الإسلام الصوفي والهوية: الطريقة النقشبندية في القوقاز الشمالي
10-10-2019

 

 

سنحاول في هذا المقال فهمَ دور الطريقة الصوفيّة في بلاد القَبْق[1] الشماليّ (القوقاز)، عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في إدارة الاجتماع القَبْقي، وتأكيدِ الهويّة الداغستانيّة، أمام التحدّي الإمبرياليّ الروسيّ لضمّ الحمى.[2] وسنتوسّل لذلك بمدوّنة بعض الفاعلين المتصوّفة آنذاك.

***

 تاريخيّة التصوّف في المنطقة

الطرق الصوفيّة في بلاد القَبْق هي جماعات مغلقة، لا يكتم مريدوها انتماءَهم، ويَعرفون "حدًّا أدنى من العربيّة التقليديّة لأداء الصلوات وقراءة القرآن." وهي جماعات "قويّة البنيان، متدرّجة الرتب، ملتحمة."[3]

والنقشبنديّة طريقة أسّسها محمّد بهاء الدين نقشبند (1317 - 1389) في بخارى في آسيا الوسطى، وهي من أوسع الطرق انتشارًا، ولها فروع في العالم الإسلامي كلّه.[4] وقد دخلتْ بلادَ القَبْق في نهاية القرن الثامن عشر،[5] وكان أوّل داعية لها هناك منصور أوشورما من قرية  ألدي الـﭽﭽانيّة.[6] وقد قاد المقاومة الأولى ضدّ روسيا حتّى أسْره سنة 1791، فحُكم عليه بالسجن المؤبّد، ثمّ الموت في العام 1793.[7]

اختفت الطريقة ثلاثين عامًا، لتعود إلى الظهور سنة 1823 في شروان، "ولقد عرفت تمامًا في هذه المرّة سلسلة نقل أسرار الطريقة."[8] ثمّ كان القائد النقشبنديّ الثاني للمقاومة، محمد خالص محمد أفندي الأَوَاري، من يرغلر، جنوب داغستان. "وكان قد لقّن أسرارَ الطريقة للشيخ جمال الدين... وكان أوّل إمامٍ فيها. كما أصبح الأستاذ غازي محمد الأَوَاري ثانيَ إمام، والشيخ شاميل[9] الأَوَاري ثالث إمام في داغستان."[10] وفي أيّام إمامة شاميل، عام 1930، دخلت الطريقةُ بلادَ ﭽﹻﭽـِان على يد أحد مريديه، الشيخ تاشو حجي من إنديرا. ويظهر أنّه لُقّن أسرارَ الطريقة على يد الشيخ عبد الرحمان من قرية ضغراتل، وقد توفّي بمنفاه في سيبيريا.[11]

 

كان القائد النقشبنديّ الثاني للمقاومة من جنوب داغستان

 

بعد أسر شاميل، اختفت الطريقة، إذ كثر القتلُ فيها أثناء المعارك وداخل السجون، ويئس قلّةٌ منهم، فغادروا البلاد إلى الحِمَى العثمانيّ.[12] لكن الطريقة بقيتْ تنشط "بشكل شبه سريّ،" فانتقلت القيادةُ لأوّل مرّة من شَعْبَي الأَوَار والـﭽﹻﭽـِان إلى شعب الغُمِيق، مع بشير من قرية أقصاي، "وكان خلفُه غُميقيًّا أيضًا، الشيخ علي خان... وقد نُفي إلى سيبيريا وقُتل فيها. وثالث مرسى لسلالة أقصاي هو الشيخ دُني أرسانوف... قُتل بيد المسؤول الروسيّ عن نفي الشيخ علي خان، ثمّ أصبح زعيم حرب مغاوير، ودمّر بعض المدن القوزاقيّة، وهو على رأس مريديه، واستمرّ بورعه الشديد. ثمّ قتله القوزاق في معركة عام 1917."[13]

