الضم والخنق الاقتصادي: في تكامل المشروع الصهيوني ــــ الأميركي
17-09-2020

 

 

ندوة رقميّة من تقديم وإدارة: سماح إدريس. تنظيم: حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان و"حركة المخيّمات تقاطع".

المشاركان (ألفبائيًّا): حسن مقلّد، منير شفيق.

سماح إدريس: أرحّب بالمشاهدين الكرام باسم حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان و"حركة المخيّمات تقاطع،" من بيروت المحاصَرةِ بالعتمة والفساد. هذه تجربتُنا الرقميّةُ الثانية في زمن الجائحة. الندوة السابقة كانت عن "الأسرى والعملاء،" واستضفنا الأسرى المحرَّرين من السجون الإسرائيليّة: أنور ياسين، وكفاح عفيفي، ونبيه عواضة. واليوم نتناول مشروعَ "الضمّ" و"قانونَ قيصر لحماية المدنيّين السوريّين."

ضيفانا اليوم هما الأستاذان منير شفيق وحسن مقلّد. منير شفيق (أبو فادي) مفكّر عربيّ، ومناضل فلسطينيّ عريق. ألّف عدّة كتب عن الثورة الفلسطينيّة، والوحدة العربيّة، والفكر الإسلاميّ، وقضايا التنمية والاستقلال، والنظام الدوليّ الجديد. هو أخ كبير لي على المستوى الشخصيّ، ومُلهمٌ كبيرٌ لأجيال من الشباب والمقاومين الفلسطينيين والعرب على المستوى العامّ. أمّا حسن مقلّد، فهو خبيرٌ اقتصاديّ وماليّ لبنانيّ، ورئيسُ تحرير مجلة الإعمار والاقتصاد، والأهمّ ربّما أنّه صوتٌ مزعجٌ للفاسدين والسارقين.

لا نعرف الكثيرَ عن "خطّة الضمّ" الإسرائيليّة. كان يُفترض أن يُعلَن عنها بدايةَ تمّوز/يوليو 2020، لكنْ لم يحدث ذلك، ربّما لسببين:

1) ما يُزعم عن قرار نتنياهو "التشاورَ" مع ترامب قبل إقرار الخطّة، علمًا أنّها تتوافق أصلًا مع "صفقة القرن" التي أَعلن عنها ترامب بداية هذا العام (2020).

2) رفْض بعض دول العالم (بريطانيا مثلًا) لها بسبب مخالفتها القانونَ الدوليّ. الجدير ذكرُه هنا أنّ حوالى 1100 نائب أوروبيّ وقّعوا رسالةً ضدّ "الضمّ،" بينهم 240 نائبًا من بريطانيا وحدها. واللافت أنّ مَن أعدّ الرسالة لم يكن يساريًّا أو قوميًّا عربيًّا مثلًا، بل الرئيس السابق للبرلمان الإسرائيليّ، أبراهام بورغ.

غير أنّ ما نعرفُه، مع ذلك، هو أنّ الخطّة الإسرائيليّة تشمل ضمَّ ما لا يقلّ عن 30% من الضفّة الغربيّة، وذلك عبر سيناريوهاتٍ تتراوح بين ضمّ غوْر الأردن (فيه حوالى 11 ألف مستوطن)، أو ضمّ الغوْر والمستوطنات "غير القانونيّة" (فيها حوالى 400 ألف مستوطن)، أو ضمّ الكتل الاستيطانيّة الرئيسة (فيها حوالى 85 ألف مستوطن إسرائيليّ)، بما يؤدّي إلى فصل أقسام من الضفّة الغربيّة عن القدس وبيت لحم وإلى خلق جيوبٍ إسرائيليّةٍ داخل أيّ "دولةٍ فلسطينيّة" عتيدة.

