لغاتُ التدريس في المغرب: نحو تصوّرٍ مركّب (ملفّ)
15-01-2016

 

تعالت نداءاتٌ تَعتبر أنّ سرَّ اختلال منظومتنا التعليميّة يكمن في لغة التدريس، مطالبةً بالتخلّي عن سياسة التعريب، أو باعتماد اللهجات المغربيّة حرصًا على "المتَّصل اللسانيّ" بين البيت والشارع والمدرسة، أو الارتكانِ إلى التيّار الفرانكفونيّ المشتغل على "تحييد" اللغة العربيّة. هذه الدراسة تنظر إلى اختلال المنظومة التعليميّة في بلادنا من منظورٍ مركَّبٍ يضع الإشكالاتِ في سياقها، ويَقْبل جدلَ الفوضى/النظام لتأسيس التنظيم المُراد؛ كما يقبل التعدّدَ، غيرَ أنّه يستدعي الوحدةَ: فإذا كنا نؤْمن بالتعدّد في المسألة اللغويّة، فإننا نؤْمن أيضًا بضرورة عدم تعريض المجتمع لتمزّقٍ يدمّر أرضيّته الوطنيّة المشتركة.

 

1. الفكر المركّب

يبدو هزالُ الواقع التعليميّ للعيان على جميع المستويات: من فقدانٍ متدرّجٍ للقراءة والكتابة، إلى فقرٍ متصاعدٍ للتخييل والحجاج اللذيْن يَرْفدان العبارةَ ويُغْنيانها... وفي كلّ حينٍ نعيش على إيقاع هذه الاختلالات، التي تُوازيها سياسةُ "دعْه يعملْ" على مستوى اللغات في الحياة اليوميّة:

ـــ فالامتيازات والفرص متوافرةٌ للفرنسيّة بشكلٍ صريح، وبدعمٍ كبيرٍ من أجهزة الدولة، ومن اللوبيات الفرنكفونيّة الساعية إلى توطين اللغة الفرنسيّة وجعلِها الخيارَ الأوّل أمام المغاربة. خذ، مثلًا، البرامجَ التكنولوجيّة المعاصرة في الإدارات المغربيّة؛ فهذه برامج تستحوذ عليها الفرنسيّةُ، دونما اهتمام باللغة الوطنيّة الرسميّة (العربيّة) ولا باللغات الأخرى المؤثِّرة عالميًّا (كالإنجليزيّة).

ـــ  والإنجليزيّة مبتغًى لأنّ الجميع يَعرف قيمتها العالميّة من دون أن يجدَ لاكتسابها الجيّدِ سبيلًا، بفعل التدخّل السافر لخدّام الفرنكفونيّة لقطع الطريق عليها أو على كلّ لغةٍ أخرى توفّر للمغاربة فرصة الاستفادة من التعدّد.

ـــ  والعربيّة الفصحى تحظى بالمكانة على مستوى التشريع من دون أن تنالها في الواقع.

الامتيازات والفرص متوافرةٌ للفرنسيّة بشكلٍ صريح، وبدعمٍ كبيرٍ من أجهزة الدولة، ومن اللوبيات الفرنكفونيّة الساعية إلى توطين اللغة الفرنسيّة وجعلِها الخيارَ الأوّل أمام المغاربة.

ـــ  والعاميّاتُ ولجت القاعاتِ الدراسيّة، بل دخلتْها عربيّةٌ ممزوجةٌ بفرنسيّةٍ، وفرنسيّةٌ أو إنجليزيّةٌ مشروحتان بالعربيّة أو اللغات المغربيّة؛

ـــ والأمازيغيّاتُ نالت حظَّها تشريعًا وواقعًا ومازالت تُطالب بتحويل التشريع إلى وقائعَ أكبر، مستفيدةً من جوّ الحراك المفتوح على المطالب اللغويّة والثقافيّة.

