مؤشّرات التحويل الديداكتيكي في مناهج التعليم الديني في لبنان والصندوق الأسود
12-02-2021

 

يُعتبر التعليمُ الدينيّ في لبنان أحدَ أهمّ امتيازات الطوائف، وهو تعليمٌ "حرٌّ ما لم يُخِلَّ بالنظام العامّ أو ينافِ الآدابَ أو يتعرّضْ لكرامة أحد الأديان أو المذاهب؛ ولا يمكن أن تُمَسَّ حقوقُ الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصّة، على أن تسيرَ في ذلك وفاقًا للأنظمة العامّة التي تُصدرها الدولةُ في شأن المعارف العموميّة."[1] ومن ثم نصَّت وثيقةُ الوفاق الوطنيّ اللبنانيّ، المعروفة بـ اتفاق الطائف، التي صادق عليها مجلسُ النوّاب في العام 1989، على الآتي: "تأمينًا لمبدأ الانسجام بين الدين والدولة، يحقُّ لرؤساء الطوائف اللبنانيّة مراجعةُ المجلس الدستوريّ في ما يتعلّق بالأحوال الشخصيّة وحريّةِ المعتقد وممارسةِ الشعائر الدينيّة وحريّةِ التعليم الدينيّ."[2] وقد ساعدتْ هاتان المادّتان على نشوء المؤسّسات الدينيّة التابعة للطوائف، وعلى ازدهارِها، وامتدادِ رقعة التعليم الدينيّ في معظم المؤسّسات التعليميّة، الرسميّةِ والخاصّة.

غير أنّ إشكاليّةَ التعليم الدينيّ تتأكّد اليوم مع انتشار الجماعات الأصوليّة في العالم أجمع، وخصوصًا في مجتمعاتنا العربيّة. فهذه الجماعات تنقل الدينَ إلى أجيالٍ جديدةٍ من الشباب بهدف التعبئة، أو انسياقًا وراء إيديولوجيّات، مستغلّةً المؤسّسات التعليميّةَ لنشر تعاليمَ لا تنسجم، في رأينا، مع أصالة التراث الإيمانيّ؛ كما أنّها لا تتوافق مع الإدارة الديمقراطيّة للتعدديّة الدينيّة والثقافيّة في المجتمعات التعدّديّة، حيث تُحترَم في العادة الحقوقُ الدينيّةُ والثقافيّة، ويجري تجنُّبُ مخاطر العزل الدائم والمشاركة في الحياة العامّة.[3]

في السياق اللبنانيّ اليوم لا يمكننا أن نُغفلَ أدوارًا متوقّعةً للتعليم الدينيّ، كما للتنشئة المدنيّة، في ترسيخ قيم التضامن والتسامح وقبولِ الاختلاف، نظرًا إلى ما تمتلكه التنشئةُ الدينيّةُ من قوّةٍ رمزيّةٍ استثنائيّةٍ في مجتمعاتنا العربيّة. ولقد سبقتْ وثيقةُ أهداف مادّة التاريخ وثائقَ مناهج التعليم الدينيّ، إذ أكّدت أنّ"المسيحيّة والإسلام هما مصدران أساسيّان لمبادئَ وقيمٍ أخلاقيّةٍ وإنسانيّةٍ تتنافى وجميعَ أشكال ومظاهرِ التعصّب الدينيّ والطائفيّ؛ ذلك أنّ استغلالَ الطائفيّة هو اعتداءٌ على مبادئ المسيحيّة والإسلام وقيمِهما، كما أنّه افتئاتٌ على الوحدة الوطنيّة والعيشِ المشترك." وأكّدتْ أيضًا "نبذَ التعصّب الدينيّ والطائفيّ."[4]

نحن اليوم أمام كمٍّ كبيرٍمن كتب التعليم الدينيّ:

فالتعليم الدينيّ المسيحيّ يعتمد، في معظمه، على سلسلة يسوع طريقنا، الصادرة عن مركز التربية الدينيّة في جمعيّة راهبات القلبيْن الأقدسيْن للمرحلتيْن الابتدائيّة والمتوسِّطة؛ وسلسلة لجنة التعليم الدينيّ الأرثوذكسيّ المعتمَدة في المدارس الأرثوذكسيّة (وهي تتألّف من ثلاثة أجزاء في المرحلة الابتدائيّة، وجزء واحد للمرحلة المتوسِّطة)؛ وسلسلة تعالَ اتبعْني، الصادرة عن المكتب التربويّ لراهبات العائلة المقدَّسة المارونيّات (وهي مخصَّصة للصفوف الابتدائيّة من الأوّل حتّى الرابع)؛ والسلسلة المسكونيّة للتنشئة المسيحيّة، من منشورات المكتبة البوليسيّة للمرحلة الثانويّة؛ وسلسلة التعليم المسيحيّ المشترك (لمرحلة التعليم الأساسيّ)، من إصدار لجنة التعليم المسيحيّ المشتركة، وهي معتمَدة في عدد من المدارس الرسميّة والخاصّة. هذا بالإضافة إلى مجموعة كتبٍ وسلاسلَ مختلفة، ومنها: سلسلة طريق المحبّة للرَّهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، وسلسلة حبَّة الحنطة للأخت ماري رينه ديراني من راهبات المحبّة، وسلسلة ملاقاة يسوع، وسلسلة الرَّبّ نوري وخلاصي للأب فرنسيس الحكيم، وسلسلة سيِّدة العطايا، ومنشورات الخوري ميشال عويط.[5]

أمّا أبرزُ الكتب المعتمدة في التعليم الدينيّ الإسلاميّ فهي: سلسلة الإسلام رسالتُنا، الصادرة عن جمعيّة التعليم الدينيّ الإسلاميّ، وتشمل مرحلتَي التعليم الأساسيّ والثانويّ؛ وسلسلة أ ل م لتعليم القرآن الكريم في مرحلة التعليم الأساسيّ، وقد صدرتْ عن مركز التأليف والنشر في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم؛ وكتاب التفسير التربويّ لصفوف الثالث والرابع والخامس من التعليم الأساسيّ، وهو صادرٌ عن جمعيّة التعليم الدينيّ الإسلاميّ، ومخصّصٌ لتعليم القرآن؛ وسلسلة كتب التربية الدينيّة، الصادرة عن المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى، وتُغطِّي مرحلتَي التعليم الأساسيّ والتعليم الثانويّ، وتشمل أيضًا رياضَ الأطفال، وهي معتمَدة في المدارس الرسميّة من قِبل جمعيّة التعليم الرِّساليّ؛ وسلسلة المبادئ الإسلاميّة، الصادرة عن جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة، ومخصّصة للمرحلة الابتدائيّة؛ وسلسلة بذور الإيمان وبراعم الإسلام، الصادرة عن جمعيّة المبرّات الخيريّة الإسلاميّة (التابعة لمؤسّسات المرجع الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله)؛ وسلسلة التربية الإسلاميّة، وهي معتمَدة من دار الفتوى ومن جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة؛ وسلسلة رسالتنا، الصادرة عن مؤسّسات أمل التربويّة بالتعاون مع جمعيّة التعليم الرِّساليّ؛ بالإضافة إلى مجموعة كتبٍ وسلاسلَ مختلفة نذكر منها: سلسلة الحديقة الدينيّة للأطفال، وسلسلة الثقافة الدينيّة، وسلسلة الهداية، وسلسلة الإسلام ديني، وسلسلة مناهج الشريعة الإسلاميّة للصفوف الثانويّة، وكتاب الإسلام دين وحياة، وكتاب جزء عمَّ المفسَّر لسميح الزين وكامل سليمان، وكتاب جزء عمَّ الميسَّر للشيخ محمّد هويدي، وكتب التفسير القرآنيّ للأستاذ عفيف طبّارة، وسلسلة أشبال الإسلام للمرحلة الابتدائيّة ، وسلسلة فتية الإسلام للمرحلة الثانويّة لعبد الرحمن حجازي.[6]

 

يَختبر التلامذةُ اللبنانيّون عشراتِ مناهج التعليم الدينيّ التي تمارِس تنشئةً دينيّةً موجَّهةً بامتياز

 

إذن يَختبر التلامذةُ اللبنانيّون عشراتِ مناهج التعليم الدينيّ التي تمارِس تنشئةً دينيّةً موجَّهةً بامتياز. هذا إضافةً، طبعًا، إلى منهج التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة الصادر عن المركز التربويّ للبحوث والإنماء، والمعتمَد من قِبل السلطة الرسميّة.

