زهر الأوهام
27-03-2019

 

في الماضي كنتُ أتذمّر كثيرًا من عملي اليوميّ في محلّ الزهور، من التاسعة صباحًا حتّى الثامنة مساءً، بفواصلَ قصيرةٍ لا تكفي إلّا لتناولِ الطعام في المنزل والعودةِ إلى العمل من جديد.

ولكنّني أصبحتُ أحبُّ كلَّ هذه المنغِّصات منذ أن قصدْتَ المحلَّ لأوّل مرّة الشّهرَ الماضي. قلبي يُخبرني بأنّكَ ستأتي اليوم أيضًا. أُسرعُ إلى مرآتي حالما أستيقظ. أرتدي ثوبي الليلكيّ. أصفّف شعري بعناية. لا تعجبني تسريحتُه. أجرّبُ تسريحةً أخرى. حتّى أستقرَّ على واحدة.

أنقِّلُ عينيَّ بين أركان حُجرتي التي تعمُّها الفوضى، مفتّشةً عن حقيبتي. ماذا لو وضعتَ لي رسالةً صغيرةً في الحقيبة من دون أن أنتبه؟ ولكنْ كيف لك أن تفعلَ ذلك وأنا أضعُها دائمًا قربَ الباب؟ حسنًا إذًا، لا ضيرَ في أن أضعَها اليومَ على الكرسيّ في الداخل، أو قربَ الورودِ الحمراء، أو خلفَ واجهةِ المحلّ.

تقعُ عينايَ على حقيبتي المستقرّة على الأريكة أمامي تمامًا. عجبًا كيفَ لم أنتبِه لها! أفتحُها، فلا أجدُ شيئًا جديدًا. أهمسُ لنفسي: "ربّما أجدُ اليومَ أو غدًا." أحملُها و أمضي.

***

أبدأُ يومي - كالمعتاد - بشئٍ من الرّتابة. أرتّبُ المكان، ثم أرشُّ الورودَ بالماء، فيعبق الهواء برائحتها. يُشعرني مزيجُ العطور هذا بالرّغبةِ في الرّقص، ولكنّني أكتفي بوضع شريطٍ لإديث بياف في المسجِّلة. أسترخي على الكرسيّ.

مراقبةُ المارّة من خلف الزجاج أكبرُ مؤشِّرٍ على بلوغ أعلى درجات الملل. تُحزنني رؤيةُ العالم يتحرّكُ وأنا ساكنةٌ أفكّر في السنوات الأربع  التي هدرتُها من حياتي وأنا أتمُّ دراستي الجامعيّة وأفكّر في مدينتي التي لا يتجدّد فيها شيء إلّا المشكلات، خصوصًا البطالة.

عندما دخلتُ الجامعة كانت أحلامي تتراقص حولي. تعبتُ كثيرًا لأعيلَ أمّي وأختيَ الصّغرى. كنتُ أعدهما بأنّ أحوالنا ستتحسّن بعد أن أتخرّج. لم أكن أعلم أنّني سأكونُ ضحيّةً أخرى لكذبةٍ كبيرةٍ انساقَ خلفَها الكثيرون قبلي.

يدخل المحلَّ رجلٌ أربعينيّ. أساعده في إعداد باقةِ زهورٍ جميلة لزوجتِه في ذكرى زواجهما. يخرج، فتأخذني أفكاري نحوَكَ مرّةً أخرى: هل ستأتي اليومَ أيضًا عند السادسة؟ سأتعمّدُ البطءَ في إعداد الباقة بينما نتجاذبُ أطرافَ الحديث كما فعلنا يومَ الثلاثاء عندما سلّمتُكَ الباقةَ فقلتَ لي معتذرًا: "إنّها السادسة و النصف! يا لي من زبونٍ ثقيلٍ لا يكفّ عن الثرثرة." ولكنّني لم أعرف بماذا أجيبك فبقيتُ صامتةً. تعمّدتَ المغادرةَ سريعًا في اليومين التّاليين رغمَ أنّني بدوتُ مهتمّةً بحديثِكَ وكنتُ كذلك فعلًا.

آملُ ألّا تغادرَ اليومَ قبلَ السادسة والنّصف ولكنَّ جلوسي في هذا المكان علّمني أن أقلّلَ احترامَ الوقت وأن أحترفَ إضاعتَه.

نصفُ ساعة أو خمسُ دقائق... هذا غيرُ مهمٍّ بالنّسبة إليّ. المهمّ أن تأتي!                                                             

***

إنّها السادسةُ إلّا ربعًا. أنهضُ من مكاني لأرشَّ الزُّهورَ بالماء من جديد، فتتجدّدُ رائحةُ العطر وتتغلغلُ في الهواء. أصبحَ صوتُ بياف مُضجِرًا بعد أن قضت كلَّ هذه السّاعات تغنّي. أسحبُ الشريط من المسجِّل، وأضع "فالس الربيع" لشوبّان.

أضعُ حقيبتي قرب الورود، وأراقب الساعةَ المدوّرةَ تتثاءب وتنقسمُ إلى نصفيْن متناظريْن. أنظر ناحيةَ الباب، لأجدَكَ تجتاز الشارع. يرتعش ظلُّكَ الملتصق بكَ على ضوءِ مصباح الليل، ثمّ تمتزجُ رائحةُ عطرِكَ برائحةِ المكان.

بدا عليكَ السّرور وأنا أخبرُكَ بأنّكَ الوحيد الذي نجح في تغييرِ رأيي في هذا الحيّ منذ أن انتقلتَ إليه، بعد أن كنتُ مقتنعةً بأنّ فكرة افتتاح محلّ الزّهور هنا هي أفشلُ فكرةٍ أتت بها صاحبةُ المحلّ. سررتُ بدوري وأنا أصغي إليكَ تتحدّثُ عن حيِّكَ القديم وبعضٍ من ذكريات طفولتِك.

انتهيتُ من إعداد الباقة عندما دقّت الساعة السادسة والرّبع وشعرتُ بالحزن وأنا أحيطُها بالشريطة وأقدّمها إليك. حاولتُ أن أسألكَ: "إلى أين تذهبُ أيّها الغريب حاملًا باقتَكَ وعطرَكَ؟" لكنّني خبّأتُ سؤالي، الذي يطاردُني في كلِّ مرّة من السادسة إلى ما بعدَ السادسة بكثير، في ابتسامةٍ خفيفةٍ وأنا أقول لكَ عند الباب: "وداعًا."

عُدتُ إلى الزّهور أرشّها بالماء من جديد. وأخذتُ أفكّر: لعلّه سيعود صديقَه المريض. وماذا لو أنّه يحبُّ الزّهور، لا أكثر ولا أقلّ؟ ليس من الضروريّ أن تكونَ الباقةُ لفتاة!

***

إنّها السابعة صباحًا. أنهضُ من نومي. أُسرِعُ إلى المرآة لأغيّر تسريحةَ شعري. أفتحُ حقيبتي، فلا أجد جديدًا فيها. أهمس لنفسي: "سأضعُها على الكرسيّ هذه المرّة."

أفتحُ البابَ و أمضي.

اللّاذقيّة

نغم داؤد

وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.