عن الحكيم، منهجًا وممارسة (ملفّ)
27-01-2017

 

(حصيلة حوار مع خالد بركات)

 

الحديث عن الحكيم لا يستقيم بمعزلٍ عن تناول النكبة؛ فلقد شاهد بأمّ عينه محنةَ وطنٍ يُغتصب ويُسلَب ويُشرَّد بتواطؤٍ عربيّ وتآمر دوليّ. وهذا ما دفعه إلى التفكير في كيفيّة الردّ على النكبة ومخرجاتها.

تجلّى نضال "حركة القوميين العرب" في أردن الخمسينيّات في محاربة مشاريع التوطين، وبشكلٍ خاصّ ما عُرف بمشروع "جونستون،" وفي التمسّك بالحقّ التاريخيّ في فلسطين؛ هذا من دون أن نغفل الدورَ الفاعلَ للحركة (وللقوى الوطنية الأردنيّة) ضدّ محاولات إدخال الأردن في الأحلاف (حلف بغداد مثلًا). وكان لـ"الحركة" دورٌ فاعل في رفض الانقلاب الملكيّ الذي أطاح حكومةَ سليمان النابلسي الوطنيّة سنة 1957، ونتج من مقاومتها الصلبة للحقبة العرفيّة كسبَها احترامَ قطاعاتٍ واسعةٍ من الجماهير.

نجح الحكيم ورفاقُه في نقل الجماهير الفلسطينيّة من حالة النكبة والضياع إلى حالة الثورة والتمرّد، ونجحوا في تحويل اللاجئين إلى ثوّارٍ شركاءَ في بناء الثورة. وكان حبش مشدودًا إلى الجانب العمليّ: إلى المواجهة المباشرة مع مسبِّبي النكبة من إمبرياليّين وصهاينة ورجعيّين عرب؛ وهو ما انعكس على "الحركة" ــــ في بداية نشاطها ــــ لجهة عدم إيلاء الجانب الفكريّ الجهدَ الكافي والضروريّ ليتواءم مع الجانب العمليّ.

***

اليوم، نواجه تحدّياتٍ خطيرةً ترتبط بالواقع الفلسطينيّ الذي يعيش أسيرًا لاتّفاقيّة أوسلو، ولهيمنة "ثقافة التفاوض" التي قادت إلى تآكل المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ وإلى تهويد الأرض بفعل تنامي الاستيطان. ومن التحدّيات تراجُعُ مكانة القضيّة الفلسطينيّة لدى الجماهير العربيّة بفعلِ ما تواجهه الأقطارُ العربيّةُ من حروبٍ وفتنٍ واقتتالٍ داخليّ؛ وذلك ناتجٌ من المخطّطات الاستعماريّة الصهيونيّة الرامية إلى طمس الهويّة العربيّة، وتقسيمِ الأقطار إلى دويْلات على أساسٍ طائفيّ ومذهبيّ، بقصد الهيمنة على الوطن العربيّ والتحكّمِ بخيراته وثرواتِه وتوفيرِ المبرّر لإعلان "إسرائيل" دولةً يهوديّة.

الحكيم، كما نعرفه، كان يؤمن بقدرة الجماهير على التغيير إيمانًا لا حدودَ له. وضمن هذا الإيمان أعتقدُ أنّه لو كان بيننا فسينتابُه شعورٌ غامرٌ بالفرح وهو يرى الحَراك العربيَّ بهذه القوّةِ وذلك الاتّساع؛ ولكنّه كان سيعيد حساباتِه في اللحظة التي بدأتْ فيها القوى المعاديةُ في احتواء هذا الحراك واختطافِه بعيدًا عن أهدافه الوطنيّة والتقدميّة. كان الحكيم سيرى هذا "الربيع" وقد تحوّل إلى عاصفةٍ هوجاءَ تدمِّر كلَّ ما تواجهه، وتزرع الفتنةَ والإرهابَ حيثما حلّت في أوطاننا العربيّة، مستهدفةً روحَ المقاومة وثقافتَها.

***

الحكيم كان يعتقد بوجوب الربط بين أخلاقيّة الوسائل وأخلاقيّة الأهداف؛ أي إنّه لم يكن ميكافيليًّا، بل على الضدّ من ذلك. وكان يعتقد ــــ شأن كلّ الثوّار الحقيقيين ــــ أنّ التخلّص من الظلم والاستغلال هو أعظمُ قيمةٍ أخلاقيّة. وكان يحرص على الاهتمام بمجموع الرفاق، ويحاول تكريسَ مفهوم "الإيثار" لديهم.

كان الحكيم يؤمن بأنّ النظريّة لا قيمة لها من دون ممارسة. وهذه القناعة جعلته شديدَ الاقتراب من اللاجئين من أبناء الشعب الفلسطينيّ. وبالمناسبة، كان الحكيم، بمقدار صلابته وإرادته، ضعيفًا، تُبْكيه دمعةُ ابن الشهيد. كان من أولئك الثوّار الذين أخذوا الثورةَ على المحمل الأخلاقيّ والإنسانيّ، ولم يفصلوا بين الحيّز الخاصّ والحيّز العامّ.

