("انتفاضة 1987 من أعظم حالات التمرّد ضدّ الاستعمار في العصر الحديث" ــــ إدوارد سعيد)
مثّلت الانتفاضةُ الفلسطينيّة الأولى(1) لحظةً تاريخيّةً تحتفي بها الذاكرةُ بمزيجٍ من الألم والحنين والأمل في تكرارها. ففي الأيّام الأولى من كانون الأوّل 1987 وقع حادثُ سير في غزّة تسبّب فيه أحدُ الإسرائيليين بمقتل أربعة شبّانٍ فلسطينيين.(2) وقد أضفى اضطرامُ المشاعر على الحادث الأليم أبعادًا أدّت إلى سلسلةٍ من المواجهات المتلاحقة، وبدا أنّه شكّل انعطافًا تاريخيًّا نحو مرحلةٍ جديدةٍ من النضال الفلسطينيّ.
فحتى العام 1978، كانت "إسرائيل" قد صادرتْ نحو 40% من مساحة الضفّة والقطاع لصالح البنى الاستيطانيّة وتوابعها. وتهيّأ للبعض أنّ عشرين عامًا من الاحتلال في موجته الثانية قد "روّضت" الشعبَ، وقضت على روح المقاومة لديه. وكان الفلسطينيون في الضفّة وغزّة يقفون خلف حاجز الرهبة والوهم: الرهبةِ من المحتلّ، والوهمِ بمناخ تسوياتٍ سهلة. فجاءت الانتفاضةُ دلالةً على وعيٍ جديدٍ بلزوم التصدّي للعدّو، ولو بأساليب بدائيّة.
***
معتز نعيم، "الانتفاضة ليلًا"، زيت على قماش، 2016.
على أنّ المفاجئ هنا كان التوقيت فقط.(3) فالانتفاضة، في حدّ ذاتها، كانت حتميّةً، إذ لا بدّ من أن تتمخّض من طبيعة ذلك الصراع نفسِه. ذلك لأنّ الانتفاضة "ظاهرةً عرفتْها كلُّ المجتمعات الإنسانيّة، في كلّ العصور والأمكنة، طالما وُجد الظلمُ والقهرُ والاستبدادُ و الاستعمار... وتجسِّد نموذجًا إدراكيًّا ومعرفيًّا ذا مواصفاتٍ خاصّة، وفقًا لمكوِّناتها وعوامل نشأتها وسماتِها ووظائفِها وآليّاتِها وإنجازاتِها..."(4)
بكلامٍ آخر، عندما يتهيّأ شرطُ الانفجار، فإنّه يكفي لحادثٍ بسيطٍ وعفويّ أن يفجّر غضبَ الناس. أمّا ما يلي ذلك، فلا يكون عفويًّا بالضرورة، وأعني القدرةَ على الإمساك بأعنّة الانتفاضة وقيادتِها. وهذا ما يفتح البابَ واسعًا أمام السؤال عن معنى الانتفاضة كفعلٍ ينبثق من دون تخطيطٍ مسّبق، ويستند إلى وعيٍ عميقٍ رافضٍ لمبدأ الاحتلال، الذي بلغ حدًّا من التناقض مع مطامح الجماهير قاد إلى انفجارٍ شامل. وهذا لا يعود إلى عامل فلسطينيّ ذاتيّ فقط، بل إلى طبيعة "إسرائيل" أيضًا، التي لا يمرّ يومٌ إلّا وترتكب عملًا حربيًّا، وتُعامل الفلسطينيَّ بمزيجٍ من القوّة واللامبالاة والتعالي.
وأمّا ما يقال عن "تخطيطٍ مسبّقٍ للانتفاضة،" فلا يمكن أن يكون زعمًا مقبولًا. وفي الوقت ذاته لا يمكن التقليلُ من أهمّيّة جهود الحركة الوطنيّة، بمختلف مشتقّاتها، في بلورة وعيٍ معادٍ للاحتلال. والقول بـ"عفويّة الانتفاضة" لا يعني انتقاصًا من أحد.(5) وإذا اعتاد بعضُ القوى الفلسطينيّة أن يَنسب إلى نفسه كلّ عملٍ إيجابيّ، فإنّ الأمر في حالة الانتفاضة الأولى مختلف؛ فهو لا يتعلّق بعمليّة استشهاديّة يشارك فيه بضعةُ رجال قادمين من خارج حدود الوطن. وهذا ما لم يُدركه بعضُ القوى التي بلغ بها الادّعاءُ حدّ تعيين تاريخٍ مسبّقٍ أقرّته هي بالذات.
