غدًا يومٌ جديد
30-06-2020

 

يقف سعيد، الموظَّفُ الأربعينيّ، أمام مرآةِ غرفته بعد أن أوقفَ تشغيلَ الأغاني التي اعتادَ الاستماعَ إليها. لقد اتّخذَ قرارَه وانتهى الأمر. وكيف له أن ينسى المقالَ الذي قرأه صباحًا في الجريدة؟

"ودِّعِ الحزنَ إلى الأبد!"

أعاد ترديدَ العنوان بنشوةِ مَن تعلّمَ القراءةَ حديثًا.

جمعَ المقالُ بعضَ آراءِ علماء النّفس التي تؤكِّد أنّ كلَّ المشاعر التي نختبرُها إراديّةٌ، بإمكانِنا وقفُها أو تركُها تسيطرُ على حياتنا. وضربَ المقالُ أمثلةً كثيرةً عن أشخاصٍ دفعوا بأنفسهم إلى الانتحار بسبب إصرارِهم على أداء دور التّعاسة.

أحسَّ سعيد بأنّه يولَدُ من جديد، وهو الذي لم يكُن له يومًا من اسمِه نصيبٌ. آن الأوانُ ليأخذَ حصَّتَه من اسمِه بمحضِ إرادتِه!

تأمّل نفسَه في المرآة. ما أشدّ ما طالت ذقنُه، وتجعَّدَ جلدُ ما بين حاجبيْه ليكشفَ عن نفسٍ نزّاعةٍ إلى التقطيب في وجه الدّنيا!

لا بأس؛ "فغدًا يومٌ جديد." بهذهِ الجملة اختتمَ المؤلّفونَ المقالَ. تنهَّدَ سعيد، ثمَّ ضحِكَ ضحكةً قصيرة. أحسَّ بالانتعاش، وتخيَّلَ عضلاتِ وجهه وهي تعترضُ على سلوكِه الغريب.

غدًا يومُ عطلتِه، ما سيمنحهُ فرصةً للتمرُّنِ على وضع السعادة قبلَ أن يُطالِعَ زملاءَه بوجهِه الجديد.

***

ضبطَ المنبِّهَ ليستيقظَ باكرًا. لم يُرِدْ أن يُفوِّتَ دقيقةً من هذا اليوم العظيم الذي سيَختبر فيه شعورَ الفرح الإراديّ لأوَّلِ مرّةٍ في حياته. ولكنْ عندما رنَّتِ الساعةُ واهتزّت، ضربَ بها عرضَ الحائط كعادتِه، وصرخَ وزمجرَ وكشَّرَ. ثمّ قفزتْ في وجهِه كلُّ الذّكريات، كما لو أنّه خبَّأها البارحة تحت اللّحاف.

رنّت في أذنيْه كلماتُ أختِه الصُّغرى: "الله يساعد اللي بدّها تبتلي بهيك صباح؛ قلبي معها!" هكذا كانت تُعلِّقُ على سلوكِه الصعب صباحَ كلِّ يوم، وعلى التزامِه الصّمتَ ساعتيْن كاملتيْن بعد استيقاظه. أين أختُه الآن؟ تزوَّجتْ وسافرت منذ عشرة أعوام، ففرغَ البيتُ منها، كما فرغ من أبيه الّذي توفّيَ قبلَ خمسةِ أعوام، ولحقتْ به أمُّه العامَ الماضيَ، فبقيَ وحيدًا وعازبًا.

لطالما فكّرَ في الزّواج، لكنّ مرتّبَه لا يكفيه هو وحدَه. هكذا اتّضحَ أنْ لا وجودَ لامرأةٍ في حياته تبتلي بصباحِه البشع!

***

فجأةً توقَّفَ سيلُ الذّكريات، وعادت عباراتُ المقال تتقافزُ إلى ذهنه، فلامَ نفسَه على أوّلِ إخفاقٍ في الأداء. قفز من السرير وهو يحاول أن يضحك. حلق ذقنَه، وفرك وجهَه بالصابون كأنّه يمحو عنه آثارَ ملامحِه القديمة. شرب عصيرَ الليمون بدلًا من القهوة، وحاول أن يستعيضَ من السجائر بعلكةِ المدخِّنين التي نصحه بها زميلُه.