أمام هذا الكمّ الهائل من التنشئة الذي تمارسه المؤسّساتُ التعليميّة، يصبح من المشروع السؤالُ عمّا تختزنه هذه المناهجُ من مفاهيمَ وقيمٍ واتجاهات، وأين تتقاطع هذه المناهجُ وأين تختلف؟ وهل تتوافق مع غايات التعليم في لبنان، التي تؤكّد تكوينَ المواطن "المتمثّل تراثَه الروحيَّ النابعَ من الرسالات السماويّة، والمتمسِّكِ بالقيم والأخلاق الإنسانيّة،" إذ لا شرعيّة لأيّ منهجٍ أو "سلطةٍ تُناقض ميثاقَ العيش المشترك"؟

وفي ظلّ هذه النماذج المتعدّدة للتنشئة الدينيّة يتأكّد السؤالُ عن نوعيّة مُدخلات التعليم الدينيّ وعمليّاتِه ومُخرَجاته. ماذا يَختبر التلامذةُ بيداغوجيًّا؟ ما هي مواصفاتُ المعلّم، وماذا يحمل من كفايات مهنيّة (Compétences professionnels)؟ وهل تَلْحظ برامجُ التكوين كفاياتٍ مستعرضة (Compétences transversals) تؤكّد قيمَ الحريّات والتفكير النقديّ وقبول التنوّع؟ وهل تُشكّل كفاياتُ تقدير التنوّع الفكريّ والدينيّ واحترامِه جزءًا من رؤى المؤسّسات الدينيّة واستراتيجيّاتِها في برامج إعداد المعلِّمين، فضلًا عن ملامح خرّيجي مؤسّساتها؟ وما هو نتاجُ تجارب التعليم الدينيّ الممتدّ على مساحة الوطن؟ وهل ما يحصل دليلُ غنًى في إطار تعزيز قيم أصيلةٍ ومشتركة، أمْ نحن اليوم أمام فوضى مناهج تعليم دينيّ؟

ثمّة أسئلة بنيويّة عن مضمون مناهج التعليم الدينيّ؛ وربما يشكّل تفحُّصُ مُخرَجات هذه المناهج بدايةَ طريق الكشف عن الملامح التي طُبع بها تلامذتُنا. وهذا التفحّص لا يمكن أن يُعدَّ جزءًا من "مؤامرة" أو "مسًّا بالمقدَّس." فمن المنطقيّ أن تُقوَّمَ مناهجُ التعليم الدينيّ، أسوةً ببقية الحقول المعرفيّة أو التجارب التربويّة التي تختبرها الأنظمةُ التعليميّة، وذلك في إطار إعادة البناء أو التحسين أو التعديل في سياساتها وممارساتها. باختصار، ثمّة حاجةٌ ملحّةٌ إلى الكشف عمّا يختزنه الصندوقُ الأسودُ لمناهج التعليم الدينيّ.

تخضع مناهجُ التعليم الدينيّ لسلسلةٍ من التغيّرات البنيويّة بسبب المساحة الكبيرة التي يَسمح بها التحويلُ الديداكتيكيّ الخارجيّ (transposition didactique externe)؛ وهو مرحلةُ الانتقال في المنهج من التراث الدينيّ إلى وثيقة المنهج المدرسيّة، أيْ إلى فضاء الممارسة التربويّة التي يعبِّر عنها المنهج.[7] في الكثير من الأحيان يمكن أن تتشكّل ملامحُ الفاعلين الدينيّين التربويّين من مفاهيمَ وقيمٍ يعبِّر عنها التراثُ الدينيُّ الخالص، في تجاوزٍ واضحٍ لوثيقة المنهج المدرسيّة، وفي انتماءٍ معلنٍ إلى التراث الدينيّ الذي يمتلك مشروعيّةً شعبيّةً أقوى. بل يمكن ألّا تعبِّر الكتبُ المعدّةُ للتعليم الدينيّ بشفافيّةٍ عن هذه المعرفة التي تُشكل إطارًا مرجعيًّا ناظمًا لكافّة أولئك الفاعلين.

يَكشف الصندوقُ الأسودُ للتعليم الدينيّ، نتيجةً لهذا التحوّل، الكثيرَ من الأسرار. ففي تحليل مضمون مجموعةٍ من كتب التعليم الدينيّ، تغيب "صورةُ الآخر (المسلم أو المسيحيّ) عن الكتب كافَّةً" ويجري "التركيزُ على صورة الذات وعلى مبادئ العقيدة، التي تَشْغل الحيِّزَ الأوسعَ في تلك الكتب"؛[8] وإنْ تناولتْ هذه الكتبُ الآخرَ فعلًا، فذلك لا يتمّ إلّا بصورةٍ عرَضيّةٍ وغير مباشرة، ويظهر التمحورُ حول "الذات بدرجةٍ عاليةٍ جدًّا."[9] كما "أضحى الآخرُ المختلفُ دينيًّا، أو حتى الدِّينُ الآخر، موضعَ استبعادٍ في بعض الكتب، ولم يرِدْ ذكرُه فيها إلّا نادرًا، ومن بابٍ سلبيٍّ أحيانًا، كاستحضاره تارةً لنُبيِّن تفوُّقَنا عليه ثم نعود ونغْرقه في الغياب."[10] إلى ذلك لم تتعرَّض الكتب "لمسألة الوطن إلّا بإشاراتٍ عابرةٍ وردتْ متناثرةً."

تسمح هذه المساحةُ المرنة، التي يمتلك فيها التراثُ الدينيُّ مرجعيّةً ومشروعيّةً أقوى، بانقلاب بعض صنّاع المناهج، أو الفاعلين التربويّين، على وثيقة المنهج الرسميّة. ويختزن الصندوقُ الأسودُ للتعليم الدينيّ، أثناء عملية التحوّل الخارجيّ، المنهجَ الرسميَّ الذي يشكّل عالمًا من النصوص والتصوّرات، ويشمل: الأهداف، والأنشطة، والوسائل، والموارد، وأنماطَ التقويم، وكتابَ التعليم الديني. هذا المنهج وثيقةٌ مُعدّةٌ للتجربة، ويتميّز عادةً بالضبابيّة، ويُفسَّر بطرقٍ مختلفة، وينفَّذ في الصفّ، ويسمح بمرور "النوايا" في الممارسة.

 

يمرِّر المعلّم عددًا من المعارف والمهارات التي تتوافق مع خلفيّته الدينيّة

 

ننتقل بعد ذلك إلى التحويل الديداكتيكيّ الداخليّ (transposition didactique interne)، ومن خلاله يبرِّر الممارسون التربويّون مشروعيّةَ وصوابيةَ فهمهم الخاصّ للمنهج بما يتوافق مع الإطار المرجعيّ الدينيّ. تُساعد ضبابيّةُ بعض نصوص المنهج المعلّمين على تقديم رؤيتهم الخاصّة، بعيدًا عن الغايات المعلنة. في مؤشّرات هذا التحوّل أظهرتْ خلاصةُ دراسة عبد الناصر صلح التزامَ مناهج التعليم الدينيّ "العموميّةَ والتجريدَ في مقاربة القيم." ومن هنا تبرز الحاجةُ إلى تفحّص هذا المنهج الذي يُعطي المعلّمين هامشًا كبيرًا من السلطة المعرفيّة والاستقلاليّة والإدارة الذاتية للحوار تحت إطار "تنوّع التجارب." إنّ تجربة التلامذة ومُخرَجاتِ التعليم الدينيّ توجد في نهاية سلسلة التحوّل الديداكتيكيّ.[11] ويتمّ التعبيرُ عن هذا التحوّل الداخليّ بالمنهج الواقعيّ الحقيقيّ؛ وهو المكوِّنُ الثاني للمنهج الذي يختزنه صندوقُنا الأسود، ويتكوّن من التجربة التي يختبرها المتعلّمون على مستوى الأنشطة والتمارين والنصوص التي يتعاملون معها. في هذا المنهج تُشكّل مواصفاتُ معلّم التعليم الدينيّ العنصرَ الأكثرَ فعّاليّةً، إذ يبني المعلِّمُ سياقًا ديداكتيكيًّا شخصيًّا يتضمّن تفسيرًا خاصًّا للمنهج؛ وبحسب طاقته على تحريك التلامذة يمرِّر عددًا متغيّرًا من المفاهيم والمعارف والمهارات التي تتوافق مع خلفيّته الدينيّة، أو تنسجم مع المكوِّنات السوسيولوجيّة للجمهور الدينيّ.