بقي أهلُ الطريقة يحتفظون بالكثير من التوقير لشاميل. إلاّ أنّهم يروْن أنّ "بصيرته العرفانيّة" قد خفتتْ كثيرًا بمرور العقود عليه، وذلك باعترافه: "تكلّم يومًا وقال إنّه كان يعلم مِن كلّ مَن رآه أنّ هذا من أهل الجنّة وهذا من أهل النار، وأمّا الآن فلا أعرفه."[14] ولا يبرّرون سقوطَه بمجيء "السِّردار الأعظم بجنود عظيمة...،" وخصوصًا "بصعود دعاء المظلومين إلى العرش" إذ كان أكثرُ وزراء شمويل ووكلائه في أمره قد "خانوا في أحكام الشريعة وإدارة الأمور الإسلاميّة، وظلموا الخلقَ..."[15]

ومهما يكن من أمر، فالباكَني يعترف أنّ دعوة شمويل لقومه "أخذها أقلُّهم ورماها أكثرُهم."[16] فقد كان ينقصها الالتفافُ الإجماعيّ، على الرغم من تفوّقها على إمامة غازي محمد الكِمْرَاوي في شرط الحَمِيَّة العشائريّة؛ فغازي محمد "ليس له عشيرة يأوي إليهم ولا شوكة تقوى عليهم، من بين قومٍ أترفتهم النعمُ وأطربتهم كثرةُ الشراب"[17] رغم ثقافته الدينيّة والعربيّة الجيّدة.[18] وقد كان شمويل واعيا بتفوّقه على سلفه بالركن الاجتماعيّ الشديد، فقال في خطابه الأوّل: "إنْ كنتم تظنّون أنّ الشريعة تضعف بموت غازي محمد، فوالله لا أتركها تنقص بل أزيده بذراع بعون الله تعالى، وأنتم تعلمون أنّني أكثر منه علمًا وأشدّ قوّةً وقبيلةً، فليبارزْ من يخاصم الشريعة". ويرى القراخي أنّه بهذا الخطاب "ارتفعتْ رؤوسُ المريدين وانتصبتْ لإعانة الشريعة، وانقسمتْ ظهورُ المعاندين."[19]

 

توطين لغات الوطن في المدوّنة النقشبنديّة

مثلما حَرِص عُرفاء بلاد القبْق على توطين المِلَّة العرفانيّة والتصوّفيّة بمقاومة الوهّابيّة "المنكرين على سائر الطرق الأحمديّة والسنن المصطفويّة،"[20] فقد حرِصوا على توطين اللغات القَبْقيّة في هذا الانتحال العرفاني- التصوّفي. فالضمير اللغويّ جزء ضروريّ من الضمير القبقي- الإسلامي العامّ في السَّوْق الطَّريقي.

فكثيرًا ما تكون المراقَبات باللغة السَّهلية،[21] كالتي وجدها حسن حلمي القحي "بخطّ الأستاذ المرشد الحاج جبرائيل أفندي قُدِّسَ سرُّهُ،" أو "بخطّ الأستاذ الحاج عبد الرحمان العسويّ..." ويُدرج القحي في مذكّراته لمريده الشيخ محمّد عارف ما كتبه الشيخ سيف الله من قصائد عرفانيّة "ليقرأ بها المريدون في مجالس الاجتماع للذكر... وينبغي للساك أن يحفظها،"[22] وهي باللغة العربيّة، توطينًا لها باللغات القَبْقِيّة.

في السَّوْق الهوياتيّ العرفانيّ ببلاد القبْق مسعًى إلى توطين اللغة العربيّة. ومن ثمّة تحمل اللغاتُ القبقيّة اللغةَ العربيّة لتتمثّل قداستَها، باعتبارها لغةَ القرآن، فتتقدّس هي أيضًا. وبذلك مارست الطريقةُ التصوّفيّة في بلاد القبْق تغييرًا لغويًّا، واُدخِلت لغاتها إلى طور تقدّميّ لغويّ جديد، مغتنٍ باللغة العربيّة، لا بإضافة الكلمات العربيّة فحسب، بل باستعارة "عقل العربيّة" في أطوارها المتقدّمة أيضًا. وبذلك تقدّمت اللغاتُ القبقيّة قرونًا في ظرف زمنيّ لا يتعدّى قرنًا ونصفًا.