توجَّهَ إلى مكتبتِه. ولكنّه فكَّر: أيُّ كتابٍ سينفعُه في تعزيزِ وضعِه الجديد؟ تذكّرَ أنّ جميعَ كتبه ملأى بالأسئلة الكبيرة التي لا تجرُّ إلّا التّعاسة. ثمّ قرَّرَ شراءَ كتابٍ جديدٍ كلّ شهريْن ليُبدِلَ مكتبتَه القديمة مكتبةً أخرى ملأى بكتُبِ الأطفالِ والمغامراتِ السحريّة.

ثمّ خطرتْ في باله فكرةٌ جديدة: لقد اعتاد في شبابه الأوَّل أن يكتُبَ القصائدَ، فيجد في ذلك تسليةً كبيرةً. حدثَ الأمرُ عندما أحبَّ جارتَه وأراد أن يُكاشِفَها بحقيقةِ مشاعرِه، فكتبَ لها: "عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ، أو شُرفتانِ راح ينأى عنهُما القمرْ!" وعندما سألتْه إنْ كان هو كاتبَ هذه الكلمات، أكَّدَ لها أنّه قضى الليلَ بطولِه يؤلِّفُها، فصدَّقتْه. ولكنّها بعدَ فترةٍ قصيرةٍ اكتشفَت الحقيقةَ، فراحت تُناديه ساخرةً: "تعالَ يا سيّاب" و"اذهبْ يا سيّاب!" وقد صارحَتْه ذاتَ مرَّةٍ بأنّها تتمنّى أن يُحبَّها شاعرٌ ويكتبَ لها كلَّ يومٍ قصيدةً. هكذا بدأت رحلتُه مع الشِّعر، وصار يكتب لها قصائدَ رديئةً باعترافِ جميعِ زملائه، ولكنّها جميلةٌ باعترافِ تلك الحبيبة، التي ما لبثتْ أن رحلتْ ككُلِّ شيءٍ آخرَ أَحبَّه.

هاهو ذا يعودُ إلى الأحزان من جديد. هزّ رأسَه وكأنّه ينفضُ عنه هذه الأفكارَ. عاد إلى الابتسام. ثمّ طردَ فكرةَ كتابةِ القصيدة من رأسِه.

ثمّ خطرتْ له فكرةٌ أُخرى: لمَ لا يُعِدُّ العُدَّةَ لأيّامِه القادمة؟ سيضعُ قائمةً بالكتب والأغاني الجديدةِ التي ستدخلُ حياتَه. حذف أغنيةَ "ليالي العمر معدودة" وأضافَ أغنية "غنّيلي شوي شوي."

أوى إلى سريرِه في المساء وهو مشغولُ البالِ بالغد. راح يتخيَّلُ ردّاتِ فعلِ زملائه وهو يواجههم بابتسامتِه وانطلاقِه.

أخذ يردِّدُ عباراتِ المقال حتّى غفا.

***

تبادل الزّملاءُ النظرات في حيرةٍ وارتباك. غادرَ أحدُهم الغرفةَ، بينما اقتربَ ثلاثةٌ آخرون إلى مكتبِ زميلِهم بحذر.

أخذ سعيد يرتعش، وراح وجهُه يبدِّلُ ألوانَه، ثمَّ أخذ يضحك بطريقةٍ هيستيريّةٍ غافلًا عمَّن حولَه. وحين لحظهم، انفجر بالبكاء.

مال سمير على أذنِ صالح وسأل: "ما الذي جرى له؟" تنهَّدَ صالح وقال: "لقد جاءنا خبرُ الاستغناء عن عددٍ من الموظَّفين، وكان سعيد على رأسِ القائمة."

تدخَّلَ سامي الذي كان يسترقُ السّمْع إلى حديث زميليْه وهمس: "لاحظتُ أنّه لم يكن على طبيعتِه منذ بداية الدّوام. لقد حرص على الابتسام، حتّى تلقّيه الخبرَ."

اللاذقيّة

نغم داؤد

وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.