كوبا تواجه كورونا: الأممية الطبية نموذجًا
23-04-2020

 

"إنّ العملَ الموكَل اليوم إلى وزارة الصحّة والمنظّمات المماثلة هو تأمينُ الخدمات الصحّيّة العامّة لأكبر عددٍ ممكنٍ من الناس"

(إرنستو تشي غيفارا، 1960)

 

بقيت السفينةُ السياحيّة البريطانيّة م.س. برايمر أكثرَ من أسبوع عالقةً في عرض البحر بعد أن رفضتْ عدّةُ بلدانٍ، بما فيها الولاياتُ المتحدة، حليفةُ بريطانيا المفضَّلة، السماحَ لها بالرُسُوّ، نظرًا إلى وجود حالات إصابةٍ بالكورونا على متنها. لم تشذّ عن القاعدة سوى كوبا، وهي القابعةُ تحت حصارٍ اقتصاديٍّ جائر؛ فقد استقبلتْ هافانا السفينةَ وأُعيد الركّابُ إلى بلدانهم الأمّ سالمين.

حاول البعضُ أن يعزوَ تصرّفَ السلطات الكوبيّة إلى اعتماد هذه الجزيرة على السياحة مصدرًا رئيسًا للدخل - - وكأنّ الجزرَ الكاريبيّةَ الأخرى التي أقفلتْ موانئَها في وجه السفينة، مثل باربادوس أو الباهاماس، لا تهمُّها السياحةُ أو تَنْعم باقتصاديّاتٍ صناعيّةٍ لا مكانَ للسياحة فيها!

ولم يكتفِ الكوبيّون بهذه المبادرة الحسنةِ النيّة، بل قاموا بإرسال الطواقم الطبّيّة إلى أكثر من اثنيْ عشر بلدًا، بما فيها دولٌ أوروبيّةٌ كإيطاليا تتغنّى بتقدّمها العلميّ. نالت هذه البعثاتُ تغطيةً إعلاميّةً إيجابيّة، وإنْ خجولةً؛ لكنّها في الغالب، وفي أحسن الأحوال، جاءت في خانة الثناء على العمل "الإنسانيّ،" أي الخيريّ.

هذان التفسيران للتصرّف الكوبيّ، الاقتصاديّ والخيريّ، يعكسان مدى تجذّر القيم النيوليبراليّة في الثقافة المعولمة السائدة، التي لا يمكن أن ترى أيَّ دوافع غير مصلحيّة لسياسات الدول، فتقوم بـ"عقلنتها" من خلال وضعها ضمن إطار "المنفعة الاقتصاديّة" أو "القوّة الناعمة عن طريق الدبلوماسيّة الطبّيّة." وقد يكون في توصيف التصرّف الكوبيّ على هذا النحو شيءٌ من الصحّة؛ ولا ضيرَ في ذلك ما دام هذا التصرّفُ جزءًا من مقاومة بلدٍ مثل كوبا يعاني ما يعانيه من عزلٍ وإقصاءٍ وأبلسة - - على عكس دبلوماسيّة "الإغاثة" الإسرائيليّة الكاذبة، التي ترمي إلى التغطية على جرائمها في فلسطين بإلباسها ثوبًا إنسانويًّا برّاقًا.

 

جهودَ كوبا الحثيثة لتقديم الدعم الطبّيّ الخارجيّ زمن كورونا وقبله

 

لكنّ جهودَ كوبا الحثيثة لتقديم الدعم الطبّيّ الخارجيّ سبقتْ جائحةَ كورونا بعقود. وهي ليست مجموعةً من المبادرات الآنيّة، أو رهنًا بالكوارث الموسميّة، ولا يمكن حصرُها بالتفسير "الواقعيّ" السائد في العلاقات الدوليّة لمفهوم "القوّة الناعمة." إنّها جزءٌ من تاريخ طويل، يُعْرف بـ"الأمميّة الطبيّة." وهي شكلٌ من أشكال التضامن الأمميّ، لا الخيريّ، برز في كوبا مع انتصار الثورة في ستينيّات القرن الماضي، وتمأسس مع مرور الزمن وبحسب الظروف، حتى بلغ تعدادُ هذه البعثات منذ العام 1963 إلى اليوم ثلاثمئة ألف حالة، شملتْ 164 بلدًا. وفي العام الماضي وحده، بلغ عددُ الأطبّاء الكوبيين المنضوين في البعثات الطبّيّة ثلاثين ألفًا، وهم منتشرون في 67 دولةً، غالبيّتُها في إفريقيا وأميركا اللاتينيّة.

