على وقع الحراك الشعبي اللبناني: تأمّلاتٌ في الثورة والفلسفة
13-11-2019

 

الثورة هي الحريّة الحيّة. شعارُها لا يسبقُ فعلَها؛ فما يسبق فعلَها هو الركودُ، الذي قامت لنقضِه.

الثورة ليست صراخًا فحسب، وإنّما خطابًا هادئًا أيضًا يُحْرج المتخلّفين عنها.

 الثورة هي التي يحسبُها خصمُها شعلةَ نارٍ لا بدّ من أن تنطفئ بعد فورة الشارع، فإذ بها تهزمُه بسرعة انفلاشها في العقل.

ثورةُ لبنان ليست تجاوزًا لفظيًّا للطائفيّة والمذهبيّة والمحسوبيّة والحقد فحسب، بل هي أيضًا مفهومٌ أنموذجيّ آخر للعيش، لا يفهمه مَن لا يرضى التخلّي عن المنظومة القائمة البائدة.

ليس صحيحًا أنّ الإنسانَ لا يمكنُه تغييرُ إيمانه. في كلّ واحدٍ منّا غريزةُ الإيمان والتعصّب لِما هو عليه؛ لكنْ في كلّ واحدٍ منّا أيضًا غريزةُ الانقلاب على ذاته، لأجل ذاته، بشرطِ أن يرى كثيرين يفكّرون مثلما يفكّر. لذا، فإنّ الثورةَ إيمانٌ جديد، يحقِّقه حشدٌ جماهيريّ في الشارع، حيث تجد الغريزةُ متنفَّسَها في صورةٍ جديدة.

متانةُ الثورة هي في تعزيز الثقة بالفكر الجديد.

تنتصر الثورةُ عندما يبدأ أعداؤها يشوّهونها.

يصوّر الحاكمُ الشارعَ بأنّه مجموعةٌ من الناس البسطاء الجياع، فيتحدّث في خطابات التهدئة عن "توفير الأكل والشرب والطبابة..." كأنّها - في ذاتها - أهدافٌ سامية. غير أنّ الثورة هي فعلُ الكرامة! ينتفض الإنسان لأنّه يشعر بالإهانة، لا لأنّه يجوع فقط أو بالضرورة.
الثورة تعطي الفردَ أهمّيّتَه، فيشعر كلُّ واحدٍ فيها أنّه يمثّلها. وهذا يناقض شعورَه قبل أن يثور، إذ إنّه كان كلّما أحسّ بحاجةٍ إلى ذاته تَمثّل زعيمَه.

إنّ فكرة "القائد الملهَم" و"القائد الخالد" و"القائد الذي لا رأيَ من بعده" هي من المرحلة السابقة. لذا، لا ينتظرنّ أحدٌ اليوم معجزةَ القائد؛ فالقائد صناعةٌ، لا وحيٌ يُوحى.

أرقى ما في الثورة أنّ زمانَها لا يحتمل الوهمَ في تصوّر الآخر الثائر، بل تشعر أنّ الإنسان أخو الإنسان، بحيث يُلهِم تقاربُ الأجساد تقاربَ النفوس.

لا حدثَ يريك الدينَ في خدمة الإنسان إلّا الحدثُ الثوريّ.

الثورة هي التي تعيد علاقةَ الإنسان بالطبيعة. فمن ينظّفُ ساحاتِ الحَراك من القمامة، مقابلَ من يكدِّسُها في أحيائنا، إنّما يواجه وحشيّةَ السلطات التي حالت بين الإنسان والطبيعة ومنعته من الأكل منها والعيشِ فيها بسلام.

أكثرُ لحظات الثورة إرباكًا هي عندما يخطب أحدُ زعماء النظام القائم. ففي تلقّي خطابه امتحانٌ لجذريّة الثورة في نفوس مناصريه السابقين.

عندما تريد استقطابَ أحدٍ إلى صفوفك لا تسخِّفْ فكرتَه، بل عزِّز أهميّةَ ذاته بالنسبة إليه.

لا يظنّنّ أحدٌ أنّ عقيدةً ما غيرُ قابلةٍ للتغيير. وليس صحيحًا أنّ الإنسان لا يراجع أفكارَه في لحظة الحدث الثوريّ. على الثورة أن تمارس خطابَ الإقناع، وخطابَ الإيناس والألفة.

علينا التصرُّفُ بحكمةِ المنتصر، وحذرِ الخائف، وصلابةِ الثائر؛ أي التمسّك الوثيق بالشعار الشموليّ: #كلن_يعني_كلن.

إنّ قوّة الثائر في ساحة الاعتصام لا تتعزّز بالهتافات فحسب، بل بالمثقفين الثوريين أيضًا. حين تجد أنّ هؤلاء صامتون، فليس عليك إلّا أن ترفضَهم وتتجاوزَهم.

الفلسفة الحقيقيّة لا "تشْرح" الحدثَ الثوريَّ، بل تصنعه. هي تقرأ عقلَ الإنسان حيث يكون الآن، لا حيث كان مفروضًا عليه أن يكونَ قبل الثورة.

إنّ فلسفةً لبنانيّةً تقرأ المجتمعَ اللبنانيّ في وصفه مجتمعًا طائفيًّا إلى أبد الآبدين هي فلسفةٌ سخيفةٌ جدًّا لأنّها لا تخطِّط انطلاقًا من فعل الناس الجديد، وهو الثورة، بل تشرح بحذرٍ وريبةٍ من كلّ حركة. والفلسفة التي تخاف الحركةَ هي خطابُ التخلّف عينه، بينما الفلسفة التي تتماهى مع حركة الإنسان هي التي تنظِّر للأخلاق الجديدة.

هناك نوعٌ آخر من التفلسف في زمن الثورة، هو التنظيرُ بالشؤم القادم نتيجةً لِما يجري! وهذا لا يُعدّ تبصُّرًا وثيقًا ودراسةً علميّةً للمستقبل، بل هو أشبهُ برغاء المنجِّمين في حضرة الأباطرة، ولا يدلُّ إلّا على نفوس مريضة ترفض التغييرَ الجذريّ - - وأساسُه الحراكُ الشعبيّ.
على الثورة أن تبتكر الموقفَ الذي يبعثُها من جديدٍ كلّما خبت نارُها.
التغيير هو تحقيقُ إرادة الثورة بأفعالٍ لا يمكن التراجعُ عنها. أيُّ خطوةٍ لا تحقِّق تقدّمًا تجعل النفوسَ تنصاع إلى القائم. العقل الثوريّ يجب أن يبادرَ كلَّ لحظة بالجديد، لأنّ السكون حليفُ الحاكم.
لا يمكن أن يُجْمِع كلُّ الشعب على الثورة إذا اقتصرتْ في خطابها على أهدافها المبدئيّة. إنّ البيان اليوميّ هو الذي يستعيد النبضَ الشعبيَّ إلى الحياة.
الثورة هي معركةُ الذات مع ذاتها، لذا فهي أهمُّ من المعارك مع العدوّ الخارجيّ. إنّ معاركَ الوجود أصعبُ من معارك الحدود.

بيروت

خالد كمّوني

رئيس قسم الفلسفة في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة - الفرع الثالث، في الجامعة اللبنانيّة. عضو الهيئة الإداريّة لـ"الاتحاد الفلسفيّ العربيّ." له كتابان: المحاكاة: دراسة في فلسفة اللغة العربيّة؛ و فلسفة الصرف العربيّ: دراسة في المظهر الشيميّ للكينونة. هذا بالإضافة إلى عدد من الدراسات والمقالات المنشورة في مجلات فكريّة محكَّمة.