"ثقافة" التحرّش وثقافة المواجهة
16-08-2018

 

أوّلُ ما يتبادر إلى الأذهان عند سماع كلمة "تحرّش" هو الفعل المادّيّ الملموس، المُتمثّل في تعدّي المتحرِّش على جسد الآخر، الأنثى تحديدًا، بمعزلٍ عن تعرّض الذكور للتحرّش أيضًا. غير أنّ هذه الصورة تبقى غيرَ مكتملة، بدليل أنّ الإعلام لا يتناول التحرّشَ عادةً إلّا إذا بلغ حدَّ الاغتصاب، أو خلّف أثرًا في الجسد.

يعرِّف موقعُ harassmap التحرّش بأنّه "أيُّ صيغةٍ من الكلمات غير مرغوبٍ فيها، و/أو الأفعال ذات الطابع الجنسيّ التي تنتهك جسدَ أو خصوصيّةَ أو مشاعرَ شخصٍ ما، وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدمِ الأمان، أو الخوف، أو عدمِ الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك، أو أنّه مجرّدُ جسد." ويتّخذ التحرّشُ أكثرَ من شكل مثل: التحديق إلى جسم الشخص؛ والتعبيرات الوجهيّة التي تحمل نوايا جنسيّةً؛ والتعليقات ذات الإيحاءات الجنسيّة؛ والملاحقة المباشرة؛ وعرض صور جنسيّة؛ وإجراء مكالمات هاتفيّة أو إرسال رسائل نصّيّة تحمل اقتراحاتٍ أو تهديداتٍ جنسيّة؛...(1)

***

من أجل تقديم صورة أكثر تعيينًا، سأتحدّث عن خمس حالات تحرّش حدثتْ مع صديقاتٍ لي أو معي شخصيًّا.

أ) أخبرتني صديقةٌ تدْرس في الجامعة اللبنانيّة عن توقّف سيّارة BMW سوداء أمام مدخل الجامعة كلَّ يوم، فيصفّر سائقُها لها وللطالبات وهنّ يخرجن من المبنى ظهرًا... ويستمْني! تجاهلتْه صديقتي أوّلَ الأمر، وسارعتْ إلى الخروج من المبنى. لكنّه، ذات يوم، شدّها من يدها، وأجبرها على الدخول إلى سيّارته، فقاومتْه وتمكّنتْ من الهرب. توجّهنا فورًا إلى المخفر للإبلاغ عن هذا المتحرّش، فجاءنا الردّ الذي لم نتوقّعْه من الشرطيّ المسؤول عن استقبال الشكاوى:

"بسيطة، اتركوه، وامشوا من تاني جهة. شو بدّكم فيه!"

ب) صديقة أخرى تعرّضتْ للتحرّش في باصٍ للدولة، اعتادت أن تستقلّه من محطّةِ عملها في أنطلياس وصولًا إلى بيتها في رأس النبع. ذاتَ مرّة، جلس قربَها رجلٌ أربعينيّ، يرتدي نظّارةً سوداء، ويدخّن بطريقة غريبة (والتدخين في الأماكن المغلقة ممنوعٌ قانونًا أصلًا كما تعلمون). تقول: "احتكّت ركبتُه بفخدي. ابتعدتُ عنه. عاود الاقتراب. وقفتُ، فوضع يدَه على فخدي. صفعتُه على وجهه، وصرخت. فنزل مسرعًا من الباص." ( كما يبدو في الصورة)

وتكمل صديقتي، وعلاماتُ القرف باديةٌ على وجهها، أنّها أرادت توثيقَ هذا الانتهاك، فالتقطتْ من تليفونها صورةً لهذا الرجل المتحرّش. لكنّ ما زاد من قرفها هو صمتُ الركّاب الآخرين. أتُراهم خافوا من التعرّض لأذاه، أم أنّهم اعتبروا الأمرَ "عاديًّا"؟

في الحالين، تقول صديقتي، تواطأ الركّابُ، بصمتهم، مع المتحرِّش، وعزّزوا من احتمال قيامه بانتهاكاتٍ جديدة.
شاركتْ صديقتي صورَ المتحرّش على صفحة حسابها الفايسبوكيّ. غير أنّها، ويا للمفاجأة القاسية، لم تلقَ تشجيعًا لها، أو تضامنًا معها، كما كانت تتوقّع. على العكس: انهالت عليها الشتائمُ، وحمّلها البعضُ مسؤوليّةَ "إغراء الرجل" لأنّهم افترضوا أنّها لم تلتزمْ معاييرَ "الحشمة" في لباسها!

ولم يكن ردُّ أهلها أرحم: فقد طالبوها بمسح الصور كي لا تصير سيرتُها "على كلّ لسان."

ج) لي صديقة ثالثة، تحرّش بها ربُّ عملها، وأراد تقبيلَها رغمًا عنها. وزاد الطينَ بلّةً موقفُ والدها؛ فبدلًا من أن يلومَ مديرَها أو يشكوه أو يشهّرَ به، عمد إلى منعها هي من العمل كي "يحميَها." وبذلك استحقّ أن نلقّبَه ــــ نحن صديقاتها ــــ بمحمّد إسكندر، المغنّي الذي طارت شهرتُه بسبب أغنيته "جمهوريّة قلبي،" التي تقول: "نحنا ما عنّا بنات تتوظّف بشهادتها/ عنّا البنت بتدلّل كلّ شي بيجي لخدمتها!"

هنا كان الأبُ شريكَ المتحرِّش في منع الفتاة من العمل، ولو عن "حسن نيّةٍ" في أحسن التقديرات.

د) هناك نوع من التحرّش سمعتُ كثيرًا من صديقاتي يشتكين منه، وهو التحرّش الإلكترونيّ. هذا النوع يستهوي الجبناءَ والخجولين بشكلٍ خاصّ، لأنّه يتيح لهم إخفاءَ هويّتهم عن ضحاياهم، فيفبركون صورًا وأحاديثَ مع الفتيات،  ثم يعمدون إلى ابتزازهنّ بها وتهديدِهنّ بنشرها و"فضحهنّ" أمام الملأ، ما لم يقدّمْن للمتحرِّشين مبالغَ أو "خدماتٍ" معيّنة.

هـ) على الصعيد الشخصيّ، أذكر أنّ أحدَ الأشخاص حصل على رقم هاتفي بواسطة تطبيقٍ محدّد يتيح له ذلك بمجرّد معرفة رقم سيّارتي. فانهال عليّ بالرسائل الخطّيّة المزعجة طوال أسبوعين، قبل أن يتوقّف لأنه لم يلقَ أدنى استجابة مني.

والسؤال هنا: أيُّ دورٍ للدولة؟ للقانون؟ أين الخصوصيّة؟ أين حماية الأفراد؟ أين كرامتُهم في وطنهم؟

 

المتحرّش قبل مغادرته الباصَ

 

في مواجهة أشكال التحرّش الجنسيّ المقيتة، اندفع بعضُ الأهل إلى فرض قوانين صارمة على بناتهم، من قبيل: تحديد ساعات عودتهنّ إلى المنزل، ودعوتهنّ إلى ركوب الباص بدلًا من سيّارات الأجرة، وفرضِ لباسٍ "محتشم" عليهنّ، وصولًا إلى تقييد حركتهنّ خارج المنزل.

غير أنّ هذه القوانين لا تضمن منعَ التحرّش (ناهيكم بأنّها تقيّد حريّةَ المرأة في الحركة، ومن ثمّ تطوّرَها الذاتيّ ـ ــ وهذا موضوعٌ يحتاج إلى بحث مستقلّ).

أ) فالتحرّش قد يحصل في وضح النهار لأنّ المتحرِّش لا يفكّر في التوقيت وحده، أو لا يفكّر فيه أساسًا، بل  يفكّر أساسًا في إشباع رغباته وإطفاء احتقاناته. وأذكر أنّ صديقةً لي جاءتني ذات يوم وهي ترتجف بعد أن تتبّعها شابٌّ في عزّ الظهيرة من منزلها إلى مكان عملها محاولًا لمسَها، ولم تجد رجلَ أمنٍ واحدًا تلجأ إليه.

ب) ركوب الباص لا يضمن عدمَ التحرّش، على ما بيّنتُ آنفًا، خصوصًا مع تواطؤ الركّاب الآخرين خوفًا أو استخفافًا بالتحرّش.

ج) الملابس لا تَحُول دون التحرّش؛ فقد يحصل مع فتاةٍ في باص ترتدي الزيَّ المدرسيّ، أو مع فتاة محجّبة تسير في وسط الشارع. على العكس: قد يكون اللباس المكشوف أمرًا طبيعيًّا لا يستثير الغرائز. بكلام آخر: ليس المطلوب تغييرَ  اللباس، بل تغيير "ثقافة" النظر و"ثقافة" الناظر أحيانًا.

***

ختامًا، التحرّش لا يحارَب بالكتمان، ولا بالاستسلام، وإنّما بمواجهة المتحرِّش، ومواجهةِ كلّ مَن يحميه أو يتواطأ معه أو يسكتُ عنه.

                   بيروت

(1) http://https://harassmap.org/en

هنادي خزعل

طالبة ماجستير قانون في جامعة الحكمة في لبنان.