ـــ  ولوحاتُ الإشهار بدارجةٍ مكتوبةٍ بحرفٍ لاتينيّ، حتى إذا أعوزها الحرفُ التجأتْ إلى الرقم؛ كلُّ ذلك بدعمٍ من قوى ضغطٍ تسرح وتمرح في مجالات الإعلام، همُّها الوحيدُ التخلّص تدريجًا من ألفة المتلقّي للسان العربيّ.

هذه الفسيفساء تتّسم بضآلة حسن التأليف، ولا تعكس انجذابًا واضحَ المعالم نحو لغةٍ بعينها. بل إنها تعكس، في بعض حالات "النضال اللغويّ،" التهكّمَ والازدراءَ، كالربطِ بين العربيّة من جهة، وعتاةِ الجاهليين أو أزمةِ التعليم أو قيمِ الاستبداد والانغلاق والتطرف من جهةٍ ثانية.

 

2. لغات التدريس: الواقع، الكلفة، الاقتراح

أ ـ لغة التدريس بين التشريع والمَعيش. يُقِرُّ دستورُ المملكة الجديد بالواقع اللغويّ التعدّديّ للبلاد، ويرسم سياسة لغويّة وثقافيّة لجميع المغاربة: فالعربيّة لغة رسميّة تضطلع الدولةُ بحمايتها وتطويرها؛ والأمازيغيّة لغة رسميّة كذلك، ورصيدٌ مشترك لجميع المغاربة؛ واللغة الحسانيّة واللهجات المغربيّة رصيدٌ وطنيٌّ تعمل الدولةُ على حمايته؛ مثلما تسهر على إتقان المغاربة للغات الأجنبيّة الأكثر تداولًا في العالم.

لكنّ هذه المرتكزات الدستوريّة لا تُحترم في الواقع المعيش. فبالرغم من انصرام سنواتٍ على إقرار الدستور الجديد، نعيش خرقًا لمقتضياته على لوحات الإشهار وقنوات التلفزيون وداخل قاعات الدروس.

ب ـ تعدّد لغويّ بكلفةٍ أقلّ. يقودنا التصوّرُ المركّبُ إلى القول إنّ لغة تدريسنا لا يمكن إلّا أن تكون متعدّدةً، تناغمًا مع معيشنا وتشريعنا. وهذا التنوّع مكلّف:

فهناك كلفةٌ تعترض الطفلَ وهو يكتسب ثلاثة رسومٍ من الكتابة، الأبجديّ والفينيقيّ واللاتينيّ.(1) وهناك حاجةٌ إلى أجرأةٍ رسميّةٍ للغة الأمازيغية لغةً لجميع المغاربة حسب الدستور، وتمكينِها من ولوج التعليم، وتحديدِ شكل هذا الولوج. وهناك حاجةٌ إلى اقتصاد التكاليف النفسيّة والمعرفيّة والاقتصاديّة؛ وهي حاجةٌ تدعو إلى اعتماد عربيّةٍ ميسَّرةٍ وذاتِ جاذبيّةٍ في التعليم، خصوصًا في المدرسة الابتدائيّة والثانويّة الإعداديّة والتأهيليّة. إنّ الذين يدعون إلى "تلهيج" المدرسة المغربيّة ينسوْن أنّ ذلك عملٌ مكلفٌ لموارد المملكة مادام الرصيدُ اللهجيّ الوطنيّ متعدّدًا يحتاج إلى مَعْيَرَةٍ وتقعيدٍ وأدواتٍ مرجعيّةٍ (مقرَّرات، كتب، وثائق إعلاميّة،...).