في هذه الأثناء (ويا للمصادفة!)، دخل "قانونُ قيصر" حيّزَ التطبيق مع سريان مفعوله منذ 17 حزيران (يونيو) 2020، وتمتدّ مفاعيلُه حتى العام 2024، وهدفُه معاقبةُ الولايات المتحدة للنظام السوريّ بسبب "انتهاكه حقوقَ المدنيّين المعتقَلين." غير أنّ معظمَ بنوده تُظْهر أنّه لا يستهدف الآليّاتِ العسكريّةَ فحسب، وإنّما يستهدفُ أيضًا عمليّةَ إعادة بناء سوريا، ومراقبةَ المصرف المركزيّ السوري، ومتابعةَ عمل القوى الخارجيّة الداعمة للنظام -- وتحديدًا روسيا وايران وحزبُ الله. سُمّي "قانون قيصر" بذلك، كما قيل، نسبةً الى مصوِّرٍ سوريٍّ سَلّم الكونغرس 50–55 ألف صورة عن تعذيب المعتقلين في سوريا (11 ألف معتقل قضوْا تحت التعذيب على ما ذُكر)، بين العاميْن 2011-2013، قبل أن ينشقَّ عن الجيش السوريّ ويقدِّمَ شهادتَه أمام الكونغرس.

***

* أبدأ بكم أستاذ منير شفيق. كيف تنظرون إلى "مشروع الضمّ" وعلاقته بـ"صفقة القرن"؟

- شفيق: جميع الضغوط التي تعرَّضَ لها نتنياهو، بما فيها الضغوطُ الأوروبيّة (ومِن ضمنها موقفُ رئيس الوزراء البريطانيّ الذي أشار إليه الأخ سماح)، والانقسامُ الأميركيُّ على الضمّ حتّى داخل إدارة ترامب نفسِها، تُظْهر الإجماعَ الدوليَّ على رفض الضمّ. في اعتقادي أنّ نتنياهو أُرغِم على عدم إعلان الضمّ في 1/7/2020 كما كان قد وعد. ومَن مارسوا الضغوطَ خافوا عليه، وخافوا من النتائج التي ستترتّب على الضمّ؛ ذلك لأنّ الأوضاعَ في فلسطين قد تُفْلت من السيطرة، ولن يستطيعَ الأمنُ الصهيونيُّ ضبطَ اندلاع انتفاضةٍ كبيرة. كما صدرتْ عدّةُ تصريحاتٍ صهيونيّة نبّهتْ نتنياهو إلى أنّه سوف يرتكب خطيئةَ عمره إنْ أقدَمَ على الضمّ ولو بشكلٍ محدود.

هذا يدلّ على أنّ ميزان القوى العامّ هو في غير مصلحة الكيان الصهيونيّ. ولهذا، فإنّ على الفصائل الفلسطينيّة الآن أن تأخذ زمامَ المبادرة، فتنتقلَ إلى الهجوم، ولا تعطي الاحتلالَ أو الاستيطانَ أيَّ فرصةٍ لالتقاط الأنفاس!

 

* إدريس: في هذا الإطار، ما موقفُكم من السلطة الفلسطينيّة التي رفضتْ قرارَ الضمّ وهدّدتْ بإلغاء اتفاقيّات أوسلو وإلغاءِ "التنسيق الأمنيّ" مع العدوّ؟

- شفيق: موقف السلطة الفلسطينيّة إيجابيّ، لكنّه غيرُ كافٍ. يجب توحيدُ القيادة الفلسطينيّة، والانتقالُ إلى مواجهة الاحتلال والاستيطان. من المهمّ أن يكون هناك إجماعٌ فلسطينيّ ضدّ "صفقة القرن" وضدّ "مشروع الضمّ،" ولكنْ ما هي الخطوةُ التالية؟! أنا متأكّد أنّ أميركا أو غيرَها لا تستطيع فعلَ أيّ شيء أمام نزول الجماهير الفلسطينيّة إلى الشوارع وتنفيذ عصيانٍ مدنيّ. وأعتقد كذلك أنّ الأطرافَ العربيّة المهرولة نحو التطبيع ستواجهها الجماهيرُ في الشوارع.

