اكتَمل نِصابُ "صفقة القرن" بشبه انهيارٍ عربيّ، وبواقع إقليميّ مأزومٍ ومحاصَرٍ بالعقوبات وبالتهافتِ الوقح على التطبيع السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ مع العدوّ.
لكنّ فلسطينَ وحدها مَن سيتلقّى "الصفقةَ" صفعةً.
فالصفقةُ تُسقطُ حلمَ أهلها بدولةٍ مستقلّةٍ عاصمتُها القدس، وتُسقط حقَّ العودة عن لاجيئهم، وتَقْضم ثلاثين في المئة من مساحة الضفّة، وتُثبّت إسرائيليّةَ المستوطناتِ الكبرى التي تُقطِّع أوصالَ طولكرم وجنين ونابلس ورام الله. إنّها صفقةٌ تنتج بانتوستانًا يُسمّى "دولةً" - - من دون معابرَ حدوديّةٍ مع الجوار، ومنزوعةَ الجيش والسلاحِ والمواردِ الاقتصاديّة والمياهِ والأرضِ الزراعيّة.
الأرجح أنّ نتنياهو، الذي وَصف الخطّةَ بأنّها "انتصارٌ لإسرائيل،" يتوق إلى أكثر بكثيرٍ ممّا عرضتْهُ خطّةُ ترامب. فهو يريدها قاعدةً للقفز منها إلى ما هو أخطر: إنّه يتطلّع إلى الضفّة برمّتها، خاليةً من الفلسطينيين، لتكون جزءًا من كيانه الصهيونيّ؛ وهو يبحث عن وطنٍ بديلٍ لهؤلاء الفلسطينيين في غزّة أو الأردن أو العراق.
لكنَ عزّةَ أهلِ غزّة، ونبضَ شبابِ الضّفة، الذين تغلّبوا في السابق على كلّ الصفْقات، وحالوا دون سقوطِ فلسطينِهم، ودون قتلها في مؤامرات كمب ديفيد وأوسلو وشرم الشيخ، سيحاولون مرّةً أخرى دون أنْ تضلَّ فلسطينُهم هذه طريقَها.
صحيح أنّ ميزانَ الصراع مع "إسرائيل" مختلٌّ بالكامل، منذ أنْ جعلتْ واشنطن أمنَ ربيبتها فوق أيّ اعتبارٍ آخر؛ وبعد أن حلّ الخرابُ في كلّ الإقليم بفعل الحروب الأهليّة والفوضى والحصار؛ وبعد أن صارت مصرُ (الدولةُ العربيّةُ الكبرى) هرمًا مقلوبًا، رأسُه في التراب وقاعدتُه معلّقةٌ في الهواء؛ وصار العراقُ وسوريا نهرًا للدماء.
ميزان الصراع مع "إسرائيل" مختلٌّ بالكامل، لكنْ...
لكنّ العملَ على تعديل الميزان ليس مستحيلًا. وذلك يبدأ بالبيت الفلسطينيّ الداخليّ، الذي أنهكه التآكلُ والاهتراءُ والشيخوخة، وأعياه الانقسامُ بين سلطتين:
- سلطةٍ في الضفّة ترفض خيارَ المقاومة، لكنّها لا تمتلك أيًّا من موارد القوّة من أجل مفاوضة عدوٍّ لا يُحْسن إلّا استخدامَ القّوة؛ سلطةٍ لا تملكُ بديلًا من التفاوض إلّا التفاوضَ مجدّدًا، وإلّا المزيدَ من "التنسيق الأمنيّ" والمخابراتيّ مع المحتلِّ، وتفتقر في الوقت نفسه إلى الشرعيّة الثوريّة والشرعيّةِ التمثيليّة والتأييدِ الشعبيّ.
- وسلطةٍ في غزّة تتحدّث عن خيار المقاومة، ولكنّها تبحث في الوقت نفسه عن فرصةٍ لمهادنة "إسرائيل،" وتتورّط في بعض الأزمات الداخليّة العربيّة، بدلًا من إيجاد الحلول للأزمات الخانقة التي سبّبها الحصارُ الإسرائيليُّ - المصريُّ للقطاع.
أمّا فلسطينيّو الداخل (في فلسطين المحتلّة عام 48)، وفلسطينيّو الشتات، فصاروا خارج حساب السلطتيْن كلتيْهما.
وهكذا فإنّ الخطوةَ الأولى في مواجهة التحدّيات المُشار إليها تتطلّب إرادةً فلسطينيّةً سياسيّةً صادقة، تتخطّى الحساسيّاتِ والحساباتِ الفصائليّةَ الضيّقة. ويبقى عقدُ المصالحة الفلسطينيّة الحقيقيّة الرهانَ الأكبرَ لمواجهة التحدّيات التي تعصف بالمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ. هذه المصالحة باتت، منذ زمن طويل، مطلبًا جوهريًّا للشعب الفلسطينيّ، ولقواه الحيّة في الداخل الفلسطينيّ وفي الشتات، بغية حماية المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وتحقيقِ الأهداف الأسمى - - وفي مقدّمها حقُّ عودة اللاجئين، وإقامةُ الدولة الفلسطينيّة وعاصمتُها القدس.
باختصار شديد، تُعتبر خطوةُ المصالحة مهمّةً جدًّا لإنهاء حالةٍ من الانقسام أضعفتِ الجسمَ السياسيَّ للمجتمع الفلسطينيّ، ولم يستفِدْ منها سوى الاحتلال. وهذه الخطوة تتطلّب إجراءاتٍ، أهمُّها عقدُ مؤتمر وطنيّ جديد في الخارج، يشارك فيه الكلُّ الفلسطينيّ، وجميعُ الفصائل من دون استثناء، وأبرزُ الشخصيّات الفلسطينيّة المستقلّة في الداخل والخارج. ومن خلال هذا المؤتمر تُتّخذ قراراتٌ تاريخيّةٌ تتمثّل في الآتي:
- إعلانُ انتهاء مرحلة أوسلو، ووقف التعامل بجميع الاتفاقيّات والالتزامات الأمنيّة والاقتصاديّة - - وفي مقدّمتها "التنسيقُ الأمنيّ" و"بروتوكولُ باريس الاقتصاديّ" - - وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل."
- إعلانُ دولة فلسطينيّة وعاصمتُها القدس الشريف، وتوسيعُ الحملة العالميّة لكسب المزيد من الاعترافات الدوليّة في برلمانات العالم بهذه الدولة.
- إعلانُ الدولة الفلسطينيّة أنّها تحت الاحتلال، وأنّ على الاحتلال تحمُّلَ مسؤوليّاته وتبعاتِ احتلاله.
- إعلانُ هذه الدولة مواجهةَ الاحتلال بكلّ الوسائل المتاحة.
- إجراءُ انتخاباتٍ جديدةٍ تكون بمشاركة جميع فئات الشعب الفلسطينيّ في الداخل والخارج.
- انتخابُ لجنةٍ قياديّةٍ عامّةٍ جديدة، ومجلسٍ مركزيٍّ جديد، ومجلسٍ وطنيٍّ جديد يكون برلمانَ الدولة - - على أنْ يكون لعنصرَي الشباب والنساء وجودٌ فاعلٌ فيها جميعِها.
- محاسبةُ المسؤولين السابقين عمّا آلت إليه أوضاعُ الفلسطينيين في الداخل والخارج، ولا سيّما المتورّطين في الفساد والعمالة، من خلال محاكماتٍ عادلةٍ وشفّافةٍ تَصْدر من قضاءٍ ثوريٍّ يحظى بالصدقيّة والاحترام والخلفيّة القانونيّة والعلميّة المشهودِ لها.
- اعتمادُ آليّاتٍ جديدةٍ لتوفير الموارد الماليّة الخاصّة لضمان استقلاليّة القرار، عبر إنشاء مؤسّساتٍ اقتصاديّةٍ فعّالةٍ في الداخل والخارج، واستنادًا إلى القدرات الهائلة للشعب الفلسطينيّ.
- تطويرُ المقاومة المدنيّة والمقاومة العسكريّة للاحتلال على أسسٍ جديدةٍ تعتمد وسائلَ الجيل الخامس من الحروب والتقنيّات العلميّة الحديثة المتوافرة في الأسواق بأسعارٍ زهيدة (الدرونات، البالونات الحراريّة،...).
يجب تطويرُ المقاومة على أسسٍ جديدةٍ
- توسيعُ دائرة العلاقات الخارجيّة على قاعدة الحفاظِ على استقلاليّة القرار الوطنيّ وعدمِ الدخول في المحاور الإقليميّة والصراعاتِ الداخليّة للدول.
- على الصعيد الدوليّ، تقديمُ طلبٍ إلى الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة بتعديل وضع "إسرائيل" من عضوٍ دائم إلى عضوٍ مراقب، إلى حين تنفيذ قرارَيْ 181 و194 المتعلّقيْن بعودة جميع اللاجئين وتعويضهم.
- تحريكُ ملفّ مقاضاة قادة الكيان الصهيونيّ أمام محكمة الجنايات الدوليّة.
- تفعيلُ لجان مقاطعة "إسرائيل" ولجان التضامن في العالم.
- إيلاءُ العمل الإعلاميّ أهمّيّةً خاصّة، لا سيّما على الصعيديْن العربيّ والدوليّ، لكسب الرأي العامّ وتجييشِه في معركة الدفاع عن حقوق الفلسطيين، واعتبارُ الصراع العربيّ - الإسرائيليّ البوصلةَ الأساس.
- المطالبةُ بفرض حصارٍ جوّيٍّ على "إسرائيل" من خلال اتحاد الطيران المدنيّ (الايكاو)، وفلسطين عضوٌ فيه، إلى حين إعادة بناء مطار غزّة ومطار قلنديا.
- حمايةُ الوكالة الدوليّة لغوث اللاجئين وتشغيلهم (الأونروا)، وجعلُ هذه الحماية قضيّةً وطنيّةً وعالميّة.
***
وأخيرًا، فإنّ معركة استعادة فلسطين - - على صعوبتها في ظلِّ اختلال القوى محلّيًّا وإقليميًّا ودوليًّا - - ليست مستحيلةً إذا ما تضافرتْ كلُّ الجهود والإمكانات في سبيلها. إنّها معركةُ إرادةٍ وعزمٍ وطاقاتٍ لا تزال متوافرةً بقوّة لدى الفلسطينيين وأنصارِ القضيّة على امتداد المعمورة (وهم كثرٌ جدًّا في العالم). إنّها المعركةُ الأخيرةُ ضدَّ الاستعمار المباشر في العالم، وإنّ الانتصارَ فيها انتصارٌ للإنسانيّة جمعاء.
بيروت