من أجل نهضةٍ لغويّةٍ عـربيّة (ملفّ)
15-01-2016

 

أخوض من جديد في موضوعٍ كتبتُ عنه مند أزيد من عقد. وكنتُ قد ذكرتُ أنّ النهوضَ بالعربيّة مشروعٌ غيرُ منتهٍ، وأثبتت الوقائعُ أنّ مسار نصرة هذه اللغة مستمرّ. سياق هذا الكلام عودةُ الحديث عن اللغة. ولكنْ، ما الجديد ؟

 

في خضمّ النقاش الذي ساد آنذاك حول الوضع اللغويّ في المغرب، برزتْ مواقفُ تراوحتْ بين الجديّة والمهادنة والتشدّد، والإلقاء بألفاظٍ مغالِطةٍ للرأي العلميّ. وفي هذا السياق، قامت مجموعة معدودة من الفاعلين بطرح أفكار متنوّعة، أبرزُها:

- العربيّة صانعة للأمن اللغويّ؛

- العربيّة متعالية عن الانتماءات الإثنوثقافيّة؛

- العربيّة لغة وطنيّة ورسميّة بمقتضى المرجع القانونيّ، والمعطى التاريخيّ والحضاريّ، والإطار الذهنيّ والرمزيّ؛

- العربيّة لغة المواطنة والحداثة بمقتضى تجرّدها عن الفئويّة الضيّقة والخصوصيّة المحلّيّة، وسماحها لكلّ المكوّنات الثقافيّة الفرعيّة بالتعبير بواسطتها؛

- العربيّة أداةُ تقريبٍ بين ثقافات البيت الثقافيّ نفسه.

وما لفتنا النظرَ إليه آنذاك هو أنّ تناول الوضع اللغويّ عند البعض لم يستندْ إلى البحث والدراسة المقارنة. وسجّلنا أنّ المواقف اختزلت التدافعَ، آنذاك، في إطار ثنائيّةٍ وهميّةٍ بين الحضارة العربيّة الإسلاميّة من جهة واللهجاتِ الأمازيغيّة من جهةٍ أخرى، وتحاول إعادةَ الأمر نفسه راهنًا بين العربية الفصيحة والعامّيّات المغربيّة.

ما أثار انتباهي، ولا يزال، أنّ هذه الآراء لا تقدّم أدلّة مقْنعة، ولا يتوفّر أصحابُها على إطار معرفيّ ، بل يسلكون مسارَ التضييق على الثقافة والحضارة العربيّة والإسلاميّة بغية الإثبات في إطار صراع الأضداد.

لذا، كان من اللازم التوقفُ من جديد عند هذه الآراء التي لا تعكس، كما قلنا، موقفًا فرديًّا، بل تنخرط في سياق حقلٍ موحَّدِ الهدف، وهو محاربةُ  اللسان العربيّ وثقافته وتراثه، قصدَ تحييد العربيّة من القيام بدورها الوظيفيّ في التنمية المعرفيّة، ومن القيام بمهامّها التواصليّة بين المواطنين.

إنّ الجديد في الطرح هذا هو الانتقال إلى نموذج مغاير للنظام المعرفيّ السابق في المقاربة اللغويّة. وقرائنُ ذلك:

1- تخطيط لوضعٍ لغويّ يَستحضر دستورَ 2011. وهو دستور:

ـ أقرّ بأنّ العربيّة تظلّ اللغة الرسميّة للدولة، وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها.

ـ عمل على دسترة الأمازيغيّة، باعتبارها لغةً رسميّةً للدولة.

ـ  أشار إلى إحداث مجلسٍ وطنيٍّ للغات والثقافة المغربيّة، مھمّتُه حماية العربيّة والأمازيغيّة وتنميتهما، وكذا الأمرُ بالنسبة إلى مختلف التعبيرات الثقافيّة المغربيّة باعتبارھا تراثًا أصيلًا وإبداعًا معاصرًا.