لكن اسمحْ لي، أخ سماح، بأن أتحدّثَ عن "قانون قيصر" أيضًا. فقد ثبت أنّ فرضَ العقوبات على سورية أو إيران أو فنزويلا أو كوبا لم يؤثّرْ في تغيير الأنظمة، بل إنّ هذه العقوبات موجَّهة ضدّ الشعوب فقط. العقوبات سياسةٌ انتقاميّةٌ ساديّةٌ لتجويع الشعب، ولا جدوى منها على مستوى تغيير الأنظمة. وهذا ما أثبتتْه تجربةُ السنوات الماضية.

 

شفيق: لن تستطيع أميركا فعلَ أيّ شيء أمام نزول الجماهير الفلسطينيّة إلى الشوارع 

 

* إدريس: أستاذ حسن مقلّد، هل تتوقّع أن تحصلَ تمرّداتٌ اجتماعيّةٌ في سوريا بسبب "قانون قيصر" لأنّ الشعب السوريّكما يقال "سيقف على حافّة الجوع"؟ وربطًا بهذا السؤال، أضيف أنّنا لاحظْنا أنّ السيّد حسن نصرالله تحدّث مؤخّرًا عن ضرورة العودة إلى الزراعة والصناعة، وإلى "التوجّه شرقًا" لمقاومة الحصار الأميركيّ. ولاحظنا أنّ السيّدة بثيْنة شعبان، مستشارةَ الرئاسة السوريّة، قالت في اتصالٍ مع قناة المسيرة ما يشبه قولَ السيّد: "سنعمل على العودة إلى الزراعة وزيادةِ التعاون مع دول محور المقاومة والانفتاح على الشرق..." سؤالي: لماذا تأخّر الاهتمامُ بالزراعة إلى هذه اللحظة؟ وهل هو، في رأيك، بدايةٌ حقيقيّةٌ للاستقلال الذاتيّ؟

- مقلّد: بدايةً أقول إنّ الملاحظة التي أبداها أستاذنُا الكبير منير شفيق [عن أثر العقوبات] في محلّها. لا يوجد بلدٌ غيّرت العقوباتُ من سلوكيّاتِ نظامه. ولكنّ البلدان التي تعرّضتْ لهذه العقوبات دفعتْ أثمانًا قاسيةً في سياق تطوّرها.

أمّا بالنسبة إلى سؤالك الأخير، فاسمحْ لي بأن أجيبَ بطريقةٍ معكوسةٍ لأقول إنّ المشكلة هي في أنظمتنا. طبعًا نموذجُ لبنان لا يشْبه نموذجَ سوريا. نموذج لبنان منذ العام 1992 دَمَّر أيَّ إمكانيّةٍ للاكتفاء الذاتيّ، وذلك حين دَمَّر القطاعاتِ الإنتاجيّةَ المرتبطةَ بالصناعة والزراعة. مثلًا، في العام 1989، قبل اتفاق الطائف، وقبل أن تنتهي الحربُ الأهليّة، كان ناتجُنا المحلّيُّ في لبنان لا يتجاوز ملياريْن وثلاثمئة مليون دولار، وكان 70% من هذا المبلغ يذهب إلى مأكلنا وملبسِنا. وقتَها، كنّا في بلدٍ مقسومٍ على ذاته، ومع ذلك فقد كانت المصانعُ موجودةً في ملاجئ البنايات، وكنّا نصدِّر ما يتراوح بين 350 و500 مليون دولار من الإنتاج المحلّيّ!

وكمثال آخر، فقد كان في حيّ معوَّض [في الضاحية الجنوبيّة لمدينة بيروت] 300 منشأة للأحذية، يشتغل في كلٍّ منها ما بين 3 عمّال إلى 12عاملًا. في العام 2018، كان ناتجُنا المحلّيّ 54 مليار دولار (لاحظوا الفرقَ الكبير!)، ولكنْ كان 87% "مكشوفًا" على الخارج؛ أيْ كنّا نستورد من الخارج كلَّ شيء نأكلُه ونشربُه ونرتديه ونسكن فيه، والنسبة الباقية خُصِّصتْ للمستشفيات والتعليم.