أصبحت العربيّة اللغة الرسميّة للدولة التصوفيّة في بلاد القبْق والشعوب المختلفة (وأصبحت الأوَاريّة، لغةُ الأكثريّة، لغةً ثانيةً شيئًا فشيئًا). كما أكّدت هذه الدولةُ الذاتَ اللغويّةَ القبْقيّة، إذ أخرجتها من شعورها بالدونيّة طويلًا، فأدخلتها إلى المكتوب، بل إلى الدينيّ والمقدّس والطَّريقي أيضًا. وكما اعترفتْ أيضًا باللغة الجبليّة (وأشهرُها الأوَاريّة)، اعترفتْ باللغة السهليّة (وأشهرها الغموقيّة)، وكتبتهما معًا، رغم أنّ السهليّين أقليّة. وهذا دعّم إيجادَ هويّة قبْقيّة واحدة، وروح دولة - أمّة، لأوّل مرّة في تاريخ الشعوب القبْقيّة.

ويمكننا القول إنّ الانتصار الامبرياليّ الروسيّ كان يعني ضربَ وحدة الهويّة القبْقيّة والدولة - الأمّة الوليدة، وضربَ التناصّ العربيّ - القبْقي، ونكوصَ الوحدة اللغويّة الوليدة. وقد أدّى ذلك تدريجيًّا إلى تراجعات في استعمال السكان القبْقيّين للغاتهم الأصليّة ذاتها، وتقدُّمِ الألفاظ الروسيّة وعقل اللغة الروسيّة داخل تلك اللغات. وعوضًا من تقدّم الوحدة اللغويّة، أصبحنا نشهد تقدّمَ التروّس اللغويّ تدريجيًّا، ومن ثمّة ظهور الهويّات القبْقيّة المتنازعة إلى حدّ التقاتل أحيانًا.

 

عوامل الانتصار والهزيمة في التمثّل النقشبندي

يرى العرفانيّون الداغستانيّون أنّ الانتصار على الغزاة، أو الهزيمةَ أمامهم، يعودان إلى قاعدة أخلاقيّة، وهما مرتبطان بالداغستانيّين، لا بالرّوس. فحين كان في "نظامٍ من أمره، وطهارةٍ في شريعته وإدارةِ أحكامه، وكذا كان وزراؤه ووكلاؤه وأمراؤه...، فتحوا بتوفيق الله تعالى اثنتيْ عشرة قلعةً من قلاع الكُفّار... وأمّا في الآخر، فصارت أحوالُهم على عكس أحوالهم في الأوّل، فقلب اللهُ عليهم الأمور، وانعكس التوفيقُ بالخذلان."[23] ويرى العرفاني شعيب الباكَني، الذي كان مشاركا في تلك الإدارة، أنّ الإله في علاقته بالداغستانيّين ينظر إلى النوع الأخلاقيّ لعملهم فيكافئهم بما هو مناسب من نصرٍ أو هزم، مستشهدا بالآية القرآنيّة: ﴿وجزاء سيّئة سيّئةٌ مثلها﴾.[24]

ويؤكّد الباكَني وقوعَ الظلم في دولة الإمام شاميل: "أكثر وزراء أمير المؤمنين الشيخ شمويل ووكلائه في أمره... خانوا في أحكام الشريعة وإدارة الأمور الإسلاميّة، وظلموا الخلقَ الذين حولهم، الذين في يد الدولة الروسيّة... وحُقَّ فيهم قوله تعالى ﴿وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا﴾."[25]

فالمخالفة الأخلاقيّة تتمثّل أساسًا في الظلم، ظلمِ الداغستانيّين الخاضعين للدولة الروسيّة وغيرهم من القبقيّين، أكثرَ ممّا يتمثّل في ظلم الداغستانيّين الذين هم ضمن الحِمى الشمويلي. ويذهب محمد طاهر القراخي إلى الأمر نفسه: "في تلك الغزوة الكرْجيّة، كثر الغلولُ والخياناتُ في العوامّ والخواصّ. وازداد العمّالُ والنوّابُ ظلمًا وعتوًّا، يومًا فيومًا... فلم يزد اللهُ تعالى لجيوشه بعد تلك الغزوة أينما توجّهتْ إلّا ذلًّا وانكسارًا وخذلانًا وإدبارًا، ولا للرؤساء والولاة إلاّ نفورًا واستكبارًا."[26] ويؤكّد القراخي تسخيرَ بعض أعوان الإمام التابعين لهم "بأعمال شاقّة... ثمّ وقع جوع شديد،"[27] وهروب بعض هؤلاء السكان إلى الروس.[28] وكلّ ذلك يراه "انتقامًا من الله تعالى."[29]

