الصهيونية وأخواتها
02-11-2018

 

للصهيونيّة أخواتٌ وإخوانٌ من لحمٍ ودم، وأشخاصٌ معنويّون من مؤسّساتٍ ومنظّماتٍ وحكوماتٍ وأنظمةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّة تَنصر الباطلَ على الحقّ، والظلمَ على العدل ــ ــ فهي في صفّ الصهيونيّة وأدواتها.
 

1 ـ إخوانٌ من لحمٍ ودم

أ ــــ الراهبة. اسمُها تيدولا عبدو، وهي راهبة محاضِرة في كلّيّة العلوم الدينيّة في جامعة القدّيس يوسف، وفي معهد المواطَنة وإدارةِ التنوّع في مؤسّسة أديان. تقدّم عبدو الدينَ اليهوديَّ "كما يراه أبناؤه،" وذلك من ضمن برنامجٍ للتنشئة على الأديان والشأنِ العامّ، ينظّمه معهدُ أديان. تتحدّث الأخت عبدو إلى طلّابها عن "تهجير الشعب اليهوديّ وحقِّه في وطنه وفي عودته إليه، بعدما هجّرهم الآشوريون وسباهم البابليّون."

لكنّ الأخت تُغيِّب ما في التوراة والتلمود من مشاهدَ عنصريّة، وما يسود فيهما من قِيم الغيريّة (الآخر، الغريب، غير الصافي) وقيمِ العنفِ (المرتبطةِ بالحرب وسفكِ الدم والقتل).

ثم تردف أنْ ليس صحيحًا ما يقال من أنّ حلمَ "اليهود" هو بناءُ دولةٍ من الفرات إلى النيل؛ فذلك هو ما اخترعه العربُ والفلسطينيون، وياسر عرفات تحديدًا، ثمّ ألصقوه زُورًا باليهود لتأليب الرأي العامّ العربيّ والعالميّ ضدّهم. والحقيقة، في رأي الأخت، أنّ اليهود لم يحلموا سوى بإقامة وطنهم القوميّ واستعادة "بيتهم" الذي هُجِّروا منه ــ ــ على ما ينقل بعضُ الطلّاب المشاركين في البرنامج.

أهذا درسٌ في تاريخ الأديان، وفي الدين اليهوديّ تحديدًا؛ أمْ هو تبنٍّ واضحٌ وصريحٌ للرواية التلموديّة، التي وظّفتْها الحركةُ الصهيونيّةُ في مقاربتها لتاريخ اليهود، من أجل اختراعِ "الشعب اليهوديّ"؟

فالواقع أنّ اليهود مجموعاتٌ دينيّةٌ متعدّدة، لا شعبٌ واحدٌ "مشتّتٌ" في العالم بأسْره. والشعور الدينيّ اليهوديّ لم يكن محصورًا في قوميّةٍ واحدة، بل كان موزَّعًا في قوميّات عدّة. ثمّ جاءت الحركةُ الصهيونيّةُ بالمجموعات الدينيّة اليهوديّة من شتّى أصقاع الأرض لتزرعَها في أرض فلسطين، بعد أن هجّرتْ أهلَ فلسطين الأصليين منها، بشكلٍ إجراميٍّ وممنهج، وبغطاءٍ غربيّ، ولغاياتٍ استعماريّة.

والحقّ أنّ هذه الخلاصات منتشرة في العديد من كتابات اليهود المعاصرين، كالتي تُمْكن قراءتُها في كتاب الأستاذ الجامعيّ شلومو ساند، اختراعُ الشعب اليهوديّ. وهذه الكتابات لا تتفق مع المقاربة الصهيونيّة لتاريخ المجموعات اليهوديّة، وتغيب عن لسان أخت الفكر الصهيونيّ، الراهبة تيدولا عبدو.
 

ب ــــ الأئمّة والدعاة. لم يكن عبد الرحمن السديس وعائض القرني وحدهما اللذيْن استرجعا آياتٍ وأحاديثَ قرآنيّةً، في الحرم المكّيّ، كما على الهواء مباشرةً، عن بني إسرائيل، واستيطانِ أرض كنعان، للاستدلال على "شرعيّة" الوجود الإسرائيليّ اليوم. بل كان معهما، في ذلك، عددٌ آخرُ من الأئمّة والدعاة السلفيين.