الحكيم صنع "مدرسةً" اتّسمتْ بالوفاء والإخلاص للوطن والأمّة. كان صادقًا شفّافًا، وكلُّ مَن تعامل معه لا بدّ من أن ينقل حكايةً تعكس مناقبَه، ومدى ما يمثّله من مبدئيّةٍ عالية وحسٍّ إنسانيّ رفيع. السياسة بالنسبة إليه كانت تضحيةً من أجل سعادة شعبه وأهله وتحرير وطنه، ولم تكن لأهداف ذاتيّة أو نفعيّة.

***

المحطّات التي عاشها الحكيم، منذ "كتائب الفداء العربيّ" و"حركة القوميين العرب" و"الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين،" لم تكن مقطوعةً بعضها عن بعض. فالحكيم أدرك مبكّرًا أنّ النضال من أجل فلسطين يجب وضعُه في إطاره القوميّ، وأنّ نضالَه من أجل الوحدة العربيّة يتطلّب أن يكون يساريًّا وتقدميًّا. وقد فرض ذلك عليه أن يكون صاحبَ مشروعٍ، انحازَ من أجل تحقيقه إلى الجماهير العربيّة، وإلى روّاد النضال القوميّ في تلك المرحلة، وفي المقدّمة: النظامُ المصريّ بقيادة جمال عبد الناصر.

وبرغم تلك الرؤية ودقّتها ووضوحها، فقد جانَبَ الجبهةَ الشعبيّة الصوابُ عندما قبلت الشعارَ المرحليّ. إضافةً إلى أنّ ما طُرح سابقًا (مشروع النقاط العشر) (1) شكّل غطاءً لليمين الفلسطينيّ للسير قدمًا في سياسته، وفي تنازلاته، وصولًا إلى اتّفاق أوسلو. الأخطر من كلّ ذلك أنّ اليمين الفلسطينيّ برّر استمرارَه في التفاوض "بتحقيق شعار الدولة والحلّ المرحليّ"! أيًا كان الأمر، فإنّ تلك التجربة لا يتحمّلها الحكيمُ منفردًا، بل الجبهةُ الشعبيّة عمومًا.

***

تسع سنوات على رحيل الحكيم وجذوةُ المنطلقات الوطنيّة والقوميّة التقدّميّة ما تزال قائمة. بل إنّ استهداف الهويّة العربيّة وروحِ المقاومة يدلِّل على صوابيّةِ ما تمسّك به.

منذ مدّة، والقوى الإمبرياليّة منهمكة في تسويق مقولة "إنّ إيران تشكّل خطرًا داهمًا على العرب أكثر من إسرائيل." وفي سياق تكريس هذه المقولة، شجّعت الدولَ العربيّةَ على القيام، سرًّا وعلانيةً، بالتحالف مع الكيان الصهيونيّ لمواجهة "الخطر الإيرانيّ،" مثيرةً النعراتِ المذهبيّةَ والطائفيّةَ والاقتتالَ الداخليّ. وأعتقد أنّ موقف الجبهة الشعبيّة الرافض لما تتعرّض له سوريا، ودعمَها لكلّ القوى الرافضة للمشروع الأمريكيّ ــــ الصهيونيّ، هو التجسيدُ العمليّ لرؤية الحكيم القوميّة والتقدّميّة.

***

إنّ نجاح الشباب المناضل في حمل لواء الثورة يتطلّب منهم الإطلالةَ الدقيقةَ على تاريخ الثورة المعاصرة ورموزِها، وفي مقدّمتهم الحكيم، لكونه مدرسةً نضاليّةً وأخلاقيّةً وفكريّة. فالحاضر ليس إلّا امتدادًا للماضي، والمستقبلُ هو ما نصنعه الآن.

على الشباب أن يطّلعَ على رؤية الحكيم إلى الكيان الصهيونيّ؛ فالحكيم كان يرى أنّه مشروعٌ استعماريّ عنصريّ، على غرارِ ما حدث في أمريكا الشماليّة وأستراليا، حيث تمّت إبادةُ السكّان الأصليين. وهذه الرؤية تكتسب أهميّتها من أنّها تردّ على الذين يراهنون على إمكانيّة صناعة "سلام" مع هذا العدوّ؛ فهذا العدو الاستعماريّ لا يتعامل معنا إلّا بالإلغاء الجسدّي أو فرضِ الاستسلام علينا. وهذا ما يجعل من المقاومة الشرطَ الضروريَّ للوصول إلى الحرّيّة والتحرير.

عمّان

  1. http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/0732be25-a873-4f50-a68d-4060...
سعيد ذياب

الأمين العامّ لحزب الوحدة الشعبيّة الديمقراطيّ الأردنيّ.