وتقترن هذه الأمميّةُ الطبّيّة بوطنيّةٍ طبيّةٍ تُعنى بصحّة الكوبيين أنفسهم، بل تساهم الأولى في دعم القطاع الطبّيّ الكوبيّ وتأمين مواردَ إضافيّةٍ كي لا يُقالَ إنّها "تدعم الخارجَ على حساب الداخل." والأرقام تشهد بذلك أيضًا: فمؤشِّراتُ الصحّة العامّة ومعدّل وفَيَات الأطفال ومتوسّط العمر المُتوقَّع في كوبا ناهزت المؤشِّرات في الدول "المتقدّمة" التي تُسوَّق دومًا على أنّها المثالُ الذي يجب أن يُحتذى.

وعليه، فإنّ النموذج الكوبيّ جديرٌ بالدراسة في ظلّ تهالُك الأنظمة الصحّيّة في العديد من البلدان، بما فيها بعضُ الدول العربيّة كلبنان، حيث تصل الكلفةُ الطبّيّةُ إلى أعلى المعدّلات العالميّة، مقابل غيابٍ شبه كاملٍ للتكافل الصحّيّ تجاه المرضى الأحوجِ إلى العلاج.

 

الأمميّة الطبيّة في مهد الثورة

عقب انتصار الثورة الكوبيّة سنة 1959، انبرت القيادةُ الجديدةُ لإصلاح النظام الصحّيّ على المستوى التعليميّ والعياديّ. فأعيد افتتاحُ كلّيّة الطبّ في هافانا، وأُقرّت مجّانيّةُ التعليم، ما سمح بدخول كادراتٍ من الريف بشكلٍ أوسع.

تمحورت القوانينُ الإصلاحيّة حول ركيزتيْن أساسيتيْن:

- الأولى، إعطاءُ الطبابة في الريف الأولويّةَ. فأُنشئتْ خدمةُ الطبّ الريفيّ بهدف تأمين الوقاية من المرض وإنعاشِ الخدمات الصحّيّة لمن هم أكثرُ احتياجًا - - كالفقراء، وذوي الحالات الصحّيّة غير المستقرّة، والقاطنين بعيدًا عن التجمّعات المدينيّة. وخلال ثلاث سنوات، تمكّنت الحكومةُ الثوريّةُ من تأسيس 122 مركزًا طبّيًّا و42 مستشفًى في الأرياف، وبات على خرّيجي الطبّ العملُ سنةً في الريف وخدمةُ المنطقة التي أتوْا منها.

- الثانية، وضعُ الصحّة في خدمة المجتمع وعدُّها جزءًا منه. هنا، جرى التركيزُ في مناهج التعليم الطبّيّة على ثقافة الوقاية بدلًا من العلاج (وهو ما يفسِّر خبرةَ كوبا في مكافحة الجوائح)، وعلى اعتبار بيئة الإنسان وظروفِه الاجتماعية جزءًا من حالته الصحّيّة.

أدّت هذه الإصلاحاتُ في بدايتها إلى هجرةٍ واسعةٍ لأعضاء الكادر الطبّيّ، إذ غادر الجزيرةَ نصفُ العدد الإجماليّ من الأطبّاء (يُقدَّر بستّة آلاف)، ولم يبقَ في كليّة الطبّ في جامعة هافانا سوى 19 أستاذًا من أصل 191. ولمعالجة هذه النقص، قامت قيادةُ الثورة بزيادة عدد كلّيّات الطبّ، وباستقدام مدرِّبين من عدّة بلدان (كالأرجنتين والمكسيك والإكوادور والاتحاد السوفياتيّ).

