أبى لبنانُ إلّا أن يودِّعَ مئويّةَ ولادته (في أيلول المقبل) برائحةِ النهايات، بعدما طاف مرفأُ العاصمة بالدم والشهادة والجروح والكارثة الهائلةِ التي جمعت الركامَ فوق الركام، والأشلاءَ فوق الأشلاء. وجاءت "وجبةُ الموت" المرعبة في أحلكِ الأوقات: في وقتٍ حوصر فيه اللبنانيون بالذلِّ والقهرِ ولقمةِ العيش، وببطالةٍ قياسيّة، وغلاءٍ استثنائيّ، وانقطاعٍ في الماء والكهرباء، وبعدما أَطبقتْ على جنى العمر مصارفُ كانت تتغنّى - كذبًا - بأنّها سرُّ رخاء البلد وازدهاره، قبل أن يتبيّن أنّها شريكةٌ كاملةُ الأوصاف للطبقة الحاكمة، ربيبةِ الحرب وأوساخِها. وكانت "الوجبةُ" كفيلةً بإيصال غضبِ اللبنانيين وحزنِهم ويأسِهم إلى الذروة.
حلّت الكارثة، وطحنتْ معها آخرَ الآمال والأحلام. لكنّ أبالسةَ السياسة، الذين تناوبوا على التحكّمِ بالبلد واستباحتِه، يرفضون أن تهتزّ كراسيهم، على الرغم من العصف النوويّ للانفجار. وهم لا ينفكّون عن محاولة إبقاء حلقة النظام الطائفيّ عصيّةً على الكسر، مع أنّ ارتكاباتِهم حطّمت البشرَ والحجر.
الحكم في لبنان ليس للحكومة. الحكومة أداةٌ في يد الحكّام الفعليّين، دهاقنة النظام الذين يبحثون عن كبش فداءٍ يُلْبِسونه الجريمةَ التي صنعتها أيديهم طوال 40 سنةً. ولأنّ الحدث مُفجع، فقد كان لا بدّ من كبشٍ "مُدْهن" وسمين؛ ولم يجد هؤلاء سوى حكومة حسّان دياب لتقديمها على هذا المذبح. وهذه الحكومة هي حكومةُ المستشارين واللاقرار، المحمَّلةُ بكلّ أثقال الدنيا. إلّا أنّها ليست الجاني!
الجاني الحقيقيّ هو هذا النظام، بكلّ وجوهِه وأسمائه وشخوصِه. هو أخطبوطُ الفساد الذي وَجد في حكمهم وتسلّطهم مرتعًا وغذاءً له. الجاني الحقيقيّ هو حماةُ صيغة المحاصصة الطائفيّة، التي ابتلعتْ مواردَ البلد وخيراتِه، وجعلتْه بازارًا في سوق النخاسة العقاريّة.
الجاني الحقيقيّ هو هذا النظام، بكلّ وجوهِه وأسمائه وشخوصِه
حكومةُ دياب غرقتْ سفينتُها بسرعةٍ فائقةٍ في البحر، قبالةَ مرفأ بيروت، بعدما تفجّرتْ فيها كلُّ قنابل النظام الموقوتة منذ أربعين سنة. فماذا يخبّئ لنا الغدُ بعد الانفجار؟
لبنان بعد 4 آب، يومَ الانفجار، ليس كما لبنان من بعده. وما كان يجوزُ في السابق، لم يعد مسموحًا به مستقبلًا. لا بدّ من تغيير القواعد والأولويّات والحسابات. وهذا ينطبق على كلّ القوى السياسيّة اللبنانيّة، بما فيها تلك التي ترفع شعارَ التغيير.
***
بعد انتفاضة 17 تشرين، لاح لنا أنّ بارقةَ الأمل صارت على الأبواب. قلنا إنّ لبنان سيقوم من تحت الردم، وإنّ التغيير آتٍ لا محال، وإنّ قيامَ الدولة المدنيّة اللاطائفيّة بات مسألةَ وقتٍ لا غير. لكنْ سرعان ما ظهر أنّ الطريق طويلٌ وصعبٌ وشاقّ. صحيح أنّ بنْية البلد صارت خرْقةً مهلهَلةً، أخلاقيًّا وسياسيًّا وإنسانيًّا واقتصاديًّا، غير أنّها محروسةٌ بقوًى استقوت بجماهيرها، التي أدمنتْ أفيونَ التعصّب الطائفيّ والمذهبيّ.
