بين الصوت والصورة
08-04-2020

 

آذار

"ثقي بي! إنّ مجالسةَ العجائز لونٌ من ألوان المتعة،" قال والدي مشجِّعًا ونحن نركنُ السيّارةَ قاصديْن منزلًا ريفيًّا غريبًا.

عندما دخلنا المنزل، كانت جالسةً على أريكتِها. قبّلَ والدي رأسَها وأشار إليَّ قائلًا: "سلّمي على جدّتكِ يا مدى!"

تقدّمتُ نحوَها وقبَّلتُ جبينَها، فتهلّلَ وجهُها، وتراقص شعاعُ فرحٍ في عينيها الصغيرتين.

بدأ والدي الحديثَ. مرّت ساعةٌ وأنا أراقبُ صامتةً أغصانَ الشجرةِ ترتعشُ خلف زجاج النافذة. أيقظني من شرودي صوتُ والدي: "سأتركُ مدى عندَكِ قليلًا بينما أتفقّد الأشجار؛ فالمحصولُ الماضي لم يكن وافرًا أبدًا." حاولتُ أن أُفهمَه، بنظرةٍ، أن يأخذَني معه. ولكنْ عبثًا.

بقينا صامتتيْن لحظاتٍ، قبلَ أن تسألَني جدّتي عن مدرستي ورفاقي وعائلتي. كنتُ أجيبُها باقتضاب، لأنّني لم أدرِ ما ينبغي قولُه إلى مَن تربطني بها قرابةُ دمٍ ولكنْ تفصلني عنها هوّةٌ باتّساعِ سبعين سنةً.

وإذ بها تسألني: "ألم تحبّي يومًا يا مدى؟"

فكّرتُ: الماما نفسُها لم تسألْني هذا السّؤال. أجبتُها بارتباكٍ: "لا، لا أعتقدُ ذلك."

ابتسمتْ وأخرجتْ صورةً صغيرةً من صندوقٍ خشبيٍّ بجانبِها وسلّمتني إيّاها: شابّةٌ فتيّةٌ، بثوبٍ طويلٍ، وضفيرةٍ جميلةٍ تمتدُّ حتّى وسطها؛ وإلى جانبِها شابٌّ يبتسم، وهو يحيطُ كتفيْها بإحدى ذراعيه. على ظهرِ الصّورة قرأتُ: "إلى ليلى الحبيبة، كي لا ننسى أمطارَ آذار 1946."

قلتُ باهتمامٍ: "ما أقدمها! أهذه الشّابّةُ أنتِ يا جدّتي؟"

اعتدلتْ في جلستِها وأخذت تقصُّ عليّ قصّةَ حبِّها القديم.

***

في كلّ صباحٍ آذاريّ غائم، أستحضرُ ذلك الإحساسَ الجميلَ عندما دخل بهوَ دارِنا مع والدي وهما يتناقشان. تبادلنا نظرةً سريعةً، ثمّ أطرقتُ خجلًا. أغلقتُ البابَ وأخذتُ أسترقُ السّمعَ إلى حديثِهما. علمتُ أنّه يُدعى نبيل، وأنّه موظّفٌ قادمٌ من المدينة لإجراءِ استبيانٍ حول مساحة الأراضي الزراعيّة التي ستُزرعُ تبغًا لصيفِ هذا العام. بدا أنّ العمل يتطلّبُ منه المكوثَ في قريتنا مدّةً غير قصيرة. ولمّا كان والدي أكبرَ مالكٍ لأراضي التّبغِ في القرية، فقد استقبله في دارِنا ورحّب به أيّما ترحيب.

في مساءِ ذلك اليوم، جلس معنا نبيل إلى مائدة العشاء. ولكنّه لم يتناول طعامَه لأنّه كان منهمكًا في سردِ حكاياته الغريبة.