في داخل هذا الصندوق الكثيرُ من المؤشِّرات الدالّةِ على مُخرَجات هذه التحوّلات. تُظْهر دراسةُ صلح مواقفَ واتجاهاتٍ معلنة لا تعبِّر عنها وثيقةُ المنهج المعلنة. هكذا يهزأ بعضُ التلاميذ من التربية المدنيّة ويعتبرونها "كذبةً"؛ كما يرفض 83% من صانعي المناهج إضافةَ مادّةٍ تُعرِّف بالآخر. كما تَعرض دراسةُ صلح رأيَ صنّاع المناهج في خصوص حرّيّة الطالب في مناقشة قضايا عقديّة، فيتعبرون أنّ "هناك خطًّا أحمر: نسمح له أن يناقشَ ضمن ضوابط. نحرص على إعادته إلى جادّة الصواب. نستخدم الحوارَ كوسيلةٍ للعلاج، إذ نعتبر التلميذَ في هذه الحالة ضالًّا!"

وفي دراسة عبد الغني عماد[12] مع عدد من طلّاب الدراسات العليا في الجامعة اللبنانيّة، توصَّل إلى أنّ انعكاسَ المناهج التي تدرَّس على مواقف التلاميذ وسلوكيّاتهم تجاه الآخر المختلفِ بالدِّين والمذهب يَظْهر واضحًا عند الطلّاب الذين يتلقّوْن التعليمَ الدينيّ. ففي نتائج عيِّنةٍ مختلطةٍ من طلّاب المدارس الرسميّة والمدارس الخاصّة، مقارنةً بالمعاهد الدينيّة، تبيَّن أنّ أكثريّة طلّاب المؤسّسات التربويّة الرسميّة (97.8%) يتعاملون بشكل عاديّ مع الآخر المختلف، في حين أنّ طلّاب المعاهد الدينيّة اختاروا بنسبة 68.7% مقاطعةَ الآخر، وسجّلت المدارسُ الخاصّة ارتفاعًا ملحوظًا لخيار التحفّظ تجاه الآخر. أمّا في مسألة العمل مع الآخر، فيعتقد 36.5% من طلّاب المعاهد الدينيّة أنَّه من غير المرغوب شرعًا العمل مع أشخاصٍ مختلفين بالدِّين والمذهب، مقابل 6.5% من طلّاب المدارس الرسميّة و3.9% من طلّاب المدارس الخاصّة. لكنّ هذه النِّسبة تتّجه صعودًا حين السُّؤال عن العمل تحت رئاسة أشخاصٍ مختلفين بالدِّين والمذهب، لتصل إلى 97.4% بين طلّاب المعاهد الدينيّة، و29.1% بين طلّاب المدارس الخاصّة و13.9% بين طلّاب المدارس الرسميّة.

انطلاقًا من المؤشِّرات الواقعيّة التي تُظهرها هذه الدراساتُ البحثيّة، يُصبح من المشروع والمُلحّ تفحّصُ هذا الصندوق، الذي يُنبئ عن بعض التباين مع الخطاب الرسميّ المعلن (أهداف التعليم وموادّ الدستور) الذي يؤكّد احترامَ التنوّع والتعدّديّة وصيانة العيش المشترك.