لكنْ سنة 2011، كان القاطنون على الحدود مع سوريا يتعالجون في مستشفيات سوريا. وكنّا نصدّر ما قيمتُه مليارا دولار، بينما نستورد ما قيمته عشرون مليار دولار! هذا الخلل الكبير جدًّا سمح للأعداء بأن يدخلوا إلينا ويصبحوا جزءًا مكوِّنًا من طينتنا.

في سوريا أمورٌ لا تحبّ الناسُ أن تتحدّث فيها. أواكِبُ الاقتصادَ السوريَّ بشكلٍ يوميّ، مثلما أواكب الاقتصادَ اللبنانيّ. وأعيش أيّامَ أسبوعي مناصفةً بين سوريا لبنان. يؤسفني أن أقول إنّ سوريا، عندما اندلعت الحربُ الكونيّةُ عليها سنة 2011، كانت من سنة 2000 حتى ذلك العام تسير على طريق لبنان: "انفتاح" اقتصاديّ يدمِّر قطاعاتِها الاقتصاديّة! سنة 2010، أصبحتْ نسبةُ المستورَدات في سوريا أكبرَ من نسبة الصادرات. كانت الحيازاتُ الزراعيّةُ تدمَّر منهجيًّا - - سواءٌ بسبب عواملَ طبيعيّةٍ ذاتِ علاقةٍ بالمياه، أو بسبب شراء بعض الأمراء العرب أراضيَ في الجزيرة السوريّة. ولهذا السبب، عندما بدأت الحربُ في سوريا سنة 2011، كان المسرحُ الاقتصاديّ مقلوبًا لأوّل مرّةٍ في موضوع الزراعة والصناعة والإنتاج، مع أنّه بقي يشكّل الحدَّ الضروريَّ للأمان -- وهذا غيرُ متاحٍ في لبنان.

لهذا السبب، فإنّ الدعوة اليوم إلى العودة إلى الزراعة والصناعة هي دعوةٌ إلى مواجهة تحدٍّ ضروريّ، ألا وهو الاكتفاءُ الذاتيّ. في سوريا استمرّ الاكتفاءُ الذاتيّ على الرغم من الحرب، ولكنّه لم يعد يشبه الاكتفاءَ الذي كان موجودًا في بداية التسعينيّات طبعًا (وبنَتْه منذ أواخر الثمانينيّات). وفي أواخر التسعينيّات، كانت سوريا تلي تركيا مباشرةً في دول حوض المتوسّط لناحية تصدير الحمضيّات، وكانت سادسَ بلدٍ في العالم في إنتاج الزيتون! كانت لدى سوريا مؤشِّراتٌ متقدّمةٌ جدًّا، لكنّ هذه دُمّرتْ تحت عقليّة "الانفتاح."

السؤال: لماذا يستطيع بلدٌ مثل إيران أن يواجِه الحصار؟ الجواب: لأنّ لديه اكتفاءً في مجالَي الزراعة والصناعة. فمهما انهارت عملةُ إيران، فسيبقى لديها الحدُّ الضروريُّ الذي يؤهِّلها للاستمرار؛ إضافةً إلى أنّ لديها بترولًا بالطبع.

أمّا نحن في لبنان، فلا نستطيع ان نواجهَ الحصارَ في معزلٍ عن سوريا. ما قاله السيّد حسن نصرالله في الخطاب ما قبل الأخير (حين ذكر "الجهادَ الزراعيّ") يؤكّد أنّه ممنوعٌ علينا أن نجوع! وأنا أعرف أنّ المعنيِّين بالأمان الاجتماعيّ في لبنان وسوريا قاموا بإجراءاتٍ كبرى ذاتِ علاقة بتأمين الموادّ الغذائيّة الضروريّة، وذلك بدعمٍ كبيرٍ جدًّا من إيران (وما يتعدّى إيران). لهذا السبب يَعتبر هؤلاء أنّنا نمرّ بمرحلةٍ قد تمتدّ ما بين 6-10 شهور، وسنُضطرّ إلى مواجهتها بكلّ الأساليب ذاتِ العلاقة بالتصنيع المباشر وبتأمين الموادّ وبالزراعة أيضًا. لا نستطيع أن نواجِهَ هذا الحصارَ فرادى وبـ"المفرَّق،" بل نحن مضطرّون إلى أن نواجهه معًا وبشكلٍ شامل.