ولم تتوانَ كوبا الثورة آنذاك في إرسال كتائب طبّيّة (إلى جانب الدعم العسكريّ) لدعم حركات التحرّر الوطنيّ في بلدانٍ مثل الجزائر وغينيا-بيساو وأنغولا. وقد وصل ذلك الدعمُ في بعض الحالات حدودَ نقل المرضى إلى كوبا لمعالجتهم.

اللافت أنّ الأمميّة الطبّيّة تلك لم تقتصرْ على بلدانٍ تشاطر كوبا عقيدتَها الثوريّة. ففي أيّار 1960، أرسلتْ كوبا فريقًا طبّيًّا إلى تشيلي، الواقعةِ آنذاك تحت حكم الديموقراطيين المسيحيين، لدعم جهود الإغاثة إثر زلزالٍ ضربَها. وبعد عقدٍ من الزمن، قامت بمبادرةٍ مماثلةٍ في نيكاراغوا، التي كان حاكمُها آنذاك أناستازيو سوموزا ديبايلي يكُنّ العداءَ لكاسترو.

 

الأمميّة الطبيّة بعد انهيار المعسكر الشيوعيّ

استمرّت كوبا في اتباع نهج الأمميّة الطبيّة بعد انهيار الاتحاد السوفياتيّ، على الرغم من الصعوبات التي واجهتْها في ظلّ تزايد التغطرس الأميركيّ. وقد بلغ الأخيرُ حدَّ اتّباع واشنطن سياسةً ناشطةً لتسهيل انشقاق آلاف الأطبّاء عن بعثاتهم في البلدان التي يزورونها، وذلك من خلال عمل السفارات الأميركيّة في تلك البلدان. وساهم الإعلامُ الغربيُّ "الموضوعيّ" في تشويه سمعة تلك البعثات: فقامت قناة بي. بي. سي بتصوير التيّار المعارض داخل هذه البعثات بـ"العالم المستور،" ولجأتْ إلى التركيزِ على حالاتٍ فرديّةٍ ممتعضةٍ من طريقة عمل البعثات الطبّيّة - - وهذه استراتيجيّةٌ ليبراليّةٌ معهودة تقدِّم الفردَ على الجماعة.

حتى الإعلامُ الغربيّ المحسوبُ على اليسار، مثل جريدة الغارديان، اختار مقاربةَ "الرأي والرأي الآخر": فساوى بين مَن يعتبر اقتطاعَ جزءٍ كبيرٍ من أجر الأطبّاء لصالح الحكومة الكوبيّة استغلالًا (من منطلق المصلحة الفرديّة)، وبين مَن يعتبره مبرَّرًا نظرًا إلى كونه جزءًا من دعم الأمميّة الطبيّة التي تضمّنتْ مجّانيّة تعليم هؤلاء الأطبّاء أنفسِهم.

 

في العقود الثلاثة الماضية أرسلتْ كوبا بعثات طبّيّة إلى العراق وإيران وسيلفادور وكوسوفو وبوتسوانا وزامبيا

 

لم تُثنِ هذه المحاولاتُ القيادةَ الكوبيّةَ عن المضيّ قدمًا في نهج الأمميّة الطبية. ففي العقود الثلاثة الماضية عمدتْ إلى إرسال بعثات طبّيّة إلى العراق وإيران وسيلفادور وكوسوفو وبوتسوانا وزامبيا وغرب إفريقيا عمومًا أثناء جائحة الإيبولا، على سبيل المثال لا الحصر.

وفي العام 1998 حدث تحوّلٌ نوعيٌّ عندما أنشأ كاسترو "كلّيّةَ أميركا اللاتينيّة للطبّ" على أثر إعصار ميتش الذي أوقع ما يقارب ثلاثين ألف قتيل في أميركا الوسطى – وكانت كوبا قد أرسلت خلال 24 ساعة حوالى 1300 متطوّع طبّيّ حينها إلى المناطق المنكوبة. هدفت الكلّيّةُ إلى تأمين التعليم الطبّيّ المجّانيّ لآلاف الطلّاب القادمين من مختلف البلدان، على أن يعودوا ويمارسوا مهنتَهم في بلدانهم الأمّ، وعلى وجه التحديد في الأحياء الأكثر فقرًا وحاجةً. وقام رئيسُ فنزويلا السابق هوجو تشافيز بدعم هذا المشروع وجهودِ كوبا في نهج الأمميّة الطبّيّة عبر برنامج "النفط مقابل الأطبّاء" الذي أمّن النفطَ لكوبا بأسعارٍ مدعومةٍ مقابلَ عمل أطبّائها في فنزويلا وبلدانٍ أخرى (قارنوا ذلك بالبرنامج الفاسد والمُذِلّ، "النفط مقابل الغذاء،" التي اعتمدتْه الدولُ الغربيّةُ في العراق لتخفيف الحصار الذي فرضتْه بنفسها على شعبه في العقد الأخير من القرن الماضي!).

 

خلاصة

تطرح الأمميّةُ الطبّيّةُ نموذجًا مغايرًا للعمل الإغاثيّ التقليديّ الذي تُجسِّده منظّماتٌ دوليّةٌ مثل "أطبّاء بلا حدود،" والذي يكاد يحتكر اليومَ مخيّلةَ الإعلام الغربيّ ومَن يدور في فلكه من إعلامٍ عربيّ وعالميّ.

هذا لا يعني أنّ هذه الأمميّة خاليةٌ من العيوب، أو محصَّنةٌ ضدّ الانحراف نحو مساراتٍ نفعيّة، أو أنّها عصيّةٌ على الترهّل. بل الحقّ أنّها تواجه حاليًّا تحدّياتٍ صعبةً بعد أفول المدّ اليساريّ في أميركا اللاتينيّة في عهد تشافيز.

ومع ذلك، فإنّها من منظورٍ تاريخيّ تعكس مقاربةً إنسانيّةً شاملةً للحقّ في الصحّة - - مقاربةً تمكّنتْ من الصمود والنجاح طوال عقودٍ بفضل العمل المؤسّساتيّ والمنهجيّ، المعطوفِ على عقيدةٍ ثوريّةٍ ومتجدِّدة، غيرِ مرهونةٍ بظرفٍ محدّد (كجائحة)، ولا مكبّلةٍ بدوغمائيّةٍ تُبعدها عن عامّة الناس. جوهرُ هذه العقيدة عبّر عنه غيفارا في كتابه، الإنسان والاشتراكيّة في كوبا: إنّها الحبُّ المثاليُّ للناس، والتضحيةُ في سبيل الدفاع عن حقّهم في الحياة كغايةٍ في حدّ ذاتها، لا وسيلةً للربحيّة أو للإنتاج كما هي الحالُ تحت الرأسماليّة.

فهل تكون جائحةُ كورونا محفِّزًا إلى إعادة النظر بشكل جذريّ في الأنظمة الصحّيّة التي أنتجتْها السياساتُ الليبراليّة؟ أمْ أنّ الأمور ستعود إلى مجاريها بعد انحسار الطوفان؟

لندن

 

مراجع رئيسة

Robert Huish and John M. Kirk, "Cuban Medical Internationalism and the Development of the Latin American School of Medicine," Latin American Perspectives 34, no. 6 (2007): 77-92

Afra Jiwa, "The Latin American School of Medicine (Elam): Admissions, Academics and Attitudes," International Journal of Cuban Studies 9, no. 1 (2017): 142-54

Che Guevara, Man and Socialism in Cuba, Book Institute Havana, 1967

هشام صفيّ الدين

أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة بريتش كولومبيا، كندا. صدر له كتاب دولة المصارف: تاريخ لبنان الماليّ بالإنكليزيّة عن دار ستانفورد (2019) وبالعربيّة عن مركز دراسات الوحدة العربيّة (2021، ترجمة فيكتور سحاب). وحرّر وقدّم لكتاب الماركسيّة العربيّة والتحرّر الوطني: مختارات من كتابات مهدي عامل، ترجمة انجيلا جيورداني (بريل، 2020)، ونفير سورية (مع يانس هانسن، دار جامعة كاليفورنيا، 2019).