر، فأفلتت الجاكيت.

أنهت الحصّتين الأولييْن بنجاح. أعطت التّلامذة ما يفعلون، وغرقت في ياقة الجاكيت بعد أن ثبّتتْ يدَها أسفلها بإحكام. بقي لديها اجتماع وتنهي يومَ عملٍ بات سهلًا منذ أصبحتْ مشْرفة. كانت قد وعدتْ نفسها بأن تكون النّجمةَ في حفل الغداء الذي تقيمه الجمعيّة. في حفل السّنة الماضية، نافستْها تلك الفتاةُ العشرينيّة التي انضمّت إلى فريق العمل سكرتيرةً لرئيس الجمعيّة، ولكنّها لم تستمرّ في منصبها إلّا لشهرين." كانت صاحبتَه الجديدة": هذا ما أكّدته عضواتُ الجمعيّة متغامزات.

خرجت السيّدة سلوى من غرفة الاجتماع مستعجلة. لم تتكلّم كثيرًا؛ فقد توافقتْ والمديرة على أنّ ما كتبتْه في تقريرها خطير ويحتاج معالجةً فوريّة كي تُجنّبا المدرسة تلك الكارثة. أنهتا الاجتماع، وطلبتا إلى المعلّمة التي كُتب فيها التقريرُ أن تنصرف.

حفلُ اليوم سيعيد إليها شعورًا حميمًا. اشترت فستانًا أحمرَ قصيرًا، اختارته لها ابنتُها التي سافرتْ منذ أسبوع إلى فرنسا لتكمل دراساتِها العليا. شعرتْ بالجوع، لكنّها غالبتْه كي لا ينتفخَ بطنُها. وقفتْ أمام المرآة بملابسها الداخليّة. كم تحبّ بشرتَها البيضاءَ اللامعة! لطالما كانت أجملَ صبيّة في المدرسة. أحبّها الجميع وطلبوا ودّها. ولطالما ردّدتْ ذلك على مسامع زوجها قبل الطّلاق.

لم يكن عليها أن تستعجل، بل حرصتْ على أن تصل متأخّرة، لا لأنّها تكره العملَ في الجمعيّة. على العكس؛ فالسيّدة سلوى تشعر أنّ عملها في المدرسة يحتاج إلى فعلٍ خيريّ كي يبدو مرموقًا. "وصل معظمُ الضيّوف،" قالت لها إحدى الصديقات عبر الهاتف وهي تسأل عنها. تحرّكت السّيّدة سلوى ببطء. ذلك الكعب العالي يمنعها من التنفّس. شعرتْ وهي تغلق بابَ البيت بأنّها رأت شيئًا يمرّ. لم تكترثْ وطلبت المصعد. في بهو العمارة، لمحتْ طيفًا أسود سريعًا. توقّفتْ لحظات، ثمّ تابعتْ نحو سيّارتها السوداء الضخمة.

كان أوّلَ ما بحثتْ عنه عيناها الزّرقاوان طيفُ السّكرتيرة الجديدة. كانت قد سمعتْ أنّها متوسّطة الجمال. حالت سحبُ الدّخان الكثيفة وكثرةُ الرّؤوس دون أن تلمحَ وجهًا جديدًا. استمعت السّيّدة سلوى إلى كلمة الرّئيس، وكان عليها أن تلقي كلمةً لكونها نائبَ الرّئيس.

اعتلت المنبر. شعرتْ من جديد بطيف أسود، لكنّه هذه المرّة اعتلى معها المنبر ثمّ وقف إلى جانبها. سارعتْ إلى البدء بكلمتها التي ضمّنتها كلامًا عن إنجازاتها الشّخصيّة الكثيرة وإنجازات الجمعيّة في ميدان الدّفاع عن حقوق المرأة: " لقد ناضلنا جميعًا من أجل تغيير الصّورة النّمطيّة عن المرأة، وساعدنا كثيراتٍ على تعزيز مواقعهنّ في المجتمع، وأنشأنا قسمًا خاصًّا لدعم النّساء ذوات التّحصيل العلميّ المتواضع، وساهمنا في تمكين المرأة..."

شعرت السّيّدة سلوى بنشوة وهي تردّ على عبارات الثّناء بينما كانت تعود إلى كرسيّها. كان التّصفيق حارًّا وعاليًا. نسيت تمامًا أمر الطّيف تمامًا، وجلست في كرسيّها. ردّت على بعض الابتسامات بابتسامات سريعة. كان فستانُها الأحمر القصير، والمشدُّ الذي ارتدته تحته، يضغطان بشكلٍ مرعبٍ على قفصها الصّدريّ. وقفتْ تحاول أن تأخذ نفسًا، فقال لها صوتٌ مألوف وهو يسحب كرسيًّا: "إلى أين سيّدة سلوى؟"

-  شيرين، ماذا تفعلين هنا؟

- لقد تسلّمتُ اليوم مهامّي كسكرتيرةٍ للرّئيس.

بهتت السيّدة سلوى. شعرتْ بدوار مفاجئ. "كيف؟ هل قدّمت استقالتَها من المدرسة بعد ما كتبتُه في تقريري؟" راحت تدور حول نفسها: "أبعدوه، أبعدوه عنّي، هذا الشّبح الأسود يقتلني!" كانت تلك آخرَ كلمات سمعها الحضورُ، الذي رأى السّيدة سلوى ترتمي فوق الأرض وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة، ثمّ ترتخي سيقانها تحت فستانها الأحمر القصير.

صيدا

وداد طه

روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.