مكافحة الفساد الماليّ: أين دور هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان؟
28-12-2019

 

منذ 17 تشرين الأول المنصرم، يتصدّر شعار "يسقط حكمُ المصرف" ساحةَ الحَراك اللبنانيّ، إذ تتعرّض سياساتُ "مصرف لبنان" النقديّة إلى انتقاداتٍ جمّة. ومع ذلك، فقليلًا ما جرى التطرّقُ إلى غياب "هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان،" التي يرأسها رياض سلامة، عن القيام بدورها تجاه مكافحة الفساد والإثراءِ غيرِ المشروع.

سنحاول هنا استعراضَ الدور المُلقى على عاتق هذه الهيئة قانونًا في شؤون مكافحة الفساد، والسُبلِ الآيلة إلى تفعيل هذا الدور.

 

أوّلًا: في تعريف الهيئة وتحديد صلاحيّاتها تجاه مكافحة الفساد. تنصّ المادّة السادسة من القانون 44/2015 (قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) بفقرتها الأولى على ما يأتي: "تنشأ لدى مصرف لبنان هيئةٌ مستقلّةٌ، ذاتُ طابع قضائيّ، تتمتّع بالشخصيّة المعنويّة، غيرُ خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة المصرف، وتسمّى فيما يلي "هيئة التحقيق الخاصّة" أو "الهيئة.""[1] وتنصّبُ الفقرة نفسُها حاكمَ مصرف لبنان، أو مَن ينتدبُه، رئيسًا لهذه الهيئة.

وبحسب الفقرة التالية من المادّة ذاتها، يكون من مهامّ الهيئة اتّخاذُ الإجراءات المناسبة في صدد العمليّات أو الحسابات المرتبطة بتبييض الأموال، ومنها تجميدٌ احترازيٌّ على هذه الحسابات والعمليّات، ومراسلةُ الهيئات النظيرة في العالم من أجل تقفّي أثر الأموال الخارجة من حساباتٍ مشتبهٍ فيها. وما دامت الفقرة 9 من المادّة الأولى من القانون نفسه قد نصّت على اعتبار "الفساد، بما في ذلك الرشوةُ وصرفُ النفوذ والاختلاسُ واستثمارُ الوظيفة وإساءةُ استعمال السلطة والإثراءُ غيرُ المشروع،" ضمن مصادر الأموال غير المشروعة، فإنّ عمليّةَ إخفاء الأموال الناجمة عن هذه المصادر تندرج تحت عنوان "تبييض الأموال" بحسب منطوق الفقرة الثانية. وتاليًا، تكون لهيئة التحقيق صلاحيّةُ وضع الإشارة وتجميدِ حسابات مَن يُشتبه بقيامهم بأعمالٍ مرتبطةٍ بالفساد والإثراء غير المشروع، من دون الاعتداد بـ"السرّيّة المصرفيّة."

وقد تلقّت الهيئة العديدَ من البلاغات المتعلّقة بمكافحة الفساد، ومنها كتابٌ مقدّمٌ من "نادي القضاة،"[2] بتاريخ 31 تشرين الأول المنصرم، وهو ينصّ على طلب "التجميد الاحترازيّ والموقّت لحسابات كلّ السياسيين والموظّفين الكبار والقضاة، وكلّ مَن يتعاطى الشأنَ العامّ، وشركائهم من متعهِّدين وغيرِهم (وعائلاتِهم)، [إذا تجاوزتْ] قيمةُ [تلك الحسابات] 750 مليون ليرة لبنانيّة، فرديًّا أو مجموعةً." كما ينصّ على "رفع السرّيّة المصرفيّة لصالح القضاء، ومنع التصرّف بها." وطلب الكتابُ المذكور التحقّقَ من مصدر أموال هذه الحسابات، وغير ذلك من الإجراءات التي تساهم في ملاحقة الفاسدين والأموال المختلَسة (أو ما اصطُلح على تسميته "الأموال المنهوبة"). بيْد أنّ هيئةَ التحقيق لم تقم بأيٍّ من الطلبات الواردة في الكتاب، على الرغم الضغط الشعبيّ والسياسيّ الكبير الدافع في هذا الاتجاه.

