رصاصة في الذاكرة
13-11-2016

 

 

أغلقتُ سمّاعةَ الهاتف كمن يُغلق عمليّةً جراحيّةً، فاصلةً ذاكرتي عمّا مضى من حياتي. كان اتّصالي بديمة،  التي أصيبت بشظيّة طائشة أفقدتْها ذاكرتها، وقضت على طفلتها. حدّثتُها، ودموعي تنهمر سيولًا، مخترقة ذاكرتها، وشاقّةً طريقَها فوق ركام البيوت، لترتطم ببيت أبي عادل، الذي شكّل أعلى كومةٍ بين الأنقاض، وذكّرتني بكومة الحشائش التي جمعناها أنا وديمة.

ألا تذكرين؟

كنّا عشرة أطفال أشقياء نعيش في حارات صغيرة محاطة بالحقول والبساتين والسواقي العذبة. لم يَسْلم بستانٌ من شرّنا. عادل، صديق أخي الأكبر، اقترح أن نحفر حفرة كبيرة في طرف البستان، ومن ثمّ نغطّيها بالأغصان الرقيقة والحشائش كي نُوقِعَ فيها البستانيَّ أبا مأمون، الذي اعتاد يوميًّا طردَنا لأنّنا نعيث كالغربان في حقول ذُرته وقمحه.

نجحتْ خطّتُنا، فعَلَتْ ضحكاتُنا لتطول السماء. وبّختنا أمّي، وأنا أسألها باستغراب: "مَن أخبركِ؟" فتقول: "العصفورة." أمتعضُ؛ فنحن والعصافير أصحاب، ولطالما تحدّثنا وطِرنا معًا بأجنحة ورقيّة، فكيف لا تحفظ السرَّ؟

تواعدنا عصرًا. توالت طرقاتٌ خفيفةٌ على بابنا تنبئ بقدوم ديمة، الحلبيّة الأصل، التي تدعوني إلى الخروج. ديمة تصغرني بسنة. جاءت مع عائلتها لتعيش في غوطة دمشق. لهجتُها، وصعوبةُ لفظها لبعض الأحرف، كانتا تزيدان من حبّي لها. فتحتْ والدتي البابَ لتجد ملاكًا صغيرًا يدمدم: "خالة، بترضي ريما ترافقني للحقلة؟" تشابكتْ أصابعُنا، وأخذنا نجري قافزتيْن على قدم ونصف من شدّة الفرح. أخبرتني ديمة أنّها وجدت مكانًا ظليلًا تحت شجرة زعرور. ظننتُ يومها أنّ كلمة "زعرور" إحدى شطحاتها الكثيرة.

ــــ زعرور؟

ــــ شجرة الزعرور ثمارُها حمراء تشبه الكرز، وهي كالدحل الذي يلعب به عادل. هذه الشجرة تُحكى حولها قصص، إذ يُقال إنّ الأقزام يسكنونها. دعينا نستكشفهم.

نركض، وأقدامُنا تسابق جسدَنا للوصول إلى المكان، إذ تخيّلتُ نفسي "أليس" في بلاد العجائب، وهي أرنبي الناطق. وصلنا إلى شجرةٍ، زعرورُها يشبه حبّاتِ تفّاحٍ صغيرة. قطفناها. وتردّدنا في تناولها خشيةَ أن يَصْغر حجمُنا كما في فيلم أليس في بلاد العجائب، ونسبّب لأهلنا مأساةَ العثور علينا. تطوّعتُ وتذوّقتُها. حاولتْ ديمة ردعي خوفًا من أن تكون سامّةً. تجاهلتُ كلماتها. لم أصغر، ولم أتسمّم. صرخنا، وضحكنا، وتجدّدت أحلامنا عند شجرة الزعرور.

خيالُ ديمة يتّسع لفضاء الغوطة الرحب، كما تتّسع قلوبُنا لتضمّ كلَّ ما رأيناه. أذكر الثآليلَ على أطراف أصابعها؛ سألتُها:

ــــ من أين لكِ هذه الثآليل؟ كيف يمكنني أن أحصل على مثلها؟

أجابتني بأنّها أصيبت بها بعد عدّها النجومَ ليلًا. ورجت منّي ألّا أفعل ذلك.

كنّا نسكن بيوتًا عربيّةً مفتوحةً على قبّة سماوية بعيدة الامتداد. يومها حلّ المساء، وكما يفعل كلّ سكّان الحارة، مددْنا الحصيرةَ البلاستيكيّة، وجلبنا بعض الوسائد. أطفأنا الأنوار وتمدّدْنا وعيونُنا إلى السماء، بقمرها ونجومها.  كان أخي يحلف بأغلظ الأيمان أنّه رأى نجم الدبّ الأكبر مشيرًا بأصابعه، فنحاول، بكلّ عناء، الاستدلالَ عليه، دونما جدوى. وكانت أختي تقسم أنّ القمر يَعْرض وجوهَ الرؤساء العرب، وأعلامَ الدول كلّ ربع ساعة، لكنّني لم أستطع أن ألتقط المشهد، وحين يئستُ تذكّرتُ أصابعَ ديمة، فأخذتُ أعدّ النجوم، وغفوتُ على أمل أن أجد في الصباح الثآليل تغزو يديَّ قادمةً من عالم آخر، على حدّ تعبير ديمة. عند الصباح تفقّدتُ يديَّ، فلم تتغيّرا.

مؤلمٌ تذكُّرُ حقول التوت والتين والسناجب والعصافير التي آلت إلى الدمار. تخيّلتُ أنّ عودتنا وتناسخنا، أنا وديمة وعادل وإخوتي، سيعيد للحياة ألقَها، وللغوطة أطفالَها وفرحَها. عندما أعود بذاكرتي ينتابني شعورٌ مخيف، فأفقد التركيزَ تمامًا، وأتساءل إنْ كانت تلك الحياة حقيقيّة أمْ متخيّلة. فلقد نافسنا "هايدي" في قصّة يوهان شيبري، فكانت الغوطة أجملَ من جبال الألب السويسريّة. لكنْ كيف لي أن أثبت ذلك، وكلُّ ما تبقى منها ذاكرة؟!

في صباحات البرد، كنّا نستيقظ على الراديوهات. إي نعم يا ديمة، كنتِ تقولين إنك تشعرين أنّنا وسط بورصة عالميّة لا حارة شعبيّة. صوت مذياع والدي كان الأعلى، "هنا إذاعة الشرق من باريس،" ثمّ موجز إخباريّ، تليه وصلاتٌ فيروزيّة: "رجعت الشتويّة..." وكانت شتويّة الثمانينيّات زمهريرًا يقصّ المسمارَ كما يصفونها. وكان والدي يدير إبرةَ المذياع على محطة مونت كارلو، وأغرمت بحكمت وهبي وهو يتحدّث باللهجة اللبنانيّة، وتمنّيت رؤيته أو العمل معه. انقرضت الأحلامُ وذاكرةُ ديمة، كما انقرض الراديو والبيوت العربيّة المتراصة.

وإنّه لشعورٌ غريبٌ أن تكون منقرضًا، وأنتَ على قيد الحياة!

***

كلُّ هذه التفاصيل ذكرتُها لديمة، لكنّ الشظيّة مسحتْ ماضيَها وحاضرَها. أنهت ديمة المكالمة، وبصوت خجلٍ اعتذرتْ عن عدم تذكّرها أيَّ شيء. أمّا عبارتُها الأخيرة، فسيتردّد صداها كناقوسٍ يدقّ ويصدح: "كلُّ ما أعرفه أنّ أيديَنا كانت ملطّخةً بالنجوم، لا بالدم."

أنهيتُ المكالمة باعتذار: "صديقتي ديمة، لم أقل لكِ إنّني عددتُ النجومَ لأحصل على ثآليل، فتشْبهَ يداي يديْكِ. إلّا أنّ النجوم لم تكن مضاءة!"

السعوديّة

رندة عوض

كاتبة فلسطينيّة تعيش في السعودّية. لها العديد من القصص المنشورة في مجلّات عربيّة.