 

* إدريس: سؤال من أحد المشاهدين إلى الأخ أبي فادي: ألا تعتقد أنّ تراجُعَ نتنياهو عن قرار ضمّ أجزاء من الضفّة الغربيّة مرتبطٌ بالضغط الاقتصاديّ على لبنان وسوريا، وعلى محور المقاومة بشكلٍ عامّ، كي يستطيع أن يمرِّرَ مشروعَه من دون مقاومة؟

- شفيق: كان المقصودُ من التراجع عن الضمّ أن لا يُفيد محور المقاومة من اندلاع انتفاضة. بالتأكيد من الأسباب الأساسيّة لفرض التراجع عن الضمّ الخوفُ من عدم القدرة على السيطرة على الشعب الفلسطينيّ. لكنْ هنالك سببٌ آخر لا يقلّ أهمّيّةً، وهو الخوفُ من انتقال المعركة إلى فلسطين بدلًا من التركيز على إيران وسورية ولبنان كما تفعل أمريكا الآن؛ الأمر الذي سيَقْلب الطاولةَ على أمريكا والكيان الصهيونيّ.

لذلك، فإنّ الخيارَ الأنسب لأمريكا هو تحييدُ الشارع الفلسطينيّ عن الصِّدام مع الاحتلال والاستيطان. فالدول لا تستطيع إدانةَ هذا الصدام لأنّ الاحتلالَ غيرُ شرعيّ، والاستيطانَ غيرُ شرعيّ، وفقًا للقانون الدوليّ. هنا علينا أن نتخيّل كيف ستكون ردودُ الفعل عربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا عندما ينزل الشعبُ الفلسطينيّ في الضفّة والقدس إلى الشوارع، وبتفاعلٍ فلسطينيّ عامّ، وتضامنٍ شعبيّ عربيّ وإسلاميّ ورأي عامّ عالميّ، وفي ظروف جائحة الكورونا.

إنّ اتّخاذ قرار فلسطينيّ بالمواجهة والعصيان المدنيّ يتطلّب جرأةً. ويجب أن يُلحظ هنا أنّ ميزانَ القوى العامّ، الآن، أفضلُ من أيّ وقتٍ مضى -- أفضلُ منه في الانتفاضة الأولى والثانية ومن أيّ مرحلةٍ قبل الآن. مثلًا، الكيان الصهيونيّ لا يستطيع أن يشنَّ حربًا على لبنان كما كان يفعل في السابق، إذ سترْدعُه صواريخُ المقاومة الذكيّة والموجَّهة والبعيدةُ المدى. وإلّا، فلماذا لم يشنّ الحربَ حتى الآن؟! وقد شنّ حربًا سنة 1982 بسبب صواريخ كاتيوشا مداها 40 كيلومترًا، ولم يستطع تحمُّلَها.

العدوّ الصهيونيّ يريد الحربَ، ويحتاج إليها، ولكنّه لم يعد يَضمن النتيجة. وحتى الاقتصارُ على القصف سيواجِه قصفًا مقابِلًا لا يتحمّل العدوُّ خسائرَه. لذلك لجأتْ أمريكا إلى أساليب الحصار والمعاقبة والتجويع؛ فقوّةُ أمريكا الآن تكاد تُحصر بالدولار وبالسيطرة على المؤسّسات الماليّة الدوليّة. فلماذا نبقى، كفلسطينيين، في موقع الدفاع، ولا ننتقل إلى الهجوم في ميدان الانتفاضة والعصيان المدنيّ، في ظلّ وحدةٍ وطنيّةٍ شاملة؟ السياسة ليست رغباتٍ ومصالحَ كما يراها ويتمنّاها كلُّ طرف. الرغبات والمصالح خاضعة لموازين القوى؛ فبقدْرِ ما تعطيك موازينُ القوى، عليك أن تأخذ! أمّا على المدى الأبعد، فعليك أن تسهم في تغيير موازين القوى وأن تنتظر تغيُّرَها.

