مسلّة القدور المعدنيّة
15-10-2016

 

 

من المنعطف الأخير للنفق الضيّق، أسفلَ جسر شيراتون، أطلّ رأسُ عمودٍ فضّيّ، رفيع ومائل، كما لو أنّ جذرَه مغروسٌ في الهواء. لم يتطلّب الأمرُ أكثرَ من ثانيتين ليظهر رأسُ فتًى أسمر، ثمّ قامتُه المحنيّة، وعلى جانبيها طرفا بقجةٍ أعرض من ظهره.

بعد بضع خطوات من نهاية النفق، وبين أبواق السيّارات الصاخبة، اجتاز الفتى الشارعَ نحو الطرف المقابل لدكاكين البهارات، والبقالات، ومخابزِ الرغيف، وخليطٍ آخرَ من المحلّات غير المتجانسة. سار بخطوات بطيئة موزّعًا نظراتِه بين قدميه، وسائقي السيّارات في الجهة الأخرى، وهم ينتظرون أمام دكاكين البهارات خروجَ زوجاتهم من التسوّق؛ إذ لم يتبقَّ على حلول رمضان سوى يومين، وعليهنّ شراءُ كلّ أصناف الطعام والشراب استعدادًا للصيام. حتّى أنا كنتُ أنتظر خروجهنّ، لأنّ بينهنّ مَن وَعدنني بشراء العصير منّي بعد أن ينتهين من التسوّق في المحلّات.

لا أعرف، يومها، ما الذي قاد تركيزي نحو الفتى الأسمر، بائعِ القدور المعدنيّة. كان الأمرُ غريبًا منذ البداية: أن يسلكَ شخصٌ ما نفقًا بدلًا من رصيف الشارع، ثمّ يتّضح أنّه بائعُ قدورٍ متجوّل، وعندما يصل إلى المكان الذي يستطيع فيه العثورَ على زبائن محتملين يتخبّط في اختيار طريقه نحوهم، وهاهو يجتاز الشارعَ مرّةً أخرى في اتجاهي مباشرةً!

بمحاذاة بسطة العصائر المجفّفة التي أقفُ خلفها، وقفتْ سيّارةُ مورانو ذاتُ لونٍ مرجانيّ داكن. كان السائق يقود بحذرٍ، خشيةَ أن يدهسَ طرفَ البسطات التي احتلّت مساحةً من الشارع. زوجتُه إحدى زبوناتي اللاتي لم يفُتْني خروجُهنّ، وتمكّنتُ من إقناعها بشراء ثلاثة أنواع من العصير، من دون أن أفقد التركيزَ على الفتى. بدوتُ في نظرها شابًّا محترمًا لا يستغلّ محادثةَ بيعٍ وشراءٍ لتمرير نظراتٍ وقحة؛ والحقيقة أنّني أضفتُ ثمنَ تهذيبي على سعر العصير، وجعلتُها تدفعه إلى أخي الصغير الذي يساعدني في البسطة.

 ساعدتُ زبونتي السخيّة في نقل صفائح العصير إلى السيّارة، وفتحتُ لها بابَ الراكب الأماميّ. قبل أن تتحرّك السيّارة، أشارت بيدها المرمريّة نحو الجهة المقابلة من الشارع، ثم ارتفع صوتُ زوجها مناديًا الفتى الأسمر "صاحب الدسوت." تطوّعت بصوتين لمزيد من تأكيد التهذيب.

أخرج الفتى عمودَه الفضيَّ من بقجته: ستّ قدور معدنيّة متفاوتة الأحجام، مربوطة بلاصقٍ شفّاف. عندما أنزل ما تبقّى من حمولته بيدٍ واحدة، لم يبدُ أنّ ما في داخلها يستدعي تقويسَ الظهر. كان ذلك أحدَ المظاهر الخادعة في بنية الفتى، التي تكشّفتْ عن بطنٍ شديد الضمور. أشارت زبونتي إلى القدر الثانية من الأسفل، وحاول الفتى إقناعَها بشراء المجموعة كاملةً مقارنةً بسعر القدر الواحدة. "ستّ قدور بـ3000، أو واحد بألف ريال." "أربع ميّة،" همست الزبونة، وتولّى زوجُها، ذو اللحية الخفيفة، تحويلَ الهمسة إلى صوتٍ حاسمٍ في وجه الفتى. "ثمان ميّة،" ردّ البائعُ النحيل، واختفى وراء باب السائق مباشرةً ليفكّك القدور. همست الزبونة لزوجها مرّةً أخرى، وترجّلت من السيارة. يبدو أنّها نسيتْ شيئًا.