إذا سلّمنا بتلقين الدروس التعليميّة بالدوارج، فأيّةُ "دارجةٍ" سيتمّ اعتمادُها؟ وإلى أيّ منطقةٍ جغرافيّةٍ تنتمي؟

يضاف إلى ذلك  تقريرُ المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلميّ (2015) حول الرؤية الإستراتيجيّة للإصلاح (2015 - 2030 )، إذ وضع هندسةً لغويّة تستند إلى ثلاثة مرتكزات:

ـ تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص في تعلّم اللغات؛

ـ حضور اللغتيْن الوطنيتيْن الرسميتيْن في مستوى  مكانتهما الدستوريّة والاجتماعيّة؛

ـ إرساء تعدديّة لغويّة تدريجيّة ومتوازنة.

 

2- محاولة موقعة العامّيّة في المنظومة التربويّة

لا أحد  يجادل في أهمّيّة حماية العامّيّات بوصفها مكوِّنًا تعبيريًّا لدى فئاتٍ عريضةٍ من الساكنة، ولقيامها بوظائفَ تواصليّة. لكنّ السؤال الذي يستوجب الطرحَ هو: إذا سلّمنا بتلقين الدروس التعليميّة بالدوارج، فأيّةُ "دارجةٍ" سيتمّ اعتمادُها؟ وإلى أيّ منطقةٍ جغرافيّةٍ تنتمي؟ وإذا كان الغرض هو معْيرة دارجةٍ على غرار الأمازيغيّة، فإنّنا سنقع في وضع "متغيّرةٍ لغويّة" اصطناعيّة ستكون غريبةً عن فطريّة العامّيّات والاستعمال اليوميّ، وستدخل معها في صراع.

وإذا عدنا إلى المنظومة التربويّة، فسنجد أنّ الأبحاث الدوليّة الحديثة لا تقوّمها من زاويةٍ واحدة، بل تعتمد على نتائج مؤسّسات التعليم ووقْعِ التلقين، والموارد البشريّة والماليّة المستثمَرة في التكوين، والولوج إلى التربية والمشاركة، والمحيط البيداغوجيّ.

 

3-عودة المثقف إلى الخوض في الموضوع

يلاحظ المتتبّعُ للشأن اللغويّ عودةً متميّزةً للمثقّف والأكاديميّ في الدفاع عن العربيّة. ففي الفصل الأخير من سنة 2013، رُصدتْ هبّةٌ ثقافيّةٌ نوعيّة بعد طرح فكرة التدريس بالدارجة في التعليم. ما يمكن تسجيلُه أنّ مناصري العربيّة اعتمدوا على حججٍ تستند إلى الفكر والاستدلال المعرفيّ والعلميّ الراقي، مؤسِّسين لأنموذجٍ جديدٍ في محاولة تدشين نهضة ثقافيّة عربيّة جديدة. ويتجلّى ذلك في:

ـ الوزن المعرفيّ والأكاديميّ للمتدخّلين الذين يَنْشطون في حقول متنوّعة أمثال: عبد القادر الفاسي الفهري، عبد الله العروي، عبد الغني أبو العزم، محمد برّادة، عبد الله الحمودي، سعيد بنسعيد ، عبد الإله بلْقزيز، محمد بنّيس، عبد الصمد بلكبير، صلاح بوسريف، محمد نور الدين أفاية،....

ـ الإشكاليّة المطروحة، وهي أنّ الدفاع عن العربيّة مقرونٌ بالتحديث والديمقراطيّة والمصلحة الوطنيّة، مع استحضار الأفق المستقبليّ للتعدّد اللغويّ البنّاء المرتبط باعتماد لغات الحضارات الكبرى في عمليّة التعليم والتكوين .

ـ المعجم الموظّف الذي ينهل من القاموس المعرفيّ المعاصر، ومن حقول معرفيّة حديثة متنوّعة.

ولكنّ الجهد ما زال متفرّقًا. وهذا يدفعنا إلى التماس الحاجة إلى الالتقائيّة حول نصرة العربيّة على مستوى المساهمات والأنشطة.

الدار البيضاء.

 

 

 

محمد غنايم

باحث مغربيّ في اللسانيات، مهتمّ بالقضايا المتعلقة بالسياسة اللغوية وبالتخطيط اللساني.له مساهمات ودراسات في ما يخصّ الشأن اللغويّ والنهوض باللغة العربيّة.