بيْد أنّ الثابت هو أنّ القرآن لم يأتِ على أيّ ذكْرٍ يمكن من خلاله الاستدلالُ على "إسرائيل" وطنًا قوميًّا يهوديًّا، بل في وصفهم أبناءَ يعقوب لا غير. ولا هو تبنّى الجينيالوجيا شعورًا قوميًّا؛ وإلّا لهَجَر نصفُ سكّان المعمورة نصفَها الآخرَ بحثًا عن "بيوت" آبائهم المفترضين. والثابت أيضًا أنّ العبرانيين، لا بني إسرائيل، هم  آخرُ المجموعات اليهوديّة التي توافر لدى أفرادها شعورٌ قوميٌّ في الحدّ الأدنى من العناصر التي التقت عليها أسبابُ نشوء الأمم، في الماضي السحيق من تاريخ هذا الشرق.

ثمّ إنّ رسولَ المسلمين لم يُبرمْ أيَّ صلحٍ مع اليهود في وصفهم كيانًا سياسيًّا، أو شعبًا ذا وعيٍ قوميّ مستقلّ، بل في وصفهم محضَ مواطنين في دولة المدينة. وهذا مخالفٌ لمزاعم إخوان الصهيونيّة من الأئمّة والدعاة العرب الذين ينبشون عن أحداثٍ "تاريخيّةٍ" يبرِّرون بها مشروعيّةَ الصلح مع "إسرائيل."

لقد عمل "الإسلام،" بوجهه السلفيّ والوهابيّ والإخوانيّ، على تفادي الصِدام مع الصهيونية... بل طبّع معها في السرّ وحاباها، ثم صافحها في العلن وصفح عن جرائمها، ووجد في نسختها الدينيّة المتشدّدة مرآةً لنفسه ولمقاربته في قراءة التراث الدينيّ. وهذا "الإسلام" حضّر المقدِّماتِ لأنظمة الرجعيّة العربيّة، من مشيخاتٍ وسلطناتٍ وممالك، من أجل التعامل مع الكيان الصهيونيّ في المنطقة أيضًا، وذلك من زاوية التقاء النظراء الفاقدين للشرعيّة الشعبيّة والقانونيّة والأخلاقيّة.

هؤلاء الأئمّة والدعاة "المسلمون،" من سلفيين ووهّابيين وإخوان مسلمين، هم إخوانُ الصهيونيّة وأذرعتُها.

 

لقد عمل "الإسلام،" بوجهه السلفيّ والوهابيّ والإخوانيّ، على تفادي الصِدام مع الصهيونية

 

2 ـ إخوانُ الصهيونيّة المعنويّون

أ ــــ "أديان" نموذجًا. بتمويلٍ خارجيّ، بريطانيّ وأميركيّ، ومن جهاتٍ ذاتِ صبغةٍ دينيّةٍ محافظة (كـ"الهيئة الكاثوليكيّة للإغاثة")، تسعى جمعيّةُ أديان إلى فرض أجندةٍ خاصّةٍ بها على وزارة التربية والمركز التربويّ للبحوث والإنماء في لبنان. وقد تمكّنتْ هذه الجمعيّة من التسلّل إلى وِرَش التطوير التربويّ والسياسات التربويّة من خلال تبنّي مفهومٍ ملتبسٍ ومَحَطِّ جدلٍ، كمفهوم "المواطَنة الحاضنة للتنوّع الثقافيّ والدينيّ" ــ ــ وهو مفهوم استعاده رئيسُ "أديان،" الأب فادي ضو، بشكلٍ مسطّح، من المقاربات الفارقيّة للمواطنيّة (Differentiated Citizenship)، التي بشّر بها قبله الرئيسُ السابقُ للجامعة اليسوعيّة، الأب سليم عبّو. وهو يرسّخ التمايزَ في الحقوق بين المواطنين الأفراد لصالح حقوق الجماعات الدينيّة التي ينتمون إليها، بما يَضرب أسسَ المواطنيّة بمقاربتها المدنيّة.

والجمعيّة المذكورة تقوم أيضًا بتضخيم حيّز المَظاهر والممارسات الدينية في المجال العامّ، والغلوِّ في التطرّق إلى الخصوصيّات الثقافيّة والدينيّة في لبنان والعالم العربيّ، وتجعل المجموعاتِ الدينيّةَ جُزُرًا معزولةً وذاتَ ميزاتٍ ثقافيّةٍ متفرّدة. ونتيجةً لهذه المقاربة، تصبح الحدودُ بين الجماعات الدينيّة حدودًا بين الثقافات أيضًا، أو وعيًا اجتماعيًّا وقوميًّا. والحقّ أنّ هذا المسعى هو البيئة الحاضنة للتطبيع الثقافيّ والتربويّ، في لبنان والعالم  العربيّ، مع الصهيونيّة و"إسرائيل."