 

تلقّت الهيئة بلاغات متعلّقة بمكافحة الفساد، منها كتابٌ مقدّمٌ من "نادي القضاة"

 

وإذا كان المعيار الذي وضعه نادي القضاة - أي الاشتباهُ في حسابات العاملين في الشأن العامّ وشركائهم من المتعهِّدين إذا زادت عن 750 مليون ليرة - موضعَ نقاشٍ محتمل، فماذا عن حسابات الوزراء الثلاثة الذين أحال النائبُ العامُّ الماليّ علي إبراهيم ملفَّ الادّعاء عليهم على "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء"؟ أليست هذه الإحالة - على الرغم من عدم تشكيلها ادّعاءً بالمعنى القانونيّ للكلمة -[3] قرينةَ اشتباهٍ بهم تدفع الهيئةَ إلى تجميد حساباتهم موقّتًا، وإلى التحقّق من مصدر الأموال الموجودة فيها؟ وماذا تنتظر الهيئة من أجل مراسلة نظيراتها للتحقّق من سجلّات حساباتهم في الخارج وموجوداتِها، خصوصًا أنّ إبراهيم هو نفسه عضوٌ في هذه الهيئة؟![4]

هذه الإجراءات يمكن تطبيقُها أيضًا على الموظّفين الملاحَقين من قِبل القضاء العاديّ في جرائم الاختلاس والهدر والإثراء غير المشروع والجرائم المرتبطة بالفساد، وإنْ لم يطلبْ قضاءُ التحقيق والحكم ذلك،لا سيّما في ما يتعلّق بالحسابات خارج لبنان وبموجوداتها لأنّها تدخل ضمن صلاحيّة الهيئة عند مجرّد الاشتباه.

 

ثانيًا: في اقتراح قانون لتعديل صلاحيّات الهيئة

تقدّمتْ "كتلةُ لبنان القويّ" باقتراح قانونٍ يرمي إلى تعديل صلاحيّات هذه الهيئة عبر تعديل أحكام القانون 44/2015. وينصّ الاقتراح على إلزام الهيئة التحقيقَ في حسابات الموظّفين أو القائمين بخدمةٍ عامّةٍ أو في حسابات القضاة، بحسب قانون الإثراء غير المشروع (قانون رقم 154/99)، نتيجةً لأيّ شكوى مقدَّمة من متضرِّر أو عفوًا من تلقاء نفسها. فإنْ وجدت الهيئةُ شبهاتٍ، أحالت الملفَّ، بعد تجميد الحسابات، على هيئةٍ قضائيّةٍ خاصّة (مؤلّفة من: الرئيس الأوّل لمحكمة التمييز رئيسًا، وعضويّة كلٍّ من رئيس مجلس شورى الدولة، ورئيس ديوان المحاسبة، والنائب العامّ التمييزيّ، والمدّعي العامّ لدى ديوان المحاسبة).

 

ثالثًا: الهيئة والإجراءات المتعلّقة بالفساد

إنّ توسعة صلاحيّات الهيئة من أجل الإسراع في مكافحة الفساد أمرٌ مقبولٌ نظريًّا. لكنّ الهيئة، عمليًّا، لم تقم إلّا بإجراءاتٍ شكليّةٍ في هذا الصدد. فوفقًا للتقرير الرسميّ السنويّ الصادر عن الهيئة سنة 2018،[5] فإنّ عددَ حالات الفساد التي تابعتها أجهزة الهيئةُ ذلك العام هو 21 من أصل 475، أيْ 4.4 % فقط. لكنْ إذا ما محّصنا النظرَ في الأرقام، فسنجد أنّ 13 حالة من أصل الـ21 حالة تتعلّق بفسادٍ خارج لبنان، أي إنّ النسبة ستقلّ إلى 1.6 % فقط داخل لبنان. أمّا إذا نظرنا إلى أرقام تقرير العام 2017، فسنجد حالتين متعلّقتين بفساد داخلي من أصل 586، أيْ 0.3 % من مجمل الحالات فقط. وهذه النِّسب تُظْهر بشكل جليّ أنّ مكافحة الفساد هي من آخر أولويّات الهيئة. وعليه، فإنّ توسعة صلاحيّات الهيئة ستكون بمثابة إعطاءِ مَن لم يكافح الفسادَ طوال سنين (إلّا لمامًا) صلاحيّاتٍ جديدةً لمكافحته! وإذا أُريدَ إقرارُ أيّ توسعةٍ أو تطويرٍ في صلاحيّاتها - وهو أمر مطلوب - فيجب أن يترافق ذلك مع تغيير في بنية هذه الهيئة، يعطي العضويّةَ القضائيّةَ فيها مثلًا دورًا أكبرَ من دور حاكم مصرف لبنان، خصوصًا أنّ ذلك يتآلف مع الفقرة الأولى من المادّة السادسة من القانون 44/2015، التي تؤكّد أنّ الهيئة "ذاتُ طابع قضائيّ" وأنّها "غير خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة المصرف." أو يمكن، مثلًا آخرَ، أنْ تُعطى "الهيئةُ الوطنيّةُ لمكافحة الفساد" - المزمَعُ إنشاؤها - دورًا جدّيًّا في هذا الصدد. إنّ مثلَ هذه التغييرات في الهيكليّة، بالإضافة إلى توسعة الصلاحيّات، قد يؤسّس لتطويرَ في الأداء.

