في مكانٍ ما،على الرّكح
12-01-2018

 

دائرةٌ من الضوء الوهّاج تُسلَّط على خشبة المسرح، ويظهر فجأةً. قوّةٌ ما جعلته يقفز من وراء الستار وينكمش. صمتٌ هائلٌ ينصبّ على القاعة، ولا أحد يعلم كم من الوقت سيمكث على هذه الوضعيّة. ينبعث صوتُ الكمنجات هادئًا، فيبدأ في التحرّك كتفتّح وردة. ينتصب واقفًا. يمشي بضعَ خطوات، ويتوقّف ثانيةً، وظلُّه يتبعه. يداعب قلبَه بين يديه، يهديه الرّيحَ، ويسعى خلفه بخطًى متعثّرة. يتنهّد.

يتمنّى لو كانت معه في هذا العرض؛ فقد يصير العرضُ أفضل، وقد يصفّق لهما الحاضرون منذ الدخول، وقد يكون التعبيرُ الجسمانيّ بذلك أكثرَ عمقًا وتأثيرًا. كانا سيحضران معًا حصصَ التمرين، وسيحتفلان معًا بعد نجاحهما، وقد يمسك يدَها، وينحنيان معًا إثر انتهاء العرض، ويستمتعان معًا بالتصفيق والصفير والابتسامات والورود.

تتحوّل موسيقى الكمنجات إلى قرع طبول. يعود إلى رشده. يسترجع المكانَ والزمان ووتيرة الأحداث. يتحرّك في محاولة لتعلّم المشي. يجد صعوبةً في التواصل مع أعضائه. يصرخ بأعلى صوته، ويفشل في سماع نفسه. يصمّ أذنيه. يرتجف. يفقد توازنه ويسقط. تُحبس الأنفاس، ويتوقّف قرعُ الطّبول فجأة.

***

قبل العرض دخل الغرفة بخطًى تنمّ عن قلق. جلس على الكرسيّ الخشبيّ بحذر. المرّات التي دخل فيها هذه الغرفة يصعب تعدادُها، ولكنّ الرهبة من خشبة المسرح جعلته لا يعرف معنًى للاسترخاء في هذا المكان. تلمّس تقاسيمَ وجهه: عيناه تفقدان بريقَهما مع مرور الوقت، وشعرُه صار أشعثَ، ولحيتُه تتكاثف شيئًا فشيئًا، هو الذي لا يعرف لوجهه صورة إلّا في هذه المرآة قبالته.

يتذكّر أوّلَ مرّة دخل فيها هذا المكانَ وحماسُه يسبقه، حاملًا في طيّاته مسرحيّات كورناي وموسيه وشكسبير، ناظرًا إلى الجميع بانشراحٍ وقد علّقوا عليه آمالهم. يستحضر ساعات التدريب ونصائحَ أستاذه. يتأمّل غرفته، ويسرح في عشق المكان. سنواتٌ مرّت وهذا ملاذُه الوحيد من الأذى. يحمل علبةَ الصباغ ويطلو وجهَه بالأبيض، فيظهر كأنّه ملاكٌ شاحب. يغيّر ثيابَه. يعود إلى كرسيّه منتظرًا أن يحين الوقت. يفرك يديه. يتسارع النفسُ، ورجفةٌ صغيرةٌ تسري في أوصاله. يغمض عينيه آملًا في صفاء الذهن، فيخفق في ذلك.

طرْقٌ خفيفٌ على بابه. يسحب نفسًا عميقًا. يتمتم بضع كلمات، ويخرج بخطًى ثابتة.

***

بعد العرض، يغادر الجميع. يخل الجوّ من الضجيج، ولكنّه غيرُ راضٍ عن عرضه. تنطفئ الأنوار. ينكمش وحيدًا في ملاذه، مسندًا رأسه إلى ركبتيه وقد أرهقته كلُّ تلك العيون المركّزة والوجوه ذات التعابير المختلطة. يفكّر: ما الّذي ينقصه الآن؟ ويجيب: السعادة. وما السعادة؟ هي أن أعيش وحيدًا على جزيرة، بعيدًا عن كلّ مخلوقٍ مؤذٍ. وهل الحلّ في الهرب؟ ذلك أفضل من أداء أدوار والعيش بألف وجه.

يغيّر من جلسته ويبقى متأمّلا النجومَ عبر نافذة في أعلى الجدار. يجفّ الطلاءُ على وجهه، فيتحوّل إلى كتلة جامدة باردة، ويفشل في النهوض لتنظيف بشرته، وجولييت لم تأت. فلمَ السهر كلَّ هذا الّيل في انتظار الغائب؟!

يداعب قطّه الغارق في نعاسه، ثمّ يحمله ويتّجه إلى خشبة المسرح، والمكانُ يعمّه الصمتُ والظّلمة. ينير ركنًا من الركح. يتمدّد على اللوح البارد. يتمطّى القطّ متكاسلًا، متملّصًا من يديه. ينزل ليتّخذ لنفسه مكانًا على أحد مقاعد المتفرّجين. يقفز الفتى من وراء السّتار وينكمش. يبدأ في التحرّك. يقف. يمشي بضع خطوات، ويتوقّف ثانية. يداعب قلبه بين يديه.

***

قبل شهور.. الظلام حالكٌ في هذه الليالي الطويلة، وهو شريدٌ في مثل هذه الساعات المتقدّمة، ينصت بضجرٍ لمواء قطّه، مراقبًا تمايلَ لهيبٍ ما في فتيل الشّمعة. يحاول ردَّ الاعتبار في معركة شكسبيريّة يدخلها خاسرًا، ويعجز فكره عن ذلك. يقرّر انتحارَه. يخرج ورقة وقلمًا ويكتب آخر مشهد: هذا المشهد.       

                                                              بنزرت (تونس)

    

اسامة جلالي

طالب في الثانويّة العامّة في تونس، من مواليد 1999.