فهذه القوى، وفي مقدّمتهما قيادةُ حركة فتح، ترغب في أداء دور "القابلة." وكانت هلِعةً من بروز منافسين سياسيين لها، كالقوى الإسلاميّة التي كانت تعيش آنذاك حالةً من التوسّع والتنامي.(6) يضاف إلى ذلك انخراطُ بعض القوى اليساريّة، كالجبهتين الشعبيّة والديمقراطيّة، في فعّاليّات الانتفاضة؛ ما دفع حركةَ فتح إلى اللحاق بهما. بل إنّ ذلك الهلعَ من قوى اليسار والإسلام السياسيّ على حدّ سواء قاد حركة فتح إلى محاولة خرق صفوف قوى اليسار نفسه.(7)
ثمّ أتى التدخّلُ الفعليّ القويّ لقيادة فتح في الانتفاضة إثر اغتيال أبي جهاد الوزير في 15 نيسان 1988. فقد حمل الاغتيالُ عنوانًا إسرائيليًّا عريضًا، هو "الفناء لمنظّمة التحرير!" وبدا استكمالًا لاجتياح 1982. ولذا سعت القيادةُ إلى استغلال الانتفاضة من أجل تأمين عودتها إلى مسرح الأحداث، عالميًّا وعربيًّا.(8)
***
معتز نعيم، "الشهيد"، زيت على قماش، 2016.
وأمّا الاتجاهات التي تسعى، في فهمها للانتفاضة الأولى، إلى الربط السطحيّ بين حركة الجماهير و"الصعوبات" الأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعية، فهي تتعامل مع الانتفاضة وكأنّها محضُ صرخة احتجاج على قمع بوليسيّ. ومع ذلك، فإذا كان المواطنون يسعوْن إلى أمنهم وحقوقهم الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فمن السذاجة إنكارُ إسهام هذه العوامل في إيصال الوضع العامّ إلى الانفجار.
***
بعد إعلان الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب القدسَ عاصمةً لـ"إسرائيل،" توسّل الجميعُ حدوثَ انتفاضة ثالثة. وكان ممكنًا أن تَفرض هذه المتغيّراتُ على الفلسطينيين واقعًا يقودهم إلى انتفاضةٍ أو انتفاضات. بيْد أنّ ما نراه أمامنا لا يتعدّى نطاقَ ردّة الفعل. وهو ما يعبِّر عن مأزق حقيقيّ في هذه المرحلة الدقيقة من نضال الفلسطينيين.
يشير تقرير لـنوفيل أوبسرفاتور إلى أنّ الفلسطينيين "غيرُ قادرين على قيادة انتفاضةٍ على نطاق واسع على خلفيّة زعزعة مشروع استقلال بلادهم..." وذكر التقرير أنّ الفلسطينيين "قبلوا باختلال التوازن في ميزان القوى بينهم وبين الإسرائيليين، خاصةً بعد أن أصيبوا بأزمةٍ نفسيّة على خلفيّة فشل الانتفاضة الثانية. فضلًا عن ذلك، اعترف أحدُ المسؤولين الفلسطينيين... بأنّ الإسرائيليين يملكون كلَّ الوسائل بين أيديهم، بينما لا يملك الفلسطينيون أيَّ شيء."(9)
لكنْ، على الرغم من كلّ ما قيل وسوف يقال عن انتفاضة الحجارة، فالمعيار النهائيّ للحكم عليها يرتبط بالمآلات التي انتهت إليها. ولو افترضنا جدلًا أنّ هناك مَن خطّط لها، وأعطى إشارةَ اندلاعها، فإنّ ما تمخّض عنها من نتائجَ لم يكن، للأسف، ذا علاقة بالأسباب التي دفعت المواطنين إلى الخروج من بيوتهم في صباح ذلك اليوم الخريفيّ من كانون الأول 1987.
كارلستاد - السّويد
(1) استُخدمتْ كلمة "الانتفاضة" أوّل مرّة لوصف الاحتجاجات التي اندلعتْ إثر حادثة معبر بيت حانون، شمال قطاع غزّة (راجع الهامش التالي) في بيانٍ لحركة حماس يوم 14/12/1987. ودخلت الكلمة إلى الصحافة العربيّة والغربيّة بلفظها العربيّ، وكتب زئيف شيف وإيهود يعاري كتابًا بالعبريّة عن تلك الفترة بعنوان: الانتفاضة.
(2) كانت حاملةُ دبّاباتٍ إسرائيليّةٌ، في 8 كانