المأساة السوريّة والمواقف "الأخلاقيّة"
20-02-2017

 

 

بعد أشهر قليلة من اندلاع التظاهرات السلميّة السوريّة في أوائل العام 2011، المشابهةِ للتظاهرات التونسيّة والمصريّة (التي أفلحتْ في التخلّص من بن علي ومبارك)، اشتعلت الحربُ السوريّة. وقد جاءت معظمُ المواقف السياسيّة من هذه الحرب مغلّفةً بأغلفةٍ "أخلاقيّة،" لكنّها في الواقع لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة، بل تنبع ــــ في أكثريّتها الساحقة ــــ من المواقف الأصليّة لأصحابها من النظام السوريّ بشكل عامّ، وبصرف النظر عن الحرب. ويصحّ هذا الوصف على مواقف مختلف الأطراف.

فعلى الضفّة الأولى من المشهد، هناك مَن يقف في صفّ النظام السوريّ بشكلٍ مطلق لأنّ الفريق الآخر في الحرب السوريّة، كما يقول، مكوَّنٌ من "العملاء والإرهابيين المنتمين إلى تنظيم القاعدة،" والمنخرطين "في المؤامرة الكونيّة" التي بدأ تنفيذُها ضدّ سوريا "مع خروج أولى التظاهرات في المدن السوريّة في العام 2011." وعليه، فإنّ "من واجب النظام السوريّ، السياسيّ والأخلاقيّ، التصدّي لهذه المؤامرة الكونيّة، والقضاءَ عليها بالقوّة، وبأسرع ما يمكن." مع هذا المنطق ينتفي، طبعًا، أيُّ سبب داخليّ حقيقيّ وراء التظاهرات السلميّة الأولى، حتى لو اقتصرت الهتافاتُ آنذاك على "حرّيّة... حرّيّة...،" وحتى لو كان الخوف والرعب عندئذٍ واضحيْن على وجوه المتظاهرين العزّل في جميع صور هذه التظاهرات.

وتبعًا لذلك أيضًا تنتفي الحاجةُ إلى أيّ بحثٍ في طبيعة النظام السوريّ، وما إذا كان عليه الانفتاحُ على المجتمع السوريّ، وبدءُ الحوار حول سبل الانتقال التدريجيّ نحو التغيير الديمقراطيّ، في سبيل الحفاظ على وحدة سوريا وشعبها؛ ولا سيّما أنّ تاريخ النظام السوريّ معروفٌ في الحكم عبر الاستخبارات لإرهاب الناس وإذلالهم، منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، لا منذ أيّام حافظ الأسد فحسب. كما أنّ كيفيّة وصول بشّار الأسد إلى السلطة، بعد أن ورثها عن أبيه، كما تُورّث الأملاكُ الخاصّة، معروفة أيضًا. لكنّ البحث في أيٍّ من هذه الأمور مُنع منعًا باتًّا قبل أن "يتمّ القضاءُ على المؤامرة الجاري تنفيذُها أمام أعيننا"؛ فالتشويه والتخوين جاهزان لأن يُشهرا في وجه كلّ مَن يفتح موضوع طبيعة النظام وضرورة تغييرها، أو يحاول أن يفتح نقاشًا حول إمكانيّة وجود أيّة أسباب حقيقيّة لخروج الناس إلى التظاهر.

***

أمّا على الضفّة الأخرى، فالغطاء الأخلاقيّ للمواقف السياسيّة لا يقلّ سماكةً ووضوحًا. فهناك مَن لا يزال يرى أنّ الأمر يُختزل إلى قمعٍ دمويٍّ يمارسه "نظامٌ مجرمٌ على شعبه الأعزل"؛ وأنّ العسكرة التي آلت إليها الأحداثُ بعد شهورٍ قليلةٍ من بدء التظاهرات في المدن السوريّة كانت "ردَّ فعلٍ طبيعيًّا" بعد أن "اضطُرّ الثوّار" إلى حمل السلاح للدفاع عن المتظاهرين في وجه "شبّيحة" النظام؛ وأنّ هذا النظام "القاتل المجرم والسفّاح" ليس وحده مَن يحمل هذه الصفات، بل يشاركه فيها كلُّ مَن يساعده من دولٍ ومنظّماتٍ وأحزاب.

وهنا، في المسألة الأخيرة تحديدًا، يتمّ التصويبُ، بشكلٍ خاصّ، على حزب الله، الذي لم تعد له أيّةُ صفةٍ إلّا صفة الإجرام، بل تحوّل الحزبُ إلى العدوّ الأوّل لكثيرٍ من الواقفين على هذه الضفّة. ولتسهيل إقناع المنتقلين حديثًا إلى هذه الضفّة، فإنّ الوصفة الأحدث تقول لهم إنّ الصراع العربيّ ــــ الإسرائيليّ "لم يعد يمثِّل التناقضَ الرئيسَ" في منطقتنا، وإنّ "العدوّ الأوّل هو مَن يدافع عن النظام السوريّ" المعادي لـ"عمليّة التحوّل الديمقراطيّ" التي انطلقتْ في المنطقة.

ووُجد على هذه الضفّة مَن يكتب في وصف معركة حلب الأخيرة بأنّها "من أفظع الكوارث الإنسانيّة"؛ أيْ إنّها على المستوى ذاته مع "المحرقة" النازيّة، والإبادة الأرمنيّة، وإبادة التوتسي في روندا على سبيل المثال. وغنيّ عن القول إنّ الذي كتب ذلك لم ينبسْ ببنت شفة عن مآسي المدنيّين جرّاء معركة الموصل التي كانت تجري بالتزامن مع معركة حلب، أو عن مآسي حرب اليمن الموثَّقة. أمّا التطهيرُ المذهبيّ، والخطفُ على الهويّة، وعرضُ المخطوفين في أقفاصٍ حديديّة، والقتلُ، والسحلُ، فهي ممارساتٌ لا تقوم بها، بحسب هؤلاء، جميعُ القوى المنخرطة في الحرب السوريّة على حدٍّ سواء، بل يقوم بها حصريًّا "النظامُ المجرم" ومَن يدعمه من "ميليشياتٍ مذهبيّة" آتية لهذه الغاية من العراق ولبنان.

***

إنّ "الأردية الأخلاقيّة" التي تُطرح على المواقف والسرديّات أعلاه لا يمكن أن تحجبَ حقيقةَ ما يجري في سوريا بأنّه حربٌ أهليّةٌ بشعةٌ يتساوى طرفاها المتحاربان في المسؤوليّة عنها. فما جرى هو أنّ النظام ومعارضيه الإسلاميين، على حدٍّ سواء، هرولوا بأقصى سرعة إلى استغلال التظاهرات السلميّة التي اندلعتْ في العام 2011 من أجل عسكرة المواجهة. وقد حاول النظامُ يومها أن يضربَ عصفوريْن بحجر واحد:

ــــ فمن ناحية، اعتبر أنّه يمكنه، من خلال العسكرة، إثباتَ ادّعائه أنّ المواجهة محصورةٌ بالجماعات الأصوليّة المرتبطة بتنظيم القاعدة، وأنّه ــــ من ثمّ ــــ "مضطرّ" إلى استعمال أقصى القوّة المتاحة لقمع التحرّك في مهده.

ــــ ومن ناحية ثانية، اعتبر أنّ العسكرة أسهلُ الحلول لأنّها تتيح له جرَّ خصومه إلى شكل المواجهة الأسهل بالنسبة إليه، بدل أن يبقى "متسربلًا" في مواجهة تظاهراتٍ سلميّةٍ يصعب عليه إخمادُها بعيدًا عن أعين الإعلام.

لكنّ حسابات النظام البدائيّة هذه، التي لم تأبه لخطر الانقسامات المذهبيّة، لم تأخذ في الاعتبار أيًّا من احتمالات التدخّل الإقليميّ والغربيّ والإسرائيليّ، وكأنّ سوريا من كوكبٍ آخر، لا جزءٌ من منطقتنا العربيّة.

ولتسهيل الأمر، أُفرغتْ سجونُ النظام من المعتقلين الإسلاميين كما هو معروف، فيما أُبقي داخلها معتقلو المعارضة من غير الإسلاميين. فانخرط الأوّلون فور خروجهم في الحرب الأهليّة، واشتُهر العديد منهم كقياداتٍ ميدانيّةٍ في هذه الحرب.

أمّا من ناحية المعارضة الإسلاميّة، فقد استسلمتْ سريعًا لإغواء التسليح والدعم اللذين لوّحتْ بهما تركيا ودولُ الخليج (التي سنّتْ سكاكينَها لتسوية "الحساب المفتوح" مع النظام السوريّ منذ اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، وحرب تمّوز في العام 2006)، ولإغواء الدعم الغربيّ اللاحق. ولم تتأخّر مختلفُ أطياف الإسلام السياسيّ، من الإخوان المسلمين إلى أقصى السلفيين، في الركوب على موجة التظاهرات، والإسراع باتّجاه التسلّح والحرب الأهليّة الشاملة. وابتدأ "تفقيسُ" الجيوش والألوية والكتائب والعصائب والجبهات، حتى أصبحتْ أسماءُ الميليشيات المعارِضة وأنواعُها وأحجامُها عصيّةً على المتابعة أو الفهم. وكانت القوى القاعديّة سريعةً أيضًا في الانتقال من العراق إلى سوريا والانخراط في الحرب، ثمّ كانت أسرع في الإنقسام إلى "جبهة نصرة" و"داعش."

وقد زُيّن للمعارضة المسلّحة أنّ حلف شمال الأطلسيّ لا بدّ من أن يهاجمَ سوريا عسكريًّا لاقتلاع الأسد، كما اقتلع القذّافي قبل ذلك بشهورٍ قليلة، متأمّلةً أن يَحلَّ العاملُ الإسرائيليّ في الحرب السوريّة مكانَ العامل النفطيّ الذي أثبت جاذبيّتَه في الحرب الليبيّة. لكنّ بشار الأسد أثبت شطارتَه، وبأنّ "الولدَ سرُّ أبيه" فعلًا، وكان أسرعَ من البرق في سحب العامل الإسرائيليّ من المعادلة بواسطة تسليمه لترسانته الكيميائيّة بأكملها. ولكنّه لم يفعل ذلك إلّا بعد أن أتحفنا بكلّ الأسباب الموجبة، وأعلَمَنا أنّ هذه الترسانة كانت حِمْلًا ثقيلًا لم تكن سوريا تعرف كيف تتخلّص منه، وأنّ ما فهمناه في السابق عن استعمال هذه الترسانة في "التوازن النسبيّ" مقابل السلاح النوويّ الإسرائيليّ كان سوءَ فهمٍ فقط.

وهكذا دخلتْ سوريا في حرب أهليّة، كان واضحًا منذ عامها الأوّل أنّها ستكون مديدةً جدًّا بسبب التوازن الذي ظهر بين أطرافها، والذي نتج من الدعم العسكريّ الذي بدأتْ هذه الأطرافُ في تلقّيه من الجهات الإقليميّة والدوليّة المختلفة منذ أوّل الحرب. ولم يأبه أيٌّ من طرفي الحرب الأهليّة المقيتة للخراب الهائل الذي حلّ بسوريا من جرّائها، ولا لمئات آلاف القتلى والجرحى، ولا لملايين المشرّدين من الشعب السوريّ. وسرعان ما ظهرتْ إلى العلن الدوافعُ الطائفيّةُ عند طرفَي الحرب الأهليّة المتقاتليْن، التي تحوّلت من "ثورة من أجل الحرّيّة والديمقراطيّة،" إلى حرب "ضد النصيريّة" من جهة، وإلى "دفاع عن الأقليّات" من جهة أخرى.

والمصيبة أنّ كلًا من طرفَي الحرب المتقاتليْن اعتبر أنّ الاستغلال الإقليميّ والدوليّ للمأساة السوريّة هو في مصلحته تمامًا. فإذا كانت الأطراف الإسلاميّة المختلفة قد صدّقتْ أنّ حلف الأطلسيّ سوف ينقضّ على سوريا على الطريقة الليبيّة، ويسلّمها إليها على طبق من فضّة، فإنّ النظام قد أشبعنا تبجّحًا بأنّ سوريا قد أصبحتْ "ساحةَ الصراع الأولى" في عمليّة استعادة التوازن الدوليّ بين أميركا وروسيا، وكأنّه أمرٌ عظيمٌ أن يُستعاد هذا التوازن من خلال تدمير سوريا وتشريد شعبها كما يحدث منذ ستّ سنوات.

والغريب أنّ النظام يعرف تمامًا، من خلال "خبرته الطويلة" في الحرب اللبنانيّة، أنّ تحويلَ البلد إلى ساحةٍ للصراع الدوليّ يحوِّل جميعَ اللاعبين المحلّيّين (بمن فيهم النظامُ نفسُه) إلى أدواتٍ صغيرةٍ في أيدي المتصارعين الدوليين الكبار. لكنّ القائمين على النظام السوريّ فضّلوا التمسّكَ به، وبشكله الحاليّ من دون أيّ استعدادٍ للتغيير الجدّيّ، متعامين عن حقيقة أنّ قرارَ الخروج من الحرب الأهليّة التي كانوا فاعلين أساسيّين في إدخال بلادهم فيها لن يكون في يدِهم على الإطلاق، بل سيكون نتيجةً لتسوية دوليّة بين مختلف اللاعبين الكبار على الساحة السوريّة. ووحده الله يعلم متى تنضج ظروفُ "تسويةٍ" كهذه، وما إذا كانت ستُبقي على سوريا موحّدةً أمْ تقسّمها إربًا بين طوائفها وأصحابِ النفوذ الإقليميين والدوليين.

***

مؤدّى ما سبق هو أنّ الموقف الأخلاقيّ الحقيقيّ من المأساة السوريّة هو الموقف الذي يدين طرفَيْ الحرب المتقاتليْن كليْهما إدانةً تامّةً لا لبْس فيها. فكلاهما أوغَل في الوحشيّة حتى غرق إلى ما فوق أذنيه في دماء الشعب السوريّ؛ وكلاهما أثبت أنّ هدفه الأوّل ليس خير سوريا بل حكمها بأيّ ثمن، وإلّا لما هرول بأقصى سرعة نحو الحرب الأهليّة من غير إقامة أيّ اعتبار لتدمير البلد وتشريد أهله.

أمّا بالنسبة إلى الداعمين الإقليميين والدوليين لطرفَي الحرب السوريّة، فإنّ الموقف الأخلاقيّ يوجب إدانتَهم جميعًا أيضًا، لا إدانة داعمي طرفٍ دون الآخر. والموقف الأخلاقيّ يوجب أيضًا الإشارةَ بشكل خصوصيّ إلى تورّط حزب الله في الحرب السوريّة دفاعًا عن النظام. فتورُّطُ الحزب في الحرب، تحت حجج مذهبيّة أوّلًا (الدفاع عن مقام السيّدة زينب، وعن القرى الشيعيّة)، ثمّ في مواجهة التكفيريّين ثانيًا، راكم عليه فاتورةً أخلاقيةً ضخمةً تجاه الشعب السوريّ. فهذا الشعب الذي وقف مع المقاومة منذ ما قبل تحرير الجنوب اللبنانيّ في العام 2000، وحتّى ما بعد حرب تمّوز في العام 2006، يستحقّ من حزب الله بأن يعمل بكلّ إمكاناته على حل سياسيّ ديمقراطيّ حقيقيّ لسوريا بالتعاون مع جميع قواها الديمقراطيّة. ذلك إنه إذا كان من حقّ حزب الله مواجهةُ الجماعات التكفيريّة المتحكّمة في مناطق واسعة من سوريا حاليًّا، وإذا سلّمنا أيضًا بحقّه في دخول الحرب السوريّة لمنع نقل سوريا بالقوّة إلى الضفة المعادية له في الصراع العربيّ ــــ الإسرائيليّ، فلا يمكن أحدًا ممّن يريدون الخيرَ لسوريا أن يعطي الحزبَ الحقَّ في أن يسهم في تأبيد الاستبداد بصيغته الحاليّة على الشعب السوريّ عبر تدخّله في هذه الحرب.

ونتمنّى أن يكون حزبُ الله على وعي تامّ بأنّ الانتصارات العسكريّة في الحرب السوريّة لا تكفي للقضاء على الجماعات التكفيريّة في سوريا والمنطقة. وإنّما القضاء، الفعليّ الطويل المدى، على هذه الجماعات يتطلّب الانخراطَ في مشروع وطنيّ ديمقراطيّ سوريّ لبنانيّ عراقيّ عربيّ علمانيّ، لم تكتمل غالبيّةُ شروطه للأسف. لكن الانخراط في مشروع كهذا هو الطريق الوحيد لخروج حزب الله من ورطته السوريّة واستعادة صورته المشرقة في عيون الرأي العامّ العربيّ، كمقاومةٍ انتصرتْ على "إسرائيل" وما زالت تقف قوّةَ ردعٍ نسبيٍّ في وجهها.

يبقى من الواجب القول إنّ الجريمة الهائلة التي ارتُكبتْ في حقّ سوريا وشعبها تتطلّب من كلّ مهتمٍّ بالشأن العامّ أنّ يتّخذ الموقفَ الأخلاقيّ الحقيقيّ تجاه هذا الشعب المنكوب، الذي تحوّل بمعظمه إلى لاجئين في أصقاع الأرض... أو إلى طعامٍ لأسماك البحر المتوسّط.

برشلونة

فرج الأعور

كاتب مستقل من لبنان، ينشر في جريدة الأخبار اللبنانيّة.