منذ ذلك اليوم، أصبحتُ أملُّ النهارَ وأنتظرُ قدومَ المساء لنجتمعَ حولَ المائدة. وفي كلّ مساء، كانت أمطارُ آذار تقرعُ نوافذَنا المغلقة، فتعزف لحنًا جميلًا.

أصبحتُ أُحِبُّ! وتغلّبَ الحبُّ في داخلي على خجلي وانطوائي. لكنّني كنتُ أذكِّرُ نفسي دائمًا بأنّ ما أحلمُ به محضُ وهمٍ نسجَتْه مخيّلتي، أملًا في إنسانٍ قد لا يكلّفُ نفسَه عناءَ حفظِ اسمي.

لكنْ في إحدى المرّات، كنتُ خارجةً من غرفتي، عندما وجدتُ ورقةً صغيرةً مطويّةً بعنايةٍ أسفلَ بابِ الغرفة. فتحتُها متلهّفةً، فأَزهرَ الأملُ في قلبي.

في صباح اليوم التالي كان ينتظرُني عند الشجرة المجاورة للسّاقية. ومن يومها باتت تلك الشجرةُ المُنصِتةَ الوحيدةَ إلى حواراتِنا الطويلة.

لكنّ لحظات السعادة انقضت. فقد أنهى نبيل العملَ المكلّفَ بأدائه في قريتنا، وحان موعدُ الرّحيل.

يومَها، عاهدَني على العودة إليّ بعد تحسينِ وضعه المعيشيّ.

رافقتُه حتّى المرفأ، في ذلك الصّباح الغائم لآخر يومٍ من آذار سنة 1946. وعندما دنا المصوِّرُ الجوّالُ منّا، قرّرنا أن نختزنَ كلَّ ما لم نقلْهُ في صورةٍ أخيرةٍ لنا معًا. وهذه الصّورة التي تحملين هي كلُّ ما تبقّى لي منه؛ فأنا الآن لا أعلم أين هو، أو إنْ كان لا يزال على قيد الحياة.

***

أيّار

بدأتُ أنتبهُ إلى الوقت الذي يستغرقُه شرودي منذُ أن توقّفتَ عن الخروج من منزلكَ صباحًا. ما الذي جعلكَ تلزمُه؟

الامتحاناتُ على الأبواب، ولكنني جالسةٌ كالحمقاء على الشُّرفة أنتظرُ مرورَك. لم أعُد قادرةً على التركيز، وبدأتُ أشعرُ بأنّ الصفحاتِ تتثاءبُ وتتململُ مرارًا وتكرارًا قبل أن أقْلبها.

عرفتُ اسمَكَ الأسبوعَ الماضي عندما ناداكَ صديقٌ بصوتٍ عالٍ في الشارع. استدرتَ ووقفتُما على الرصيف المقابلِ لشرفتي. بقيتُما تتحدّثان دقائق ثمّ افترقتُما.

وكنتُ قد رأيتُكَ عن قربٍ الشهرَ الماضي عندما ذهبتُ لشراءِ بعض الحاجيّات. غير أنّك خرجتَ من الدُّكّانِ قبل أن أدخلَ إليه. وددتُ لحظتَها أن أقول لك إنّ معطفك الكحليّ يعجبني جدًّا. ولكنّني أفقتُ من أحلامي قبل أن أبدأها.

شيءٌ واحدٌ فقط يؤرّقني الآن: كيف لم أتمكّنْ من سماعِ صوتِك؟ أيُعقَلُ أن تقيمَ في رأسي كلَّ هذه الفترة من دون أن أسمعَ صوتكَ؟

البارحة، قرّرتُ ألّا أدرسَ على الشُّرفة مجدّدًا. ولكنّني تناسيتُ قراري اليوم ورحتُ أحاولُ أن أزيّنَ صمتكَ بالموسيقى التي أحبُّها. فكلّما فكّرتُ فيكَ استمعتُ إلى أصواتٍ قادمةٍ من ماضٍ قد يبدو لكَ كالعصرِ الحجريّ؛ بل قد أبدو لك كذلك أنا أيضًا.