في الخلاصة، لا يمكن أن تُعبِّر وثيقةُ المنهج بصدقٍ عن المُخرَجات الفعليّة للتعليم الدينيّ؛ إذ لا يمكن أن نَحْكم على نتاجات التعليم الدينيّ إلّا في سياق ما يحدث على أرض الواقع. وتُعتبر المؤشّراتُ التي عرضتْها هذه الدراسةُ دليلًا حيًّا على وجود منهجٍ خفيٍّ يتشكّل من كافّة الخبرات والمعارف والقيم والسلوكيّات التي تُكتسب خارج أهداف التعليم المعلنة؛ في إشارة إلى أهمّيّة استيعاب التربية كعمليّة نشاطٍ اجتماعيّ. وهذه الوقائع يمكن أن تشكّل حافزًا لدراسات أكثرَ عمقًا وامتدادًا، تُطاوِل - إلى جانب كُتب التعليم الدينيّ ومُخرَجاته - كافّةَ الفاعلين والمؤثِّرين في صناعة المنهج وتنفيذه. وفي هذه الدراسات لا بدّ من أن يُطرح العديدُ من التساؤلات عن اتجاهات صنّاع المناهج وأساتذة التعليم الدينيّ في خصوص قيم العلاقة بالآخر، ونوعيّة برامج إعداد معلّم التعليم الدينيّ، ومدى التوافق بين المنهج المعلن للتعليم الدينيّ ومرجعيّته في التراث الدينيّ.

بيروت

 


[1] الدستور اللبنانيّ، المادّة 10.

[2] وثيقة الوفاق الوطني، اتفاق الطائف (الجمهورية اللبنانيّة: مجلس النوّاب، 1989).

[3] أنطوان مسرّة، الإدارة الديمقراطيّة للتعدّديّة الدينيّة والثقافيّة: لبنان من منظور عربيّ ومقارن (جامعة القدّيس يوسف، 2018).

[4] الجريدة الرسميّة، 2000.

[5] عبد الناصر صلح، الإدارة الديمقراطيّة للتعدديّة الدينيّة: دراسة لواقع التعليم الدِينيّ في لبنان (رسالة أُعِدّت لنيل شهادة الدكتوراة في العلوم الدينيّة، جامعة القدّيس يوسف، 2020).

[6] المصدر السابق.

[7]J.-F Perret, et Ph. Perrenoud, Ph. (dir.), Qui définit le curriculum, pour qui? Autour de la reformulation des programmes de l'école primaire en Suisse romande, Cousset (Suisse), Delval, 1990

[8] طلال عتريسي وآخرون، الذات والآخر في كتب التعليم الدينيّ عند الطوائف اللبنانيّة، القيم والتعليم (بيروت: الهيئة اللبنانيّة للعلوم التربويّة، 2001).

[9] هلال علويّة، التربية الدينيّة من خلال التعليم الدينيّ في مدارس الطوائف اللبنانيّة، رسالة دبلوم في العلوم الاجتماعيّة (بيروت: الجامعة اللبنانيّة - معهد العلوم الاجتماعيّة، 1989).

[10] شربل أنطون، "قراءة تحليليّة في الكتب الدينيّة التي تدرَّس للأطفال والناشئة: الدولة تخلّت عن واجباتها تجاه رعاياها،". https://lkdg.org/node/6409

[11]Ph. Perrenoud, La fabrication de l'excellence scolaire : du curriculum aux pratiques d'évaluation, Genève, Droz, 1984 (rééd. augmentée 1995)

وليد حمّود

دكتور  في علوم التربية في فرنسا في جامعة université de bretagne occidentale. عمل مديرًا لقسم الدمج التربويّ في مؤسّسة الهادي للإعاقة السمعيّة والبصريّة في العام  1998. في العام 2003 بدأ عملَه في الإشراف التربويّ في مؤسّسات المبرّات حتى العام 2012. بدأ تدريسَه الأكاديميّ في جامعة القدّيس يوسف في بيروت في العام 2011. وفي العام 2012 عمل أستاذًا في كلّيّة التربية في الجامعة اللبنانيّة. عُيِّن عميدًا لكلّيّة التربية في جامعة العلوم والآداب اللبنانيّة USAL في العام 2012.