لم أستطع منعَ نفسي من متابعة ما يفعله الفتى. درتُ حول السيّارة ورأيتُ ارتعاشَ يديه وهو ينبش البقجة القماشيّة. أخرج سكّينًا صغيرةً قطع به اللاصق، واستمرّت المساومة في السعر. أخرج الرجلُ الجالس خلف المقود علبة سجائر "دانهيل" وأشعل واحدةً. "هيّا يا تهامي خذ ستّ مية وهات الدست." قال وهو ينفث دخانَ سيجارته إلى الأعلى.

كانت اللهجةُ التهاميّةُ واضحةً رغم الكلام القليل الذي قاله بائعُ القدور الشاحب، ورغم أنّه لا يرتدي أيّة ملابس تدلّ على هويّته المحلّيّة. أُعجبتُ بذكاء السائق، مع أنّني رمقتُه للتوّ بنظرة ازدراءٍ لأنّه يدخّن هذا النوعَ الفاخر من السجائر بينما لا يجد الناسُ من حوله ما يأكلون؛ واحتقرتُه أيضًا لأنّه يريد أن يشتري قدرًا من المعدن الصقيل بأقلّ من سعر علبة السجائر تلك. هزّ الفتى رأسَه رافضًا السعرَ الجديد.

أخرج الفتى لفّة اللاصق الشفّاف من صرّته ليعيد بناء مسلّته المعدنيّة. رفض الاستمرارَ في المساومة حتى بعد أن اقترحتُ على السائق أن يزيده خمسمائة ريال مقابل قدر إضافيّة أصغر حجمًا. بل رفض بيع أيٍّ من القدور، وأمعن في تثبيتها باللاصق. "هيا بعْه، قد زادك خمسميّة للدست الصغير،" قلت للفتى، لكنّه استمر بالرفض، مكرّرًا خمس كلمات فقط بإيقاع منتظم: "لا لا شكرًا شكرًا.. خلاص".

عندما دار محرّكُ السيّارة، كان الفتى لا يزال جاثيًا على مستطيلٍ ترابيّ شقّه عمّالُ وزارة الأشغال لاستبدال الأسفلت التالف. كان ذلك قبل أن توقف الحربُ كلَّ شيء. رفع رأسَه نحوي وقال: "شكرًا". أشرقتْ في عينيه دمعتان، وعلى شفتيه اليابستيْن ابتسامةٌ مالحة. تأكّدتُ من أنّه جائع وغريب. ذلك التقوّس في ظهر فتًى يافع لا يمكن أن يسبِّبَه سوى بطنٍ فارغٍ وشعورٍ بالغربة. لقد كان نازحًا من مدينة حرض، حيث لا تزال موجاتُ الحرب تتجدّد على الحدود الغربيّة.

انطلقت المورانو من جوارنا مثيرةً خليطًا من الروائح والأصوات: حفيف العادم، وقود محترق، عطر نسائيّ باذخ، أبواق سيارات، رغيف طازج يكفي لعشاء مدينتين. حاولتُ منحَه ثمن تهذيبي مع المرأة، لكنّه رفض. رفض بدماثةِ غريبٍ جائعٍ يجهد لمواربة غضبه وخوفِه وبطنِه الضامر.

اليمن

لطف الصراري

كاتب يمنيّ. عمل مديرًا للنشاط الثقافي بجامعة تعزّ لثماني سنين. سنة 2009 أصدر مجموعته القصصيّة الأولى، كمن يدخّن سيجارةً طويلةً بنفَسٍ واحد. وفي العام نفسه، عمل محرّرًا للصفحة الثقافيّة بصحيفة حديث المدينة، قبل أن يشغل مهامّ مدير التحرير فيها لمدة سنة ونصف السنة. مع بداية العام 2011، انتقل من تعز إلى صنعاء للعمل في صحيفة الأولى، حيث شغل فيها مهامّ مدير التحرير أيضًا، حتى توقّف صدورها في مايو 2015.
وفي مارس 2016، أصدر مجموعته القصصية الثانيّة، الرجاء عدم القصف