وفي المقابل، فإنّ دعاةَ التغيير كثر، لكنّهم مشتَّتون فِرقًا ومجموعات. عجزوا عن الاتفاق على برنامجٍ موحَّد؛ برنامجِ الحدّ الأدنى من الأهداف. والبديل المفترَض لم يجد بعدُ طريقَه إلى قلْب الأوضاع، ولا إلى مجرّد التحوّل إلى لاعبٍ يُحْسَبُ له حسابٌ في التوازنات السياسيّة الداخليّة.
قلبُ الميزان الداخليّ صعبٌ في ظلّ التعقيد. وهو صعبٌ، تحديدًا، في وجود ذلك الخيط الرفيع: بين النضال السلميّ من أجل إحداث ذلك القلب من جهة، والسقوطِ في فخّ الحرب الأهليّة التي لا يزال طعمُها البشعُ تحت أضراس اللبنانيّين من جهةٍ أخرى.
إذًا، هل تُخْلى الساحةُ للطاقم القديم الذي أوصل البلادَ والعبادَ إلى الفاجعة؟
هذا ما يأمله أمراءُ الطوائف والمتفجِّرات. فهؤلاء الذين أتوْا من الكوارث، وعليها يقتاتون، يأملون أن تكون كارثةُ المرفأ فرصةً لالتقاط الأنفاس. فقد اعتبروا أنّ هذه الكارثة سانحةٌ لاختراق الحصار الدوليّ على لبنان، وطمعوا في أن تكون المساعداتُ والهِباتُ التي انهالت على بلدهم الآن وسيلةً لاسترزاقٍ جديدٍ، ومادّةً لإعادة شراء الذمم. لكنّها طبقةٌ أعياها الوهنُ، وأصابها التشرذمُ، ولم يعد يُفترَض أن تعودَ محلَّ ثقةِ مَنِ اختارها وجدّد لها مرارًا وتكرارًا في صناديقِ اقتراعٍ مفصَّلةٍ على القياس. ولم تعد محلَّ ثقةِ الخارج، الذي دعمها وغضّ الطرفَ عن ارتكاباتها.
سرُّ قوّة هذه الطبقة هو في هزال خصمِها، حاملِ شعار "التغيير،" وفي فوضويّته، وتشرذِمه.
هذه الطبقة ضعيفةٌ لكنّها شرسة، ومعارضوها لم يُحْسنوا إظهارَ أنيابهم في لحظةِ الضرورة. مأزومةٌ، لكنّ حالَ قوى الحَراك ليست أفضل. كهلةٌ تعاني التخبّطَ والانقسامَ، لكنّها تتناسى خلافاتِها وتتكاتف عندما يلوح الخطر. وفي مواجهتها قوًى مجتمعيّةٌ شابّة، تمْلك كلَّ طاقات الحركة، لكنّها تعاني الصبيانيّةَ والغرورَ، ولا تطيق الصبرَ ولا العملَ المشترك.
ما كان يجوز في 17 تشرين لم يعد يجوز الآن! كانت الانتفاضةُ وليدًا خرج إلى الحياة لتوّه. لو أَعلنتْ إطارًا تنظيميًّا حينها، لكان تفكّكَ عند أوّل منعطف. لو شكّلتْ قيادةً مركزيّةً وقتها، لكانت انشقّتْ بعضُها عن بعضٍ ألفَ انشقاق، ولخرج من متنها ألفُ حركةٍ "تصحيحيّة."