لقد دحض الفاسي الفهري(2) دعائمَ استدلال "دعاة تلهيج المدرسة،" مشيرًا إلى أنّ لغة التدريس ينبغي أن تكون ذاتَ جاهزيّةٍ لتحمُّل أعباءِ المصطلح والتجريد والقوانين العلميّة. وهذا أمرٌ غيرُ ميسَّرٍ للغات المغربيّة التي لم تخضع لآثار تجويد اللغة وتحسينها، ولكنّه ميسّر للعربيّة لكونها لغة حافظة للتاريخ وللآداب وللعلوم الشرعيّة والدنيويّة. كما دحض حجّةَ "الفطام المبكِّر" التي اعتبرها دعاةُ تلهيج المدرسة المغربيّة أساسَ استدلالهم نظرًا إلى آثاره البليغة في نفسية المتعلّم. ودحض، أخيرًا، حجّة الربط بين لغة الأمّ والاقتدار، بإشارته إلى أنّ خطيبًا مقتدرًا لا يعني بالضرورة أنّه فيزيائيّ مقتدر، والعكس صحيح.(3)

أما عبد الله العروي فلا يرى للمتّصل اللغويّ "بيت ــــ مدرسة" تأثيرًا نفسيًّا أو بيداغوجيًّا. وهو يذهب إلى أنّ المُدَرِّس يُعلِّم الأطفالَ أمورًا أخرى غيرَ لغته التي يتحدّث بها في البيت (قراءة، حساب،...).(4)

ج ـ الاقتراح. أقترحُ أن يكون التدريسُ بعربيّةٍ ميسَّرة، نظرًا إلى كون الكلفة أقلَّ، ولأنّ العربيّة جاهزة، وإنْ كانت في حاجةٍ إلى "جاهزيّةٍ أكبر" ستترتّب على تفعيل القانون وتنزيلِ مقتضيات النصّ الدستوريّ. وأقترح أن يُنزّل الدستور في ما يخصّ تدريسَ الأمازيغيّة وسبلَه. وأقترح أيضًا أن يكون التعليمُ منفتحًا على اللغات العالميّة، وبخاصّةٍ في الجامعات والمعاهدِ العليا، على ألّا تخضع هذه اللغاتُ لتراتبيّةٍ تعطي الفرنسيّةَ الصدارةَ مادام الكمُّ الهائلُ للمعارف وقيمتها العلميّة في مصلحة الإنجليزيّة. إنّها دعوة لتعدديّة غير صراعيّة، ونافعة، ومتفاعلة.

 

3. وحدة المتعدّد

إنّ التعامل مع المتعدّد باعتباره واحدًا، ومع الواحد بصفته متعدّدًا، يُنضج شروطَ تماسك المجتمع، ويُبعد شروطَ تمزّقه. مجالنا اللغويّ والثقافيّ متعدّد فعلًا، غير أنّ عبقريّة شعبنا قادرةٌ على تشييد وحدة هذه الفسيفساء. وإذا أزحنا اللغاتِ الأجنبيّة، التي هي لغاتُ تواصلٍ واكتسابِ معرفةٍ فقط، فلن نجد أمامنا سوى عربيّةٍ وأمازيغيّاتٍ وحسانيّةٍ ولهجاتٍ مغربيّة تناغمتْ تاريخيًّا، وبإمكانها مواصلة تناغمها ــــ استئناسًا بالتاريخ، أو حدًّا من التكاليف الباهظة، أو إذعانًا للمقتضيات القانونيّة، أو تماشيًا مع تمثّلات المواطنين ومعيشهم اليوميّ.

الدار البيضاء


(1) انظر موقفنا من اعتماد تيفيناغ لكتابة الأمازيغيّة وكلفته النفسيّة والمعرفيّة في: عبد الإله سليم، "التخطيط اللغويّ في المغرب: المتن الأمازيغيّ نموذجًا،" مقدّمات27/28، 2003، ص81-89.

(2) Fassi Fehri, A, «L'élite, les croisés-linguistes et les langues, »  Libération, Mardi 24 Août 2010(http://m.libe.ma/L-elite-les-croises-linguistes-et-les-langues_a13473.html).

(3) المصدر السابق.

(4) عبد الله العروي، سلسلة حوارات بجريدة الأحداث المغربيّة، أدارها: المختار لغزيوي وجمال زايد، الأعداد 5132-5136، 2013.

 

عبد الإله سليم

أستاذ جامعي ومؤلّف من المغرب، له العديد من الدراسات المنشورة والكتب، منها: بنايات المشابهة في اللغة العربيّة.