أمّا الإمام، فقد كان "يعتني بإجراء جميع أحكام الشريعة، ويأمر بذلك جميعَ أعيان ولايته" لأنّه "بالشريعة يكون العدل." حتّى إنّه "نادى في ولايته أن لا يُنتف صوفُ الغنم بل يُقصّ بالمقراض، وأن لا يُقتل النحلُ لإخراج العسل!"[30] ولكنّ أمرَه تغيّر في النصف الثاني من ولايته إذ "تساهل هو وهُمْ، وتغافلوا."[31] ولذلك أخذ اللهُ منه عِرْفانيّتَه، وتدحرج إلى أدنى المقامات الباطنيّة. وقد اعترف بذلك أمام مقرّبيه بـ"أنّه كان يعلم مِنْ كلّ مَن رآه أنّ هذا من أهل الجنّة وهذا من أهل النار، ’وأمّا الآن فلا أعرفه.‘"[32]

 

يرى العرفانيّون الداغستانيّون أنّ الانتصار على الغزاة يعود إلى قاعدة أخلاقيّة

 

وأمّا المخالفة الأخلاقيّة الثانية، فهي بقيّةُ "قبائح الأعمال." والشيخ غازي محمّد، ابن الإمام شاميل، يراها بداغستان المهزومة، متمثّلةً في "ظلمه العادات، وكثرةِ المنكرات، وقلّةِ العبادات، وتركِ الشرائع، وغلبةِ البدائع، وحبّهم [الداغستانيّين] مع الكفّار."[33] فتكاثُرُ مَن يصنّفهم المكافحون النقشبنديّة بـ"المنافقين" كان من العوامل الحاسمة في انتصار الروس.[34]

 

فاعليّات الدّفاع

أمام إمكانيّات تدمير الذات الجمعيّة وتضاؤلها، كان من الضروريّ اختلاقُ فاعليّات دفاع، وأهمُّها: تأكيدُ النزعة المهدويّة، و"الرابطة."

- النزعة المهدويّة الخلاصيّة: هذا محمد طاهر القراخي، كاتب شمويل، عقب معركة إِحْلَكْح المظفّرة مع الآخر الغازي، يدعو الله "أن تدوم الدنيا كذلك إلى أن تتّصلَ سياستُه وغزواتُه بظهور محمد المهدي آخر الزمان..."[35] فالانتصار تمثّل في مقتل كذا "ألف نفس" من الغزاة،[36] ولكنْ يبقى الآخرُ أقوى، وتبقى أرضيّة الميدان زلقة؛ فمن الضروريّ الإمدادُ الغيبيّ بتلقّف المهدي لهذا الانتصار، باعتباره الأمل الإلهيّ أرضيًّا وعينيًّا على مسرح التاريخ. وهو يرجو ذلك لغازي محمد، نائب أبيه شمويل: "ولا زال كذلك إلى ظهور المهدي قرب الساعة."[37]

وهذا التبنّي النقْشَبنْدِي - القَبْقي للعنصر الشيعي - الاثنيْ عشريّ، مؤطَّرًا بالمعطى السنّيّ، نجده لدى الكثير من العرفاء الداغستانيّين. فهذا الباكَني يعتبر جعفر الصادق بمعطى سفيان الثوري، السنّي، وموسى الكاظم بمعطى سفيان الثوري أيضًا، علاوة على عليّ بن أبي طالب وزين العابدين بن الحسين، وكذلك سلمان الفارسي مدشّن إسلام كلّ أعاجم آسيا ومُلْهِم متصوّفتهم.[38] فعَمود السلسلة النَقْشبنديّة ورأس الإثني عشريّة واحد، هو جعفر الصادق، الذي هو عند الباكَني "مجمعُ البحرين وملتقى النهريْن."[39]

- الرابطة. "الرابطة" في الاصطلاح الطُّرُقي هي استحضارُ الشخص المقدّس بواسطة التركيز المطلق. وقد اجتهد عديدُ النقشبنديّة القبْقيّين في الاستدلال الفقهيّ عليها، خصوصًا بعد الانحدار أمام الآخر وأمام ضربات الوهّابيّة. فحسن حلمي القَحِي يكتب رسالةً خاصّةً عنوانُها السِّفر الأسنى في الرابطة الحسنى، مؤكّدًا أنّ "الذكْرَ وحده بلا رابطة وبلا فناء في الشيخ ليس مُوصلًا. وأمّا الرابطة وحدها مع رعاية آداب الصحبة فكافيةٌ في الاتّصال،" وكذلك الرابطة بصورة النبيّ "ليكون حضورُه سببًا لمزيد الخشوع."[40]

ويقسّم القَحِي الرابطة إلى ثلاثة أنواع: رابطة الحضور، ورابطة الموت، ورابطة المرشد. أمّا رابطة الحضور فهي "ربطُ قلب المريد بالله تعالى على طريق المحبّة الكاملة... فهذه أشرف هذه الرابطات الثلاث وأعلاها، بل هي المقصود الأصليّ. وأمّا الأخريان فهما وسيلتان لتحصيل هذه الرابطة."[41] وأمّا رابطة الموت، فهي "ربطُ القلب بالموت والقبر والقيامة وتفكّر أهوالها وأحوال نفسه..." وأمّا رابطة المرشد، فهي "ربطُ قلب المريد بكمال المحبّة والإخلاص على نبيّ من أنبياء الله تعالى أو وليّ من أوليائه تعالى، أو على جميعهم...[42] فإذا تمّت الرابطة، وحصل الائتلافُ الروحانيّ بين السالك المرابط وبين المرابط عليه، فله أن يستمدّ روحانيّته ويستفيض من فضله وبركاته، ويتوسّل به إلى الله تعالى، وكذا يطلب الشفاعة والهمّة والإعانة به."[43]

وهنا يتغلّب المريدُ القبْقي على عوائق تهديدات الغزو الروسيّ، والأسْر، والمنفى، والحظر الشُّرْطي، ومحنة موت المرشد أو سجنه، وتناقصِ المرشدين، وحظْر ارتياد المساجد، والتهجير. كما يستعيد، بالتركيز، الثقةَ بالذات وبالقيادة الاجتماعيّة، ويمنع عواملَ الانهيار والتصدّع النهائيين: "وحينئذ يستفيض منهم في الغيبة كالحضور."[44] وهنا، لا تعتمد الجماعةُ على المُسَارّة وسيلةً وحيدة للاستمرار، إذ قد لا تكون ممكنة أحيانًا بسبب حظر التنظّم الصوفيّ، فيصبح الخيالُ والعشقُ الرَّابطي (المتعلّق بالقائد الطُّرقي، أو الوليّ عامّةً) الوسيلةَ الأساسَ لاستمرار التنظيم وحماية بقاء الهويّة الدّاغستانيّة والقبْقيّة المهدّدة بالإفناء. وهذا ما يجعل "كلّ مؤمن ممدودًا من النور، كالتّلغراف من قلبه إلى قلب النبيّ عليه السلام، ويستفيض منه في كلّ وقت، وعلى كلّ حال، وكذا تخيُّل شخصه الكريم حتّى في تحيّة الصلاة المفروضة"،[45] على ما يشرح القَحِي في منافحته عن الرابطة أمام وهّابيّي الجزيرة العربيّة.

 

خاتمة

استطاعت الطريقةُ النقشبنديّة أن تُنظّم الاجتماعَ وتديرَه بكفاءةٍ معتبرةٍ في بلاد القَبْق الشمالي مدّةً ليست بالقصيرة في القرن التاسع عشر ميلاديّ.

ولكنّ هذه الإدارة كانت مشوبةً بالكثير من مظاهر العنف المفرط، المبرَّرِ بكثرة الضغوط الخارجيّة والداخليّة، وبعدم مُرَاكَمَة الطريقة لتاريخٍ كافٍ من الممارسة السياسيّة والحِسبيّة. فلمّا بدأتْ تمتلك بعض التجربة والكفاءة كانت الهزيمةُ أمام غازٍ أقوى ومُرَاكمٍ لتجربة تاريخيّة أطولَ في الإدارة وفي الغزوِ للخارج أيضًا.