نتنياهو اضطُرّ إلى التراجع عن خطوة الضمّ من دون أن نبذلَ جهدًا كبيرًا أو تراقَ نقطةُ دمٍ واحدة. فقد تراجع عمّا وعد تنفيذَه في 1/7/2020 و"قدمُه فوق رأسه." التراجع لم يحدثْ برضاه، أو بسبب خطّة ضمٍّ جديدة، بل تراجع تحت الضغوط التي انهالت عليه. ولو كان يحترم نفسَه لتوجّب عليه أن يستقيل. تصوّروا لو أنّه ضمّ الأغوار؛ لكان اعتَبَر ذلك إنجازًا تاريخيًّا، ولذهب إلى الانتخابات فورًا وهو واثقٌ من الفوز.

خلاصة الأمر: علينا أن نقرأ موازينَ القوى قراءةً صحيحةً، عالميًّا وإقليميًّا وفلسطينيًّا. فأمريكا لم تعد قادرةً على الحسم عسكريًّا، وكذلك الكيانُ الصهيونيّ. وترامب مهدَّدٌ بالسقوط في الانتخابات، ومرتبكٌ في صراعه مع الصين وروسيا، ويواجه انقساماتٍ داخليّةً، وانقساماتٍ في إدارته (راجعوا مذكّرات بولتون مثلًا). هذه كلّها مؤشِّراتٌ على الضعف، بل هي من علامات التراجع. هذه من اللحظات التي قد تندلع فيها الثوراتُ؛ إنّها اللحظات التي تصبح فيها الطبقةُ الحاكمةُ منقسمةً وغيرَ قادرةٍ على الحكم؛ وهو ما يصفُه لينين بـ"الوضع الثوريّ." أمّا الوجه الآخر، فهو عندما لا يستطيع المحكومون تحمُّلَ الحكم.

 

* إدريس: د. عبد الملك سكّريّة يسأل الأستاذ حسن مقلّد: يقال إنّ الإدارة الأميركيّة تراجعتْ جزئيًّا عن فرض الحصار المتشدّد على لبنان خوفًا من قلب الطاولة والتوجّه شرقًا. هل أميركا جادّةٌ في تخفيف الحصار عن لبنان، أمْ هي تمارس تكتيكًا يهدف إلى إجهاض الخيار الآخر؟

- مقلّد: كان مفاجِئًا للكثيرين حجمُ الضغط الأميركيّ على الاقتصاد اللبنانيّ؛ فهو حجمٌ لم يميِّزْ بين أصدقاء أميركا وبين خصومِها وأعدائها. وهناك قناعةٌ لدى البعض أنّ التسويات لن تحصل إلّا بعد الانتخابات الأميركيّة بشهريْن أو ثلاثة على الأقلّ. المفاجئ بعد خطاب السيّد حسن نصرالله الأوّل، وفيه وجّه مجموعةً من الرسائل (ومنها "الاتجاهُ شرقًا")، هو حديثُه عن السلاح الذي يمتلكه حزبُ الله، ومؤدّاه أنّه لن يبقى في "أيدينا" حين نوشكُ على الموت جوعًا، بل سيُستخدَم بالتأكيد؛ ولمّا كان الضغطُ الأميركيّ من مصلحة "إسرائيل،" فإنّ اليدَ التي تُوجع أميركا هي هذا الكيان، ومن ثمّ فإنّ السلاحَ لا بدّ من أن يُستخدم ضدّه.

