تفاصيل
28-02-2021

 

عندما راسلني أخي بعد سفره سألني أسئلةً غريبة: سألني عن صحيفةِ الأدعية التي كانَت جدّتي تضعُها تحت وسادتِها قبلَ النوم، وعن لونِ آخرِ قميصٍ ابتاعه جدّي.

قال لي إنّه اكتشف أنّ جدّي لا يرتدي إلّا الملابسَ الزرقاءَ والبنيّةَ في الصيفِ والشتاء.

ضحكتُ من نفسي لأنّني أراه كلَّ يومٍ ولا ألاحظُ ذلك.

قال أخي إنّه عانى الأرقَ فترةً من الزمن، فتمنّى أن يستطيعَ مدَّ يده وسحْبَ صحيفةِ جدّتي من تحت وسادتِها ليَخْتبرَ سحرَها.

تعجّبتُ وأنا أتذكّرُ أنّه كان يَسْخرُ من جدتي كلّما أخبرتْنا أنّ هذه الصحيفة تساعدها على النوم.

تتالتِ المراسلاتُ وازدادت دهشتي: أخي البعيد يُريني أشياءَ حولي ما اعتدتُ أن أراها طوالَ هذه السنين وما اعتاد أن يلحظَها عندما كان بيننا.

يذكّرُني بلونِ فناجينِنا وببقعةِ الزيْت التي لم تنجحْ كلُّ مساحيقِ الغسيلِ في إزالتِها عن معطفِ والدتي.

يسألُني عن بائعِ غزْلِ البنات الذي يزورُ حيَّنا في الربيع، وعن أعدادِ الفتيانِ الذين يواظبون على الانتظار أمامَ مدرسة البنات.

عندما حدّثتُه آخرَ مرّةٍ سألني عن أحوالِ عمّتي.

***

عمّتي، التي فقدَت ابنَها في الحرب، تعملُ في روضةٍ للأطفال.

بعد وفاةِ ولدِها، أصبحتْ أكثرَ تعلُّقًا بصغارِ الرَّوضة، وأقلَّ حدّةً في التعامل، على الرغم من طباعها الصعبة.

لا تفوّتُ فرصةً لاحتضانِهم واللعبِ معهم. وعندما يأتي الآباءُ لأخذِهم تنزوي وتصمت.

اعتادت أن تصمتَ في كثيرٍ من المواقف، وأشعرُ أحيانًا بأنّ عينيها ازدادتا اتّساعًا وجوعًا إلى النُّور.

تحفظُ اسمَ كلِّ طفلٍ وموعدَ خلودِه إلى النوم، وتغنّي لهم. تتحدّثُ عنهم بحماسٍ كبير، فيُخيَّلُ إليَّ أنّ طفولتَهم مُعْدية وأنّ عمتي واحدةٌ منهم.

في آخرِ زيارةٍ لها، طلبتْ من والدتي أن ترسلَ أختي الصّغرى إلى الرّوضة العامَ القادم.

***

أختي الصّغرى تنظرُ إلى ساعةِ الحائط باستهزاء. لا تقرأ لغةَ العقاربِ ولا تفهمُها. تُشاهدُ برنامجَها المفضَّل عشرَ مرّاتٍ في اليوم، وتعيدُ مشاهدةَ الحلقة نفسِها بانفعالاتٍ مختلفة.

حاولتُ أن أعلِّمَها الحروفَ، فعلّمتني أنّ الحاء (ح) بطنُها منتفخٌ، وأنّ الألف (أ) تُشْبه والدي عندما يكونُ غاضبًا. وعندما سألتُها عن الحرف الذي يُشْبهني ضحكتْ.

طلبتْ منّي في إحدى المرّات أن أعلّمَها قراءةَ الساعة، فتجاهلتُ الموضوعَ وغبطتُها في سرّي.

***

خرجتُ من العمل باكرًا اليوم. استقبلَتني الشوارعُ المزدحمة، ورنَّ في ذهني سؤالُ أخي:

"كيف حالُ اللاذقيّة؟"

سرتُ بينَ الناس وتأمّلتُهم. ثمّ قصدتُ الدكاكينَ، واشتريتُ بعضَ الحاجيّات.

استمعتُ إلى الأحاديث اليوميّة التي تتراوح بين ارتفاعِ الأسعار وحالةِ الطقس.

صعدتُ الأدراجَ ومررتُ بجدّي، فألقيتُ نظرةً فاحصةً على هيئته التي لا تتغيّر، وضحكتُ وأنا أقولُ في سرّي:

"اللاذقيّة بخير!"

اللاذقيّة

نغم داؤد

وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.