دموعُ القمر
10-11-2020

 

 

لم أتجرّأْ على النظر من النافذة منذ سكنتُ غرفةَ ملجأ "بودل" في الجنوب الهولنديّ.

تُطلّ الغرفةُ على أشجارِ غابةٍ مهجورة. أحاولُ أن أخلقَ جسرَ مودّةٍ بيننا. لكنْ كلّما اقتربتُ من النافذة وجدتُ عنكبوتًا ضخمةً، أو حشرةً ملتصقةً بزجاجها، مثل التي نراها في كُتب العلوم أو على شاشة ناشيونال جيوغرافيك.

كلُّ ما يمكنني سماعُه ليلًا، خارج الفجوة الزجاجيّة، هو صوتُ الأوراق المتراكمة تزحف تحت الشجر، فتنطلق مخيّلتي في رسمِ كلِّ ما هو مرعب. كأنّ هذا المكانَ لا ينفتح إلّا على الغرابة.

الحلّ الأسلم كي أنعمَ بالنوم هو أن أغلقَ الستارةَ الرماديّةَ السميكة التي تزيد حلكةَ الداخل.

تذكّرتُ أنّني في طفولتي سألتُ والدتي: "هل ينطفئ نورُ القمر إذا أغلقتُ ستارتي؟" فأجابت أنّه لن ينطفئ ما دمنا معًا.

الليلةَ الماضية، أزحتُ الستائر، فرأيتُ القمرَ يترنّح بين أغصان شجرٍ استمالتْه نسماتٌ عليلة، فدفعتْها بنعومةٍ يمينًا ويسارًا، وبدت الطبيعةُ كأنّها تسرق لحظاتٍ تؤنس وحدتَها بعيدًا عن أعين اللاجئين.

نمّت عن شفتيَّ ابتسامةٌ، وخُيّل إليّ أنّ هذه الجوقةَ تحتفي بي، وأنّ القمر يرقص لوحدتي.

حجبتِ الغيومُ القمرَ للحظات، ليعودَ فجأةً أكثرَ اهتزازًا. وبدت أغصانُ الأشجار أيديَ ممتدّةً تُغْريني بالرقص.

إنّها فرصةٌ لسرقة قليلٍ من الفرح. حفّزتْ رؤيةُ القمر ذاكرتي، حين كنتُ أخترع القصصَ، فلتفّ فتياتُ الصفّ من حولي. كانت القصص تدور حول القمر والشمس والسماء.

***

حكاية "دموع القمر" تحكي عن فتاةٍ صغيرةٍ تخشى العتمةَ، وتتخيّل انعكاسَ الأشياء على حائط غرفتها أشباحًا ذاتَ هياكلَ ومخالبَ وأظافرَ كتلك التي تملكها الخفافيشُ. وزيادةً في التمويه أسألهنّ أن يصفن أظافرَ الخفّاش. يعمّ الصمتُ، ثمّ تحثّني الفتيات على أن أكمل الحكاية.

أقول إنّ الفتاة المسكينة لم تتجرّأ يومًا على النظر إلى القمر، الذي سمعتْ عن جماله خصوصًا عندما يصير بدرًا ويغدو كلؤلؤةٍ تزيِّن صدرَ حسناءَ أفريقيّة. ولطالما عشقتِ الفتاةُ اللآلئَ؛ ذلك لأنّ جدّتها أهدتها قرطيْن من اللؤلؤ جلبهما الصيّادون من محارةٍ في قاع محيط الظلمات. إلّا أنّ الفتاة أضاعت أحدَهما وأخفت الحقيقة. وكان هذا السرُّ يؤلمها، فقرّرتْ أن تشكو همَّها إلى القمر.

وفي أحد الأيّام أزاحت الفتاةُ الستارة، فكشف القمرُ قرطَها الضائع. قفزتْ مبتهجةً وهي تردّد: "لا، لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًّا."

جلبت القرطَ الآخر ورفعتْه بأصبعيْها الرقيقتيْن نحو السماء حتى أصبح بموازاة القمر، فبدَوا أشبهَ بقرطيْن. وأكملتْ عتمةُ الليل المشهدَ ليبدو علبةً من المخمل الأسود.

راحت الفتاةُ تقفز فرحًا، وتدور حول نفسها كالدمية الراقصة في صندوق الموسيقى.

وإذ بسحابةٍ رماديّةٍ شفّافةٍ تغطّي القمر، فينقلب وجهُه من ضاحكٍ إلى باكٍ.

قالت الفتاة: "أيّها القمر، أنا مدينةٌ لك؛ فكيف أخلِّصُكَ من هذه التعاسة؟"

لم يجب القمر. فجلبتْ كوبًا ووضعتْه قرب نافذتها ليسكبَ دموعَه، إنْ شعر برغبةٍ في البكاء.

عند الصباح وجدتِ الكوبَ نصفَ ممتلئ، فشربتْه.

أحسّت بحزنٍ عميقٍ يسري في عروقها. وعندما حلَّ الليل، أزاحت الستارةَ، فبدا القمرُ أكثرَ لمعانًا.

استمرّت الفتاة على هذا المنوال حتى كبرتْ وأُتخِمتْ بأحزانِ القمر، ولم تعد ترى شيئًا سوى انهمار دموعها من دون توقّف.

لم يحتمل والداها رؤيتها على هذا النحو، فقرّرا إرسالها إلى أوروبا، لعلّها تشعر بالسعادة؛ فلقد سمعوا أنّ القمرَِ هناك أكثرُ بهجةً، وأنّ ثمّة رحلاتٍ تنظَّم إليه للاستجمام.

عندما وصلت الفتاةُ إلى أوروبا استأجرتْ غرفةً تُطلُّ على مرج. في يومها الأوّل، فتحتْ ستائرَ غرفتها، فبدا القمرُ باسمًا. ضحكاتُ الناس وأغانيهم وقبلاتُهم تحت ضوئه زادته جمالًا.

قرّرت الفتاةُ أن تتخلّصَ من حزنها، فجمعت دموعَها في الكوب ووضعتْه ليلًا على حافّة النافذة لتسقي القمر.

لم تمض فترةٌ طويلةٌ حتى انتفخ القمرُ كالإسفنجة. ومن ثقله كاد يهوي على الأرض ويسحقها. ولتفادي كارثة، بُنيتْ دعامةٌ متينةٌ وطويلةٌ لتلامس سطحَه، وبُنيتْ غرفٌ نوافذُها تُطلّ عليه.

قرّرت الفتاة السكنَ في آخر غرفة. وكان عليها تسلّقُ السلالم.

بعد سنين عديدة بلغت الفتاةُ غرفتَها بعد أن أصبحتْ عجوزًا. فتحت النافذة، ووضعت قرطَها اللؤلؤيّ بجانب القمر.

ومن يومها يظنّ الناسُ أنّ كوكبًا جديدًا على شكل لؤلؤةٍ يظهر مرّةً في الشهر.

***

نَظرتُ إلى القمر الذي مازال يرقص. لا دموعٌ ولا أكوابٌ فارغة ولا أقراط. اتّكأتُ على حافّة النافذة. كان ذلك أوّلَ يومٍ أنام فيه مرتاحةً.

في الصباح أفقتُ على ضحكة ابنتي وهي تهزّني:

- ماما أصحي! نمتِ واقفة؟ كيف ذلك؟!

- يا حبيبتي الأشجار تنام واقفة، وكذلك القمر.

هولندا

رندة عوض

كاتبة فلسطينيّة تعيش في السعودّية. لها العديد من القصص المنشورة في مجلّات عربيّة.