رسالة ماري
29-05-2018

 

فتحتْ روزيتا الباب وخرجتْ إلى الشرفة لتشمّ هواءً نقيًّا. هذه المدينة صارت لا تطاق بعد مغادرة أليخاندرو. المسبح، نادي الفروسيّة، العُلب الليليّة: هي لا شيء الآن. حتّى العصفور الذي أهداها إيّاه في عيد الميلاد توقّف عن الغناء، وحلّ فراغٌ موحش جعل كلَّ ما حولها بلا طعم.

لا تدري روزيتا سببَ سفر أليخاندرو المستعجل من دون إخبارها. فذات صباح، اعترضتْها الخادمة ماري، وهي تنزل الدّرج، وأخبرتها أنّ السّيد أليخاندرو سافر خارج البلد. تلقّت روزيتا الأمرَ باستغراب؛ ففي العادة كان يُطْلعها على كلّ شيء، وإذا غادر فهو يعود سريعًا في بضعة أيّام. ولكن هذه المرّة اختلف الأمرُ، وطالت المدّة، وهذا لا يبشِّر بالخير. حاولتْ مرارًا أن تتّصل بأصدقائه، لكنْ لا جواب؛ فلا أحد كان يعلم بخبر سفره. أمّا والداه فيقيمان بعيًدا، ولا داعي لإزعاجهما.

في البداية ظنّت الأمر مزحةً من مزحاته. ولكنّ المسألة الآن صارت مقلقة. تكاثرت الفرضيّات، وأرهقها التفكير، خصوصًا أنّ شيئًا ما حصل في فترة غيابه؛ فنتائجُ الحمْل كانت إيجابيّة، ولذلك تغلّبتْ حيرتُها على فرحها. لعلّ الطبيب أخبره ذلك، فغادر هربًا من المسؤوليّة. أو لعلّه سَمع شيئًا ما جعله يتركها. وماذا لو وقع في حبّ فتاةٍ أخرى وقرّر الزواجَ والاستقرارَ بعيدًا؟ نعم، أليخاندرو كان يقول إنّه لا يرى غيرَها في هذا الكون الفسيح، لكنّ كثيرات كنّ ينظرن إليه باعجاب ويسقطن في غرامِه من النظرة الأولى.

ارتمت روزيتا على الكرسيّ المتأرجح وقد كبّلتْها الهواجس. هي لا تدري ما تفعل الآن؛ فمصيرُها مرتبط بمصير حبيبها. حتّى إنّها تغيّبتْ عن دروسها في الجامعة، وانقطعتْ شهيّتُها عن الأكل. عزلتْ نفسَها، وتوقّفتْ عن مقابلة الأصدقاء والسهر حتّى الهزيع الآخير من الليل.

كانت الخادمة ماري ترمقها أثناء تدبير شؤون المنزل. حضّرتْ كأسيْ عصير واتّجهتْ نحوها، زاعمةً مؤانستها والتخفيفَ عنها. تفطّنتْ روزيتا إلى قدومها، فمسحتْ دموعَها، واعتدلتْ في جلستها. قالت ماري:

ــــ روزيتا! لم أعرفكِ ضعيفةً إلى هذا الحدّ أمام المشاكل. كوني قويّة!

ــــ الأمر مختلف هذه المرّة يا ماري.

ــــ اصبري قليلًا. لعلّ المسألة مستعجلة ولا تحتمل انتظارًا.

ــــ أنا التي لم أعد أحتمل الانتظار. كيف يذهب ويتركني وحيدة؟!

ولم تكمل كلامها حتّى اختنقتْ بالشهقات.

ــــ لا تبكي عزيزتي، سيعود قريبًا.

قالتها ممرّرةً يدَها على ظهر روزيتا.

ــــ وماذا لو أنّه يخونني الآن؟

ــــ لا أظنّ أنّ أليخندرو يفعلها.

ــــ ولماذا لا يفعلها؟

ــــ لأنّه يحبّكِ يا عزيزتي.

سكوت قصير أخذتا خلاله رشفاتٍ من كأسيهما. قالت روزيتا:

ــــ ماري، ماذا قال لكِ قبل رحيله؟

ــــ أوصاني بأن أخبركِ أنّه مسافر والأمر مستعجل.

ــــ ألم يقل شيئًا آخر؟

ــــ لا.

اتّكأتْ روزيتا على كتف الخادِمة، والدمعُ لم يجفّ بعدُ في عينيها. قالت ماري:

ــــ هيّا عزيزتي تشجّعي! المسألة لا تستحقّ كلّ هذا الأسى. ماذا لو عاد أليخاندرو ووجدكِ على هذه الحال؟! هيّا اذهبي وخذي حمّامًا ساخنًا. هذا سينعشك.

تحاملتْ روزيتا على نفسها وصعدت الدرَجَ نحو غرفة الحمّام. أرسلتْ ماري زفرةً طويلةً واسترخت على المقعد مشمئزّةً من وضعها. لقد ملّت شكاوى هذه المرأة، وتنظيفَ الأواني، وجمعَ الأوساخ، ومسحَ النوافذ. هي لم تدخلْ هذا المنزل وتصبحْ خادمةً فيه إلّا لأجل عينيْ أليخاندرو. لقد وقعتْ في حبّه منذ اللحظة الأولى التي رأته فيها في الحفل وهو يرقص مع روزيتا، وقرّرتْ أن تنتزعَه منها وتتّخذَه عشيقًا، حتى صارت ظلًّا لتلك الفتاة: تراقب تحرّكاتِها، وتكشف أسرارَها، محاولةً إفشالَ علاقتها به. بل هي علمتْ بمسألة الحمْل وهي تتحيّن اللحظةَ الحاسمةَ للهجوم.

رنّ الجرس، فاستفاقت ماري من غفوتها. لملمتْ مخطّطاتِها، وسارعتْ إلى الباب لتفتحه. كان ذلك ساعي البريد يحمل إلى روزيتا رسالةً من أليخاندرو. التقطتْها بخفّة وفتحتها ملتهمةً كلماتِها.

***

استفاق الطفلُ باكرًا على غير عادته. جرى إلى أمّه حافيًا، حاملًا إليها سؤالًا ناريًّا نخر عقله ليلةً كاملة:

ــــ ماما! ماما! ماذا كتب أليخاندرو لروزيتا؟

ــــ عد إلى النوم عزيزي. سنعرف ذلك من حلقة اليوم.

قالتها وأرخت رأسَها على الوسادة، متذكّرةً ما ينتظرها من عملٍ شاقّ في منزل سيدتها.

 

                                                                                         تونس ـ المكسيك

                                                                                             

اسامة جلالي

طالب في الثانويّة العامّة في تونس، من مواليد 1999.