ورغم الهزيمة العسكريّة والانكفاء أمام حظْر الدولة الروسيّة للتنظيم، خصوصًا بعد سنة 1917، فإنّ الطريقة واصلتْ توجيهَها للضمير القَبْقي، ولاسيّما بالأطروحة المهدويّة المانحة الأملَ التاريخيَّ في الخلاصِ، وبوسيلة "الرابطة." وهما وسيلتان ناجعتان، كما ثبت منذ سنة الهزيمة "الظاهريّة." بل تبدوان الوسيلتين الوحيدتين اللّتين تتأبّيان على الإلغاء والحظْر والتدمير، وتحافظان على الذات القَبْقِيّة من الحلول في الذات الروسيّة.

تونس

 


[1] ابن حوقل، صورة الأرض (بيروت: مكتبة الحياة، 1979)، ص 285؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان (بيروت: دار صادر، 1957)، ص 307؛ الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (القاهرة: دار المعارف، 1968)، ص 829.

[2] الحمى:  Territory

[3] ألكسندر بيسغن وشانتال كيلكخاي، المسلمون المنسيّون بالاتّحاد السوفياتي، ترجمة عبد القادر ضلّي (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1979)، ص 194.

[4] المصدر السابق، ص 195.

[5] نفسه، ص 196.

[6]  ﭽﹻﭽـِان: جزء من بلاد داغستان في دولة شاميل، وفي حمويّة المدوّنة النقشبنديّة.

[7] نفسه، ص 196.

[8] نفسه، ص 197.

[9] يقولون: شامِل، وشاميل، وشَمْوِيل.

[10] نفسه، ص 197 .

[11] بتصرّف في أسماء الأعلام نظرًا إلى عدم رجوع المترجمين إلى الكتابة الداغستانيّة باللغة العربيّة.

[12] نفسه، ص 197 أيضًا.

[13] نفسه، ص 197 - 198.

[14] الباكَنِي، طبقات الخواجكان النقشبنديّة وسادات المشايخ الخالديّة المحموديّة (دمشق: دار النعمان، 1996)، ص 381.

[15] نفسه، ص 380.

[16] القراخي، بارقة السيوف، ص 6.

[17] نفسه، ص 6.

[18] قدّم له القراخي (في بارقة السيوف صفحة 6 و7) شعرَه بالعربيّة في انتقاد قومه ووعظهم.

[19] نفسه، ص 25.

[20] حسن حلمي القحي، السِفْر الأسنى في الرابطة الحُسنى (دمشق: دار النعمان، 1998)، ص 31.

[21] هي اللغة الغُموقيّة.

[22] القحي (حسين حلمي)، تلخيص المعارف في ترغيب محمّد عارف (دمشق: دار النعمان للعلوم، 2002)، ص 108.

[23] الباكِني، طبقات الخواجكان، ص 380.

[24] نفسه.

[25] نفسه.

[26] القراخي، بارقة السيوف، ص. 170.

[27] نفسه، ص 171.

[28] نفسه، ص 172.

[29] نفسه، ص 169.

[30] نفسه، ص 170.

[31] نفسه.

[32] الباكِني، طبقات الخواجكان، ص. 380.

[33] نفسه، ص 382.

[34] القراخي، بارقة السيوف، ص 170؛ الباكِني، طبقات الخواجكان، ص 382.

[35] نفسه، ص 70.

[36] نفسه، ص 68.

[37] نفسه، ص 156.

[38] الباكَنِي، طبقات الخَوَاجكان، ص 22 و42 و45 و47.

[39]  نفسه، ص 45.

[40] القَحِي، السِّفْر الأسنى، ص 63؛ وانظر أيضا شعيب الباكني، تبصرة المرشدين من المشايخ الخالديّين (دمشق: دار النعمان، 1996، مطبوع مع طبقات الخواجكان).

[41] المصدر السابق، ص 46.

[42] نفسه، ص 65.

[43] نفسه، ص 65.

[44] نفسه، ص 65.

[45] نفسه.

عادل بلكحلة

أستاذ في علم الاجتماع، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس