افتتاحيّة العدد الأوّل من الآداب، 1953
15-10-2015

 

رسالة الآداب سهيل إدريس

العدد1، ص 1-2، 1953.

يلاحَظ في "رسالة الآداب" الهمُّ التأسيسيّ، الذي يضبطه إيقاعٌ رساليّ، وشبهُ عسكريّ، على ما تشي به الكلماتُ الآتية: "رسالة واعية حقًّا،" "غاية عظيمة،" "يجنّد جهودَه،"...

ورسالة الآداب تحديدًا هي رسالة قوميّة. صحيح أنّ المنحى القوميّ العربيّ لم يُذكر بالاسم آنذاك، ولكنّه واضحٌ في التمييز الذي يقيمه إدريس من "الوطنيّ" (أو القطْريّ بلغة اليوم) على ما جاء في الجملة: "تشارك المجلة...في العمل القوميّ العظيم، الذي هو الواجبُ الاكبر على كلّ وطنيّ." لكنّ "القوميّة" لا تعني، بالنسبة إلى إدريس، التقوقعَ على الذات، بل الانفتاح على الإنسانيّة العامّة، بمقدار خدمته للبعد الوطنيّ، بما يعنيه الأخيرُ من توفير "العدالة الاجتماعيّة" وتحرير الفرد من "العبوديّات المادّيّة والفكريّة."

على أنّ الهمّ الأساس للمجلّة هو الأدب (القصة، القصيدة،...)، بما يشجّع الأقلامَ المبدعة "التي تؤْثر الصمتَ والاختفاءَ على الظهور في نشرات هزيلة." ويلفت هنا وعدُ إدريس قرّاءَ المجلة بالاهتمام بـ "الألوان المحليّة والطابع الخاصّ لكلّ أدبٍ [قطْريّ]."

وثمة أخيرًا حرصٌ على صورة الأدب العربيّ في الغرب، ولدى "المستشرقين" تحديدًا. وربما نعزو هذا الحرصَ، المبالَغَ فيه للوهلة الأولى، إلى أنّ إدريس كان قد عاد للتوّ من باريس بعد فترة دراسيّة استغرقته سنواتٍ عديدة، أنجز خلالها رسالة الدكتوراه من جامعة السوربون عن القصة (الرواية) العربيّة الحديثة، ولا شكّ في أنّه رأى بأمّ العين تقصيرَ المستشرقين عن مواكبة الأدب العربيّ الحديث.

ختامًا ننوّه إلى أنّ هذه الافتتاحيّة حظيتْ بقراءةٍ معمّقة من طرف الكاتب اللبنانيّ الكبير رئيف خوري في العدد التالي (2، 1953، ص 77-79). خوري ركّز على أنّ الأدب لا يمكن إلّا أن يكون نتاجًا اجتماعيًّا، وهو لذلك يخشى أن تتقزّمَ دعوةُ إدريس إلى "أدب الالتزام" فتغدو دعوةً إلى أدب حكوميّ أو حزبيّ ضيّق ـ وهذا الأخير "شرٌّ من الأدب الذي يَنْظر من نافذة برجِ عاجيّ." إنّ الالتزام الذي يدعو إليه رئيف في الأدب هو التزامُ الأديب "الصدقَ مع نفسه" لا غير.

سماح إدريس

 

رسالة الآداب

سهيل إدريس

في هذا المنعطف الخطير من منعطفات التاريخ العربيّ الحديث، ينمو شعور أوساطَ الشباب العربيّ المثقّف بالحاجة إلى مجلّةٍ أدبيَّةٍ تحمل رسالةً واعيةً حقًّا.

وصدور الآداب منبثقٌ عن وعي هذه الحاجة الحيويّة. أمّا تلك الرسالة التي تحملها، فتقوم على الأسس الكبرى التالية:

تؤمن المجلَّة بأنَّ الأدب نشاط فكريّ يستهدف غايةً عظيمةً: هي غاية الأدب الفعَّال الذي يتصادى ويتعاطى مع المجتمع، إذ يؤثّر فيه بقدر ما يتأثَّر به. والوضع الحالي للبلاد العربيّة يفرض على كلّ وطنيّ أن يجنِّد جهوده للعمل، في ميدانه الخاصّ, من أجل تحرير البلاد ورفع مستواها السياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ. ولكي يكون الأدب صادقًا، فينبغي له ألاّ يكون بمعزلٍ عن المجتمع الذي يعيش فيه. وهدف المجلّة الرئيسيّ أن تكون ميدانًا لفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشون تجربة عصرهم، ويُعدّون شاهدًا على هذا العصر: ففيما هم يعكسون حاجات المجتمع العربيّ، ويعبِّرون عن شواغله، يشقّون الطريق أمام المُصلِحين، لمعالجة الأوضاع بجميع الوسائل الجديدة. وعلى هذا، فإنّ الأدب الذي تدعو إليه المجلَّة وتشجِّعه، هو أدب «الالتزام» الذي ينبع من المجتمع العربيّ ويصبُّ فيه.

والمجلّة، إذ تدعو إلى هذا الأدب الفعّال، تحمل رسالة قوميَّةً مثلى. فتلك الفئة الواعية من الأدباء الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم يستطيعون على الأيّام أن يخلقوا جيلًا واعيًا من القرّاء يتحسَّسون بدورهم واقعَ مجتمعهم، ويكوِّنون نواة الوطنيين الصالحين. وهكذا تشارك المجلَّة، بواسطة كتّابها وقرّائها، في العمل القوميّ العظيم، الذي هو الواجب الأكبر على كلّ وطنيّ.

على أنّ مفهوم هذا الأدب القوميّ سيكون من السَعَة والشمول حتى ليتَّصل اتِّصالاً مباشرًا بالأدب الإنسانيّ العامّ، ما دام يعمل على ردّ الاعتبار الإنسانيّ لكلّ وطنيّ، وعلى الدعوة إلى توفير العدالة الاجتماعيّة له، وتحريره من العبوديّات المادِّيَّة والفكريّة، وهذه غاية الإنسانيّة البعيدة. وهكذا تُسْهِم المجلّة في خلق الأدب الإنسانيّ الذي يتّسع ويتناول القضيّة الحضاريَّة كاملةً، وهذا الأدب الإنسانيّ هو المرحلة الأخيرة التي تنشدها الآداب العالميّة في تطوّرها.

وفي المنهج العامّ للمجلّة أن تعمل على إخراج كثير من الأقلام المبدعة التي تُؤثِر الصمت والاختفاء على الظهور في نشرات هزيلة لا تعطي فكرة جيِّدة عن الأدب العربيّ الحديث. والمجلّة إذ تُخرج هذه الأقلام من عزلتها، تتيح لأصحابها أن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم، فيحاولوا الإبداع ويُغنوا الأدب العربيّ بنتاج جديد.

وفي هذا النطاق كذلك، ستعمل المجلّة على إبراز حيويّة الأدب العربيّ الحديث وخصبه وغناه، إذ ستشجِّع الألوانَ المحلِّيَّة والطابع الخاصّ لكلّ أدب. وستضمّ صفحاتها نتاجَ أقلام تعتقد أنّها تعبّر بصدق وإخلاص عن خصائص الأدب في بلادها.

ومن أهداف المجلّة أن تثير من القضايا الفكريّة ما يُحيي الحركة الأدبيّة الهامدة في البلاد العربيّة ويفسح المجالَ واسعًا للمناقشات والمطارحات والمعارك القلميّة. ولا بدّ من أن يكون لهذه الحركة أثرٌ بعيد في الإقبال على الكتابة والقراءة كلتيهما. وهذا النشاط جميعه جديرٌ به أن يعطي الأجنبيّ فكرةً صحيحةً عن الأدب العربيّ الحديث ومشاركته في الحركة الأدبيّة العالميّة. والواقع أنّ النتاج العربيّ المعاصر يكاد يكون مجهولًا في الأوساط الأجنبيّة؛ ومردّ ذلك قبل كلّ شيء إلى فقدان مجلّة أدبيّة راقية تستعرض النشاط الفكريّ في البلاد العربيّة وتفسح المجال للأقلام القويّة.

وكما ستحاول الآداب أن تُعطي الأوساط الأدبيّة الأجنبيّة صورةً صادقةً عن نشاط العرب الفكريّ، فهي ستهتمّ اهتمامًا شديدًا بالآداب الأجنبيّة، فتعطي القارئ العربيّ صورةً واضحةً عن أحدث النتاج الغربيّ، عرضًا ودرسًا ونقدًا، وبذلك توفّر لقارئها ثقافةً عامّةً مديدة الآفاق. ثم إنّها ستتيح للأدباء والمفكِّرين العرب أن يتفاعل نتاجُهم بالنتاج الغربيّ، فيكتسب قوّةً وعمقًا، فيما هو يحتفظ بطابعه وخصائصه الذاتيّة.

وسُتعنى المجلّة عنايةً خاصَّةً بالنقد الأدبيّ وبالقصّة، فتحاول في الباب الأوّل أن تقوِّم الآثار الأدبيّة، القديم منها والجديد، تقويمًا موضوعيًّا مجرّدًا يضع كلّ كتاب في موضعه الصحيح، دون ما اعتبار لأحكام سابقة لم تُمْلِها غالبًا إلاّ رغبةٌ متغرّضةٌ في التقريظ أو في التجريح. وسوف تشجّع في هذا الباب أيضًا جميع ألوان النقد الذاتيّ. أمّا في باب القصّة فستفسح المجال واسعًا للجيل الجديد من أدباء الشباب الذين يستلهمون واقعَ مجتمعهم ويصوِّرون عصرهم خير تصوير.

* * *

بهذا كلّه، سيتاح لـ الآداب أن تكون مرجعًا مهمًّا من مراجع الأدب العربيّ الحديث يستشيره كلُّ من رغب في الاطِّلاع على النشاط الفكريّ العربيّ، ولا سيّما المستشرقون الذين لا تنقطع شكواهم من فقدان المراجع التي تمكِّنهم من دراسة الأدب العربيّ المعاصر. وسوف تنشر المجلّة في كلّ عددٍ من أعدادها دراساتٍ واسعةً عن الاتّجاهات الحديثة في أدب الكتّاب العرب، في جميع ألوان نتاجهم، وستعهد بهذه الدراسات إلى متخصَّصين ينتمون إلى مختلف البلاد العربيّة.

بتلك الرسالة، وبهذا المنهج، تتقدّم الآداب إلى قرّائها، آملةً أن تجد عندهم التشجيع الذي يمكِّنها من متابعة حمل رسالتها وتحقيق منهجها.