عالمٌ للامتثال يا بنيّتي!
26-07-2018

 

 

كلُّ ما كنتُ أسعى إليه هو تأمينُ بدايةٍ مثاليّةٍ لكِ.

أعلمُ أنْ لا شيء مثاليًّا في هذا العالم، ولكنّني كنتُ أظنّ أنّ ما يبدأ مثاليًّا سوف يبقى أقربَ إلى الكمال من غيره.

لكنّني أعلنُ الآن عجزي عن ذلك، يا ابنتي.

نعم، هُزمتُ في أولى معاركي من أجلكِ.

وما يفاقم هزيمتي هو الكتبُ التي تتحدّث عن أنماط الحياة "المثاليّة" التي عليّ اتّباعُها مع الطفل منذ تشكّل نطفته الأولى.
لم يقل لي أحدٌ في هذه الكتب كيف سأحميكِ من جراثيم العالم، والجراثيمُ تحيط بي في العمل، وفي الطريق، وفي هوائنا الذي نتنفّسه!
ومن أين سآتيكِ بهرمون السعادة، والعالمُ الخارجيُّ لا يتقن سوى البغض والكسر؟

وكيف سأحميكِ من صاروخٍ حديثِ الصنع، أو من رصاصةِ أحد المبتهجين بنجاح قريبه؟

وكيف سأملك القدرةَ على إدخالكِ المستشفى إذا اجتاحنا المرضُ يومًا؟

وبمَ أجيبكِ إنْ فكّرتِ يومًا في اختصاصٍ جامعيّ لا توفّره إلّا جامعاتٌ لا تناسب مداخيلَنا؟!
ثم إنّني أعلمُ أنّكِ ستخوضين معاركَ فكريّةً وعقائديّةً خاضها أهلُكِ من قبل. فهل سأهيّئكِ لها، أمْ أدعكِ تختارين ما شئتِ؟

كلُّ ما أستطيع أن أقوله لكِ: إنِ اخترتِ الحجابَ يومًا، فلا تخضعي لشخصٍ متزمّتٍ يعطي نفسَه حقَّ التدخّل في خياراتك.

وإن اخترتِ مهنةً ولم تحالفْك "الواسطةُ" في بلوغها، فلا تكفّي عن المحاولة.

***

أدخلُ في الفصل الأخير من الحمْل. تكبر طفلتي وتكبر هواجسي.  سبعة وعشرون عامًا من حياتي مضت لم أستطع خلالها أن أغيّر شيئًا في هذا العالم المؤذي قبل مجيئك. سبعة وعشرون عامًا وأنا أحاول أن أمتلك أجوبةً أعلِّل لكِ بها وحشيّةَ هذا العالم وتراجُعَ إنسانيّته.

ماذا فعلتُ لمنع الخراب؟ انطفأتُ عن محاولة البحث عن حلول، وانتهيتُ بحثًا عن أعذارٍ لتقصيري.

سأخبركِ بأنني حاولتُ. ربما ليس بالجهد الكافي، أو بالنفوذ اللازم، لكنني حاولت. وأعترفُ بأنّ فكرة الإنجاب أمام وحشيّة الحياة جريمة؛ جريمةٌ ارتُكبتْ في محاولة خلق فرصة إصلاح جديدة.

قد أكون إنسانًا صالحًا أتى إلى هذه الدنيا لترميم ما دمّره أسلافُه. وقد أكون، من دون علمي، إنسانًا لا يجيد سوى زيادةِ ما خرّبه الآخرون. و لا أعرف إنْ كنتِ سترِثين ما ورثتُه أنا من تلك الشاعرة السوريّة التي قالت يومًا: "أحبُّها تلك البلادَ حتى خرابها الأخير!"(1)

لكنني سأسعى، على الأقلّ، إلى أن يصبح الحبّ متوارثًا. أما الآن، فلا أدري ما العمل. حزني يختلط بفرحي. أأعلنُ استسلامي؟

ربّما سأساعدكِ على التأقلم مع هذا العالم... بدلًا من تجاوزه.

صور 

 

(1) قصيدة للشاعرة السوريّة وداد نبي.

 

زهراء نصر الله

كاتبة من لبنان. حائزة شهادةَ ماجستير في العلوم التمريضيّة. صدرت لها رواية قنديل محجوب (2017).