هروب من عالم الحماقة
04-01-2021

 

"سوف ينفجر المختبر!" تمتمتُ بشفتيْن مرتجفتيْن وأنا أنحني تحت طاولة الحديد تحسّبًا من الشَّظايا التي أترقّب تطايرَها في أيّ لحظة.

عمّ الدّخانُ المكانَ، فوضعتُ القناعَ بسرعةٍ على وجهي.

اهتزّت الآلةُ كأنّها جنّيّ. سيخرّ السقفُ على رأسي.

"كانت محاولةً جيّدةً على الأقلّ": هكذا واسيتُ نفسي وأنا أزحفُ باتجاه قابس الكهرباء لأنزعَ الشريطَ وأوقفَ كارثةً توشكُ أن تقع.

مددتُ يدي إلى القابس. توقّفت الآلةُ عن الاهتزاز، وبدأ ضجيجُها يخفت شيئًا فشيئًا. بدأ الدّخانُ ينقشع. سرى تيَّارٌ كهربائيّ في كلّ بدني ولم أكن ألمس الشريط.

كان واقفًا هناك، قرب الآلة، يسعل، وهو يحرّك يدَه لكي يُبعدَ الدخانَ من أمام وجهه.

لوهلةٍ ظننتُ أنّ الآلة انفجرتْ فعلًا، وأنّه أُغمي عليّ، وأنّ ما أراه ليس إلّا تهيّؤات. حتى العالِمُ يشكّ للحظات في المعجزات التي يحاول الوصولَ إليها.

ولكنْ لا! هذه حقيقة! هل يعقل؟ هل نجح اختراعي؟ لا يهمّ مَن يقف الآن هنا، ولو أنَّني أرغب بشدَّةٍ في أن يكون مَن أريدُه أن يكون. ولكنّ مجرّد وجوده يعني نجاحًا باهرًا.

نظر ناحيتي بدهشة عندما تبدّد الدّخان. ما زلتُ مقرفصًا على الأرض مثلَ كلبٍ شارد.

سيطرتُ على نفسي. وقفت. عركتُ عينيّ ورحتُ أنظرُ إليه. كان واقفًا بهيبة كالأسد. عمامتُه الخضراء تلفّ رأسَه ويتدلّى طرفُها على كتفه اليسرى. له وجهٌ طويل، ولحيةٌ سوداء يتخلّلها شعرٌ أبيض، وأنفٌ كأنف الصقر، وحاجبان مقوّسان.

اقتربتُ منه وأنا أفكّر في ما سأقولُه له في البداية. كيف سأرحِّب به؟ لم أفكّر في ذلك عندما كنتُ أعمل على الاختراع.

- أهلًا بقدومك أيّها الشيخ. لعلّ رحلتَكَ كانت مريحة!

رمقني بنظرة تعجّب.

- آه عفوًا.

قلتُ وأنا أضرب بكفّي على جبيني. ما أشدّ حماقتي! لم يكن سؤالي مناسبًا؛ فهو لم يأتِ بالقطار أو الطائرة. لقد أحضرتُه بطريقةٍ مختلفةٍ قليلًا؛ طريقةٍ مزعجة. ألا يكفي أنّني أقلقتُه في عالمه؟ أعلم أنّه لا يجب إزعاجُ الأرواح.

- أيّها الشيخ!

لم يردّ.

- أيّها الأمير!

يكتفي بالنظر ناحيتي.

- أيّها الفيلسوف!

ظننتُ، لوهلة، أنَّه لن ينطق.

- أبو علي.

- نعم، أجاب أخيرًا.

قفزتُ فرحًا وأنا أقول:

- أهلًا أبا علي، أهلًا.

- مَن أنت؟ سألني وكأنه يشكّ في سلامةِ عقلي.

- يمكنك أن تعدّني أحدَ تلامذتك في زمن بعيد. أنا طبيب ومخترع. لقد قرأتُ كلَّ كتبكَ عن الطبّ، وقرأتُ قصائدَك.

- امممممم.

- يا إلهي! لا أصدّق أنني أكلّم الفيلسوفَ الطبيبَ نفسَه.

كنتُ أتكلّم وهو ينظر يمينًا وشمالًا، محاولًا أن يفهم أين هو.