صار واجبًا أن تتحوّل حركةُ الرفض إلى حركة فرضٍ قادرةٍ على تطبيق ما تريده
لكنّ الأمور تبدّلت الآن! كانت حركةَ اعتراضٍ شعبيّةً، وصار لزامًا عليها اليومَ أن تكون حركةً سياسيّةً وازنةً لإنقاذ بلدٍ ينهارُ وشعبٍ يُحتضر. كانت حركةً مطلبيّةً تَرفع مطالبَ وشعارتٍ تطْلب من السلطة أن تنفِّذَها، وصار من واجبها أن تحدِّد أهدافًا ومهمّاتٍ وطنيّةً واضحةً وملحّةً تقع على عاتقها مسؤوليّةُ تنفيذها. كانت حركةَ رفضٍ تقول ما لا تريده، فصار واجبًا عليها أن تكون حركةَ فرضٍ قادرةً على تطبيق ما تريده. وهذا الفرض يتمّ في إطارٍ منظّمٍ لا يكون قادرًا على التشبيك بين المجموعات على امتداد المناطق والقطاعاتِ والمِهنِ والنُّطق باسمها بلسانٍ واحدٍ ومنصَّات موحَّدة، فحسب، بل يكون قادرًا أيضًا على فرض مسارٍ سياسيّ واقتصاديّ ورؤيويّ لحاضر البلد ومستقبله، وقادرًا في الوقت نفسه على تناول تفاصيل القضايا المطروحة الملحّة، لا الاكتفاء بطرح الشعارات الفارغة من أيّ مضمون وبتقديم البرامج العصيّة على التطبيق العمليّ.
يجب الكفُّ عن الحركات البهلوانيّة والصبيانيّة والاستعراضيّة، وتغييرُ التكتيكات النضاليّة التي باتت مكشوفةً لأمن السلطة الرسميّة، وابتكارُ أشكالٍ جديدةٍ للنضال تعتمد المفاجآتِ والضرباتِ الخاطفةَ التي تزعج النظامَ ولا تزعج الناسَ. ويجب العملُ على جذب عناصر المؤسّسات الأمنيّة إلى جانب الانتفاضة، باعتبارهم أبرزَ المتضرِّرين من السياسات الحاليّة. أو يجب تجنّبُ المواجهات مع القوى الأمنيّة قدرَ المستطاع، والتركيزُ على تفكيك منظومة الفساد ومحاسبتِها على الجرائم التي ارتكبتْها، وآخرُها كارثةُ المرفأ، والإصرارُ على كشف الحقيقة ومحاسبةِ الجُناة الفعليّين والأصليّين (لا مَن يمثِّلهم!) وصولًا إلى إقرار العدالة.
وهنا حسنُ اختيار المطالب ودقّتُها. مثلًا: الأفضل المطالبةُ بتحرير القضاء من السلطة السياسيّة، والحضُّ على ثورةٍ قضائيّةٍ من داخل الجسم القضائيّ لحمايته وتعزيز استقلاليّته ودورِه في بناء الدولة نفسها، بدلًا من المطالبة بتحقيقٍ دوليّ في الجرائم المرتكبة - - وهو تحقيقٌ يستفزّ مشاعرَ الكثير من اللبنانيين. والأمر نفسه في ما يتعلّق بالانتخابات: إذ تجب المطالبةُ بإقرار قانون عصريّ وحديثٍ يتيح أفضلَ تمثيل شعبيّ، بدلًا من الانجرار إلى الدعوة إلى "انتخاباتٍ نيابيّةٍ مبكّرة" خبيثة الاهداف. كما ينبغي عدمُ المراهنة على الخارج لحلّ المعضلة اللبنانيّة، وإنّما التركيزُ دائمًا على الحلّ الداخليّ.
وأخيرًا لا آخرًأ، ينبغي عدمُ الاكتفاء بمطلب "إسقاط السلطة التنفيذيّة،" بل العملُ أيضًا على إنتاج قياداتٍ بديلةٍ على كافّة المستويات والقطاعات، تستمدّ مشروعيّتَها من الناس ... وصولًا إلى تغيير بنية النظام الطائفيّ، ولّادةِ المصائب، وإنشاءِ مؤسّساتٍ بديلةٍ أو موازية.
بيروت