جدّتي أمتعُ... وأذكى!
22-06-2018

 

في آخر القرية، بين أشجار صنوبرٍ شامخة، يقبع منزلُ جدّتي.

ذاتَ ليلة ميلاد، وتراتيلُ فيروز تملأ جنباتِ الدار، والشجرةُ تُشعّ بأبهى الألوان في زاوية الصالون، اجتمعت العائلةُ على طاولة العشاء. راحت جدّتي تتأمّل أبناءها وأحفادَها، ساعيةً ــ على ما بدا لي ــ إلى استيعاب ملامحهم الجديدة بعد عام: التجاعيد على جبين أبي، أماراتُ البلوغ على وجوه إخوتي، جدائل أختي،... "لشدَّ ما كبرتم يا أولاد، وازددتم جمالًا!"

انتهى العشاء، وتوجّهتْ جدّتي إلى المطبخ لتضع اللمساتِ الأخيرةَ على كعكة العيد، وهي تفكّر في ما سترويه لنا عن مغامراتها وذكرياتها الأولى، على ما جرت العادةُ في كلّ ميلاد. وما لبثتْ أن عادت إلى الصالون، فسبقتْ خطواتِها رائحةُ قالب الحلوى، الذي وضعتْه في وسط الطاولة.

جلستْ مبتسمةً. وأدارت نظرَها فينا. وحينها، لم يكن صعبًا أن أرى كيف تبدّلت ابتسامتُها إلى فتورٍ وخيبة مريرة.

والدي يتابع عبر هاتفه آخرَ أخبار الانتخابات: "شوفوا أدّيش جاب أصوات هالجحش! يلعن أبو المصاري شو بتعمل!" شقيقي الأكبر يعبس ويبتسم، فيما هو يجري محادثةً عبر الواتس آب مع حبيبته، التي ما إنْ تنفصل عنه ثوانيَ حتى تعودَ إليه. شقيقتي مشغولة بـ"تلييك" صديقاتها على الفايسبوك، وبالتقاط السيلفي مرةً تلو مرة. شقيقي الأصغر غارقٌ في مشاهدة أحد الأفلام على جهاز الآيباد، والسمّاعاتُ في أذنيه. أمّا أنا فأنقّل ناظريّ بين الجميع.

أجالت جدّتي عينيها من حولها. وسرعان ما غادرت الصالون باتجاه غرفة نومها.

***

مضت ساعة أو نحوها، وقالبُ الحلوى غارقٌ في اللامبالاة. فجأةً، تنّبه والدي إلى غياب جدّتي، فأسرع إلى غرفتها. تبعتُه. فألفيناها نائمة.

"ماما! مريضة؟ خير؟ طمنيني، شو فيه؟"

"كلّ الخير يا ابني،" قالت، "بس ما كان بدّي أزعجكم."

قبّلها أبي في جبينها، وخرج. توقّف قليلًا، ثم رأيتُه يتوجّه نحو المطبخ. لحقته من جديد. وإذ به أراه يتناول طنجرةً كبيرة ويقفل عائدًا إلى الصالون.

توقف في وسط الصالون، وطلب إلى الجميع، بلهجةٍ شبه آمرة، أن يضعوا هواتفَهم داخل الطنجرة. ثم أغلقها بإحكام!

حمل جدّتي بين ذراعيْه ووضعها على الكنبة، وطلب إليها أن تحدّثنا عن جدّي: شخصيّته، حياته، كيف تعرّفتْ إليه، كيف تزوّجا،....

برقتْ عينا جدّتي. تلعثمتْ قليلًا، وما هي إلّا ثوانٍ حتى انطلقتْ تخبرنا عن أجمل قصة حبّ. كان عذابًا حقيقيًّا، وطويلًا، ومضْنيًا، وعذبًا، ذاك الذي عانياه جدّايَ، قبل أن يظفرَ واحدُهما بالآخر، متحدّييْن كلَّ الفوارق الطائفيّة والطبقيّة والعمريّة، وكلَّ أهوال الحروب. وكنّا نستوقفها بين الفينة والأخرى، لنسألها عن تفصيلٍ ههنا أو هناك. ومن حديثها الشجيّ، المليء بالتعرّجات والإخفاقات والإنجازات، ارتسمتْ أمام أنظارنا لوحةٌ تمور بالحركة. ولوهلةٍ فكّرتُ أنّ ما أسمعُه للتوّ قد يكون أكثرَ صدقًا وروعةً من كلّ المسلسلات التلفزيونيّة التي شاهدتُها طوال حياتي.

تسامرنا حتى طلوع الفجر. ذلكم هو العيدُ الحقيقيّ!

***

أمّا هواتفُنا "الذكية" فبقيتْ حيث أودعها أبي قبل ساعاتٍ طويلة: في الطنجرة!

بيروت

هنادي خزعل

طالبة ماجستير قانون في جامعة الحكمة في لبنان.