وفي المقابل، سعت المؤسّسةُ المذكورة إلى الاستغناء عن مفاهيم اجتماعيّة واردة في "وثيقة الوفاق الوطنيّ،" وإلى تخطّيها، كمفهوم الانصهار الوطنيّ والاندماج الاجتماعيّ. بل هي وصلتْ، في دليلٍ للمدرّب، صادرٍ عن معهدٍ تابعٍ لها، هو معهدُ المواطَنة وإدارةِ التنوّع، إلى حدّ المجاهرة بوضع نشاطٍ تحت عنوان "مكتوب عالجبين،" يَستعمل فيه المتدرِّبون أوراقًا مكتبيّةً لاصقةً صغيرةً، كُتبتْ عليها "صفاتٌ مسبّقة" ــ ــ وضمن هذه الأخيرة اتّهامُ الآخر بأنّه "صهيوني"! ومن أهداف النشاط "التعاطفُ مع الآخرين" والتزامُ "تقزيم الصور النمطيّة وإعادتُها إلى ما هي عليه: مجرّد وجهة نظر مبنيّة على خبرة صغيرة، لا تشكّل الحقيقة." 

المريب أنّ مؤسّسة أديان تقوم باستحضار الصهيونيّة من خارج موقع العداء المطلق الذي نكنُّه لها، وتحشرها في نشاطٍ ملتبسٍ كهذا، وتصفها بأنها محضُ "صورة نمطيّة،" شأن صورٍ نمطيّةٍ أخرى "مبنيّةٍ على خبرةٍ صغيرةٍ لا تشكّل الحقيقةَ." وبذلك تدفع أساتذتَنا وطلّابَنا في متاهة بناء/ وهدم/ التمثّلات الجماعيّة المعهودة حول الصهيونيّة، وتميّعُ الصورةَ المتأصّلةَ في مجتمعنا، القائمةَ على مناهضة الصهيونيّة و"إسرائيل" كشرّ مطلق.

كما أنّ "أديان" تربط ذكرَ العداء لـ"إسرائيل" (هذا إذا اضطُرّت إلى إشهاره) بالتنديد فورًا بـ"كلّ معتدٍ وإرهابيّ" آخر. وهذا ليس بموقفٍ وطنيّ مبدئيّ، وكافٍ في حدّ ذاته، من جمعيّةٍ أصبحتْ شريكةً في التطوير التربويّ في لبنان، لا سيّما في الموادّ الاجتماعيّة الحسّاسة تجاه تشكّل الوعي الوطنيّ لدى أساتذتنا وتلاميذنا. الجدير ذكرُه أيضًا أنّه ليس في أدبيّات الجمعيّة، على ضحالتها، ما تخصّ به الكيانَ الغاصبَ من عداءٍ مبدئيٍّ صارم وحاسم ولا يقبل المساومة.

ب ــــ هواجس المجموعات الدينيّة: مشروعٌ شقيقٌ للصهيونيّة. في كتاب طارق متري، سطورٌ مستقيمةٌ بأحرفٍ متعرّجة: عن المسيحيين الشرقيين والعلاقاتِ بين المسيحيين والمسلمين (2007)، ينقل المؤلِّف نظرةَ المجتمع الصهيونيّ اليوم إلى شؤون الأقلّيّات الدينيّة المسيحيّة في العالم الإسلاميّ. ويقدِّم، نتيجةً لتحليل عدد من الأبحاث للكاتبة بات ياعور، أسبابًا تضع المجموعاتِ الدينيّةَ المتوجّسة أمام خياريْن:

ــــ إمّا أن تحذوَ حذوَ الصهيونية، فتكفّ عن معاداتها، وتنشئ أوطانًا قوميّةً على قياس وعيها الدينيّ؛

ــــ وإمّا أن تحاربَ الصهيونيّة، فتضلّ الطريقَ، بعدما تمّ تجريبُ كلّ المشاريع والمعادلات السياسيّة "التي باءت جميعُها بالفشل": كالديمقراطيّة الليبراليّة، والقوميّة العَلمانيّة، والاشتراكيّة.

وتحمِّل بات ياعور النخبَ والإكليروس المسيحيين مسؤوليّةً كبيرةً في تزايد انعطاب جماعاتهم. بل تزدريهم لأنّهم توهّموا أنفسَهم قادرين على تحديث الإسلام والالتفافِ على سيطرته من خلال المشروع الوطنيّ.

ويستنتج متري من هذه القراءات أنّها تتماهى مع/ بل تتخطّى/ سائر ما ادّعته الصهيونيّةُ في وصفها "المشروعَ الناجحَ" للتخلّص من مشكلة الدونيّة التي حُكم على الأقليّات الدينيّة في المجتمع الإسلاميّ أن تقع في أسْرها.

في رأينا أنّ إثارةَ هواجس المجموعات الدينيّة المختلفة في العالم الإسلاميّ، في ظلّ غياب أيّ مشروعٍ حضاريٍّ لتحرير الإسلام السياسيّ من طموح الحكم وفكِّ النظام الاجتماعيّ في الإسلام من رباط الشريعة، تُعدّ مشروعًا/أخًا للصهيونية. ذلك لأنّها تشجّع المجموعاتِ الدينيّةَ المتوجّسة على الانطلاق في مشاريعَ تؤكِّد وعيَها الدينيّ وتغذّيه، ليصبح وعيًا ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا. وهذا ما ينحو نحو أنظمة المحاصصة الطائفيّة، أو فدراليّات الطوائف، أو الانعزاليّة الطائفيّة، التي تبني مشاريعَها حول الهويّات الدينيّة الصغرى، وذلك على رمية حجرٍ فقط من مشروع الصهيونيّة في "قومنة" الهويّة الدينيّة اليهوديّة.

***

في أحد الأيام كنتُ أقلّب قنواتِ التلفزيون الفضائيّة بحثًا لابنتي، التي كانت تبلغ من العمر ثلاثَ سنوات، عن رسومٍ متحرّكة. وكنتُ قد استنفدتُ جميعَ الاحتمالات التي يلجأ إليها الأبُ عادةً مع ابنته في ظروفٍ مماثلة، من لعبٍ ونطٍّ وشخبطات، كي يتسنّى له إنهاءَ شغلٍ عاجلٍ كان قد بدأه. المهمّ أنّ إحدى القنوات الخليجيّة استوقفتني، وصرفتني عن شغلي العاجل وعن انشغالي بابنتي، على حدّ سواء. كانت أمامي رسومٌ متحرّكة تجسِّد طفلًا عربيًّا، بزيّه التقليديّ ولسانِه الخليجيّ، وقد قرّر ركوبَ قاربٍ مطّاطيّ وشقَّ عبابِ البحر، من دون إعلام أهله بالأمر. تاه قاربُ الطفل العربيّ في الخليج العربيّ،[1] وإذْ بمنظارِ غوّاصةٍ أميركيّةٍ يَلحظ وجودَه في المياه الإقليميّة العربيّة. تصعد الغوّاصةُ، وتبادر (بمروءة العرب) إلى انتشال الطفل من قاربه، وتوصله إلى الشاطئ، حيث كان أهلُه وأهلُ مدينته في انتظاره بقلق. شدّ الجميعُ على أيدي عناصر البحريّة الأميركيّة، وشكروهم، ووصفوهم بـ"الأصدقاء،" وودّعوهم، قبل أن يعود الأهلُ إلى ديارهم آمنين، ظافرين بصداقة الغوّاصة الأميركيّة وعطفِها. أمّا الغوّاصة فرجعتْ إلى قعر مياه بلادها الإقليميّة. وغمر الخليجَ سلامٌ وأمانٌ، وتربّى أبناؤه بألفةٍ وسعادة.

في زمنٍ أعاد إحياءَ اتفاقيّاتِ "الحماية العسكريّة" في الخليج، وهي في جوهرها احتلال؛ وفي زمنٍ يجري فيه الترويجُ للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيليّ، ولا سيّما من خلال الإعلام والثقافة والتربية؛ تبقى روحُ الشعوب في هذه الأرض ترفض أطولَ احتلالٍ معاصرٍ في منطقتنا، متمثّلًا في الصهيونيّة، وفي ما زرعتْه بين ظهرانينا من أخواتٍ وإخوانٍ ومؤسّساتٍ ومنظّماتٍ وحكوماتٍ وأنظمةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّة.

ذاكرةُ الحروب العربيّة ــــ الإسرائيليّة لا تندمل، ولا صورةُ ضحايا المجازر والجرائم، ولا البطولاتُ التي سطّرتْها حركاتُ المقاومة كافّةً وحملاتُ مناهضة التطبيع.

بيروت

[1] تعبيرًا عن السيادة الوطنيّة، وبدافعٍ من الحسّ القوميّ، تلجأ دولُ الخليج قاطبةً إلى استخدام تعبير "الخليج العربيّ" بدلًا من "الخليج الفارسيّ."

علي خليفة

أستاذ في كلية التربية - الجامعة اللبنانية. له أبحاث في مجال التربية والمواطنيّة وشؤون المجتمع المدنيّ، ومنشورات في دوريات علميّة، وكتب منها: وطن بلا مواطنين (2009) وأبناء الطوائف (2007).