على أيّ حال، وحتى نرى تطوّرًا في أداء الهيئة، سنبقى نتكهّن عن أسباب التلكّؤ في مكافحة الفساد، وسيكون لنا الحقُّ في أنْ نسأل: هل وُجدت الفقرةُ المتعلّقة بالفساد "سهوًا" في هذا القانون، ما دام أغلبُ الصناعة التشريعيّة لدينا قائمًا على النسخ واللصق، وما دام الهدفُ الأساسُ من هذا القانون الامتثالَ إلى معايير أمريكيّة - دوليّة؟

بيروت

[1] أُنشئت الهيئة بموجب القانون رقم 318/2001 - قانون مكافحة تبيض الأموال. لكنّ القانون 44/2015 وسّع من مهامّها بشكل كبير. وكان الهدف من القانونيْن في الأساس هو الامتثال للمعايير الأمريكيّة (الدوليّة) التي تضع عنوان "تبييض الأموال" شمّاعةً للوصول إلى أيّ حساب مصرفيّ في العالم. ومن ثمّ كان التشريعان مخرجًا قانونيًّا لرفع السرّيّة المصرفيّة في لبنان أمام السلطات الأمريكيّة، ممثّلةً في هيئة Internal Revenue Service (IRS) من أجل تطبيق قوانينها الضريبية، ومنها قانون FATCA المتعلّق بتحصيل الضرائب من المكلَّفين خارج الولايات المتحدة. وهذا خرقٌ تامٌّ لمبدأ كلاسيكيّ في القانون الضريبيّ المقارن، ألا وهو مبدأ "إقليميّة الضريبة." كما سمح هذان التشريعان بتجميد أيّ حساب أو ملاحقة أيّ عمليّة تصنّفها السلطاتُ الأمريكيّة "إرهابيّةً." فتكون السرّيّة المصرفيّة في لبنان مرفوعةً أمام وزارة الخزانة الأمريكيّة، ومنعقدةً أمام وزارة الماليّة اللبنانيّة!

[2] جمعيّة لبنانيّة لا تتوخّى الربح، أسّسها قضاة لبنانيّون. من غاياته: المساهمة في تحقيق استقلاليّة السلطة القضائيّة، وتعزيز ثقافة المساءلة في المجتمع، وتكريس دولة القانون، وتقديم الإخبارات بخصوص جرائم الفساد والإثراء غير المشروع.

[3] في تفصيل القيمة القانونيّة لإحالة النيابة العامّة الماليّة ملفَّ الادّعاء على وزراء الاتصالات السابقين (نقولا الصحناوي، وبطرس حرب، وجمال الجرّاح)، راجعْ مقال عصام إسماعيل حول الموضوع:

http://www.mahkama.net/?p=16948&fbclid=IwAR3Mw6O62r6tAlnGc44w7v99mdGcjblZKlgDXKF4a0BXcFNWWpOCwdJhEsk

[4] تنصّ المادّة السادسة من القانون 44/2015 على عضويّة "القاضي المعيَّن في الهيئة المصرفيّة العليا" في هيئة التحقيق الخاصّة.

[5]  التقارير السنويّة للهيئة موجودة على موقعها الرسميّ: https://sic.gov.lb/

اسامة رحال

كاتب لبنانيّ، متخصّص بالقانون الدوليّ.