 

مقلّد: السفيرة الأميركيّة طَرحتْ تغيير الحكومة اللبنانيّة وتصرّفتْ بطريقةٍ "جلفة"

 

هنا سأدلي ببعض المعلومات: لقد وَجّهتْ أميركا رسالةً واضحةً إلى الحكومة اللبنانيّة والقوى السياسيّة اللبنانيّة، وفحواها أنّ الولايات المتحدة جاهزةٌ لتخفيف الضغط، لا لعقد تفاهمات. وقيل صراحةً في "الغداء الشهير" إنّ السفيرة الأميركيّة طَرحتْ مسألةَ تغيير الحكومة اللبنانيّة، وكانت تتصرّف بطريقةٍ "جلفة" (فظّة) لدرجة أنّ ورقةَ التوت الدبلوماسيّة غابت من خطابها. ومن المؤسف أنّ لبنانَ الرسميّ لم يقابلْها مثلما كان ينبغي، بل إنّ وزيرَ الخارجية اللبنانيّ استقبلها معتذرًا بدلًا من أن يؤنِّبَها. لكنْ، بعد خطاب السيّد حسن، لمس الأميركيّون نقطتيْن أساسيّتيْن: 1) تعاطي الحكومة اللبنانيّة بجدّيّةٍ مع موضوع استيراد موادّ إيرانيّةٍ بالليرة اللبنانيّة. 2) تعاطيها بجدّيّة مماثلة مع عروض شركاتٍ صينيّة، بل بدأ العملُ الفعليُّ مع هذه الأخيرة على ثلاثة مساراتٍ كبرى (محطّات الكهرباء، والقطار، ونفق حمّانا). عندها، قالت السفيرة إنّ بلادَها "تفضِّل" أن يأتي الدعمُ إلى لبنان عبر العراق والكويت وقطر [لا إيران]، ووصفتْ ذلك بأنّه "أوكسيجين،" بمعنى أنّه يَسْمح للبنان بالتنفّس ولكنّه لا يسمح له بمعالجة أزمته والانتقال إلى مرحلة التغيير. ومن المؤسف أيضًا أنّ بعضَ اللبنانيين تلقّفوا هذه "الحسنةَ" الأميركيّة فبدأوا إعادةَ حساباتهم في الاستمرار في المسار الذين يفكّرون فيه، أو راحوا ينتظرون تسوياتٍ أخرى تأتي من صندوق النقد الدوليّ أو غيره.

بحكم متابعتي للموضوع، أقول إنّنا أمام مساريْن متوازييْن: 1) مسار مُصِرّ على استكمال الإجراءات الجدّيّة بغضّ النظر عن الموقف الأميركيّ. 2) مسار يطلب التمهّل والهدوءَ كي لا يُستفزَّ الأميركيون.

 

* إدريس: أستاذ منير، سأنقل سؤالَ الجمهور إليك عن الاتفاق العسكريّ الإيرانيّ-السوريّ الأخير. هل يمكن أن يكونَ الخطوةَ الأولى لكسر "قانون قيصر"؟

- شفيق: هذا الاتفاق مهمّ جدًّا وخطرٌ جدًّا على الكيان الصهيونيّ، وهو يتعدّى الردّ على "قانون قيصر." عندما يحدث اتفاقٌ عسكريّ على هذا المستوى، فذلك يعني إجراءات عسكريّة. إنّ الصراعَ الرئيس هو مع الكيان الصهيونيّ في سورية، وكلّما تصاعدت الغاراتُ العسكريّةُ على سورية فذلك يعني أنّ زرعَ الصواريخ قد زاد، أو أنّ الإعدادَ العسكريّ قد زاد؛ الأمرُ الذي يغيّر في موازين القوى. ولهذا فإنّ الكيان الصهيوني يعيش قلقًا شديدًا في هذه الأيّام.

 

* إدريس: أستاذ حسن، هل يمكن أن يُستكمَلَ التعاونُ العسكريّ بتعاونٍ اقتصاديّ بين دول محور المقاومة مثلًا؟

- مقلّد: منطقتُنا، بمجالها الحيويّ الطبيعيّ، متكاملةٌ اقتصاديًّا من دون تدخّلاتٍ أو افتعالٍ أو اصطناع، وفيها فعليًّا طاقاتٌ وخيْراتٌ كبيرةٌ جدًّا. سأضرب مثلًا على إحدى مشكلاتنا في المنطقة العربيّة، وهو أنّ علاقةَ لبنان الاقتصاديّة بأوروبا والصين وأميركا أكبرُ بكثيرٍ من علاقته بمحيطه الطبيعيّ؛ وهذا "المنطق" ضدّ العقل! المنطقة المشرقيّة (لبنان، سوريا، العراق، الأردن) هي، طبيعيًّا، متّصلة بعضها ببعض، وهي غنيّةٌ بالإمكانات. وعندما نتحدّث عن "المحور" وامتدادِه إلى إيران وانفتاحِه على دولٍ أخرى، فذلك يغذّينا بكلّ عناصر القوة. لطالما قلتُ إنّه لا يمكن أن نتخيّلَ أن تكون عناصرُ القوة في لبنان عناصرَ ضعفٍ في سوريا (والعكس صحيح). إنّ أيَّ إصلاحٍ في لبنان أو سوريا، لحظةَ دمج الطاقتيْن، سيخفّف الأكلافَ والوقتَ، حتى في ورشة إعمار سوريا مثلًا. المشكلة الفعليّة هي في الحدود التي اصطنعها الاستعمارُ والطبقةُ السياسيّةُ المحلّيّة.

أوافق تمامًا على ما قاله الأخ أبو فادي: الظروف الآن جوهريّةٌ للتحوّل. فعلى المستوى العالميّ، لم تكن أميركا بهذا الضعف. لديها مشاكلُ مع حدودها المباشرة (كندا والمكسيك)، ومع أوروبا، ومع الخليج، واليابان، والهند، والصين! وفي المقابل، فإنّنا نحقّق منذ أعوامٍ انتصاراتٍ كبرى على مستوى المنطقة، لكنّنا للأسف لم نتمكّنْ من استثمارها على المستوييْن الاقتصاديّ والسياسيّ. لاحظوا كيف أنّ القوّةَ العسكريّةَ الأميركيّة التي دخلتْ إلى سوريا مع قوًى عسكريّةٍ تابعةٍ لـ80 دولةً أخرى قد هُزمتْ. وكانت أميركا قد انسحبتْ من العراق بعد أن احتلّتْه. وقبلها بعقود، قُتِل مئاتُ الجنود الأميركيين في لبنان. هذه الظروف مؤاتية حتى نستفيدَ منها. المعركة اليوم ضاغطة جدًّا لأنّها تجري في أحد المربَّعات المتقدّمة جدًّا في ساحة المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها.

 

* إدريس: شكرًا لك أستاذ حسن. وشكرًا للأخ الكبير أبي فادي. هذه الندوة ستليها ندوةٌ بعد بضعة أسابيع، وهي بعنوان "اتفاقيّات السلام،" وسنستضيف فيها الأستاذيْن نجاح واكيم وأحمد بهاء الدين شعبان. سأختم برسالةٍ أخيرة لو سمحتما وسمح الجمهورُ الكريم. في ظل جوّ التيئيس، وفي خضمّ عوامل كثيرةٍ تدفع شبابَنا إلى الهجرة، لا بدّ من أن نلْفتَ إلى بعض عناصر قوّتنا، كما فعل الأستاذان حسن ومنير. لكنّ المطلوب أيضًا هو الروحيّة الثقافيّة للمقاومة. ذلك لأنّ احتلالَ النفوس بالعجز واليأس هو في خطورة احتلال الأرض وطمسِ دوْر الزراعة والصناعة. الاستعداد النفسيّ والعقليّ للتصدّي للمشروع الصهيونيّ-الأميركيّ لا يقلّ أهمّيّةً عن الاستعداد العسكريّ والتكامل الاقتصاديّ والاكتفاء الذاتيّ.

بيروت