- أهلاً بك في القرن الحادي والعشرين. أنت الآن في طهران، عاصمةِ إيران. لستَ بعيدًا عن مقامك في همدان كثيرًا.

- كنتُ أعلم أنّ العلم سيصل إلى وقتٍ يسابق الضوءَ ويخاطب الذرّاتِ ويفهم كلَّ أبعادِ الزمكان.

قال ذلك وهو يحكّ ذقنَه ويتفكّر، وأنا كنتُ أزغرد فرحًا.

يا إلهي! لا أصدّق أنّني أكلّم ابنَ سينا شخصيًّا. هل تعلم ما الجائزة التي سأحصل عليها؟! كنتُ أسأل نفسي، ولكنّه أجاب:

- هل أحضرتني إلى هنا لتحصل على جائزة؟ هل هكذا يفكّر علماؤكم؟

- لا، لا، أرجوك، قلتُ مرتبكًا. أحضرتُكَ لأنّنا نحتاجك.

- بماذا؟

سألني وهو ينظر إلى الآلة التي خرج منها قبل دقائق، والدخانُ يكاد يخنقه.

- لقد أصاب العالمَ وباءٌ اسمُه كورونا. أعلمُ أنّكَ عالجتَ أمراضَ الديدان المعويّة والمستديرة والطفيليّة، وكشفتَ طرق العدوى لأمراضٍ مُعْديةٍ كثيرةٍ كالجدريّ. ولكنّنا لم نجد إلى اليوم علاجًا حاسمًا لوباء كورونا.

- "وما أوتيتم من العلم إلّا قليلا." تستطيعون إرجاعَ ذرّات رجلٍ مات من ألف سنة، ولا تجدون علاجًا لوباء؟

- بل وصلْنا إلى القمر، وتقدّمنا في علم الفلك الذي برعتَ أنت فيه.

- وماذا تريدني أن أصنع؟

- أن تكتشفَ العلاج!

حكّ ابنُ سينا رأسَه، ثم قال:

- ولذلك صنعتَ آلةً لتُحْضر طبيبًا قديمًا؟

خجلتُ.

- معك حق. إنّها فكرة غريبة فعلًا. ولكنك هنا الآن، في مكان قريب من موضع إقامتك حين كنت تعيش في الريّ، وفي مختبرٍ يحمل اسمك.

جال ابنُ سينا في أرجاء المختبر، وصار يعرّف لي الأشياءَ، ويسألني عن أشياء أخرى. إلى أن استوقفتْه شاشةٌ معلّقةٌ على الحائط.

- ما هذا؟

- جهازُ تلفاز. نرى العالمَ بواسطته عبر الأقمار الاصطناعيّة في الفضاء.

كنتُ أقول ذلك، وأنا أحمل آلةَ التحكّم وأشغّل الجهاز.

ومض التلفازُ وظهرتْ نشرةُ الأخبار.

اقترب ابنُ سينا وصار يلمس الشاشةَ بكفِّ المستكشِف. تحسّس أصابعَه عندما شعر بالذبذبات الكهربائيّة.

- ومن هذا الرجل على الشاشة؟ سألني.

- إنه دونالد ترامب، رئيسُ الولايات المتحدة الأميركيّة، أقوى دولةٍ في العالم.

قلتُ ذلك وأنا أرفع صوتَ التلفاز قليلًا. كان ترامب يتكلّم. قرأ ابنُ سينا الترجمةَ على أسفل الشاشة:

"لماذا لا نحقن المرضى بالمعقِّم؟"

نظر ناحيتي جاحظًا عينيْه.

- قلت لي مَن هذا؟

- رئيسُ أقوى دولة في العالم.

مشى ابنُ سينا باتجاه الآلة. نظر لثوانٍ. فهم طبيعة التحكّم بالأزرار. ضغط الزرَّ ودخل الآلةَ بسرعة.

- لا، لا، أرجوك ابقَ.

ومضت الآلة، وبدأ ابنُ سينا يختفي، وسمعتُ كلماته الأخيرة يقولها بلهجةٍ آمرة:

- لا تُعِدْني إلى هذا العالم الموبوء ثانيةً.

لبنان

 

علي حمادي

كاتب وباحث لبنانيّ.