عجبًا! لم أكن أعتقد أنّ الحبّ سيتحوّل في داخلي إلى مشكلة. فبعد حديثي مع جدّتي خلتُ أنّ الحبّ مجرّدُ رسالةٍ صغيرة، وصورةٍ تُكتَب على ظهرِها عبارةٌ بسيطة للذّكرى. أيُعقل ألّا يكونَ ما أُحسُّ به حبًّا؟ لمَ لا أسأل الجدّة؟ ألم تسألْني هي بدورها إنْ كنتُ قد أحببتُ يومًا؟

***

البارحة أخبرتُها عنكَ، وسألتُها إنْ كانَ من المعقول أن أتعلّقَ بصورةٍ صامتةٍ لشخصٍ لا أعرفُه. لم أكن أدري أنّني بسؤالي سأفتحُ مستودعَ حكاياتِها.

لقد كانت لأختِها سلوى في شبابِها قصّةٌ معاكسةٌ لقصّتي: فقد أحبّت صوتًا بلا صورة! حدث الأمرُ عندما انضمّ صوتٌ إذاعيٌّ جديدٌ إلى محطّة الرّاديو التي كانت تُحِبُّها. كان الشابُّ الجديد يقدّم برنامجًا إذاعيًّا مسائيًّا يقرأ فيه على المستمعين حكايةً، ويختتمُ بها المساءَ وبرنامجَ المحطّة اليوميّ معًا.

أصبحتْ سلوى تنتظرُ هذا البرنامج كمن ينتظرُ موعدًا غراميًّا، فتُغلقُ بابَ غرفتها وتجلس قرب النافذة محتضنةً الرّاديو، محاولةً رسمَ صورةٍ تنسجم مع الصوت الجميل الذي يسبح في فضاء الحُجرة.

وفي إحدى المرّات تعطّل الرّاديو، فلم تتوقّف سلوى عن البكاء. وعندما رفض والدُها إصلاحَه، رفضتْ مغادرةَ غرفتِها، فاضطُرَّت جدّتي وأمّي إلى تهريب جهاز راديو آخر إليها.

ثمّ رأته في إحدى المقابلاتِ التليفزيونيّة، وخاب أملُها كثيرًا لأنّ شكله لم يُطابِق الصورة التي رسمتْها له.

***

هل أعجبَتكَ قصصُ جدّتي؟

لقد حكت لي قصّةً أخرى عن جارتِها الوحيدة الّتي كانت تنتظر مرورَ البائعِ الجوّال كلّ يومٍ لأنّ صوتَه يُذكّرُها بصوتِ بائعٍ آخر اعتادَ والدُها أن يشتري لها من عندِه في صغرها. إنّها قصّة طويلة ومؤثّرة، ولكنّها لا تُشبه حكايتي معكَ في شيء. ماهي إلّا أمورٌ بسيطة أحبُّ أن أرويَها لشبحِكَ الحاضرِ معي على الدّوام. أمورٌ صغيرة لها علاقة بي، وبالصوتِ، والصّورة.

ها أنتَ ذا تظهرُ أخيرًا! لكنْ... ما أسرعَ اختفاءَك! أكادُ أجزمُ بأنّك لن تتأخّر في العودة. لا ضيرَ من الانتظار على الشُّرفةِ قليلًا. وفي هذه الأثناء، سأستمعُ إلى موسيقاي التي تُبقيني على الخطّ الفاصلِ بين صوتك وصورتك.

اللّاذقيّة

نغم داؤد

وُلدتْ سنة 2000 في اللاذقيّة. تخرّجتْ من الثانويّة العامّة بدرجة امتياز. تتمّ حاليًّا دراستَها في جامعة تشرين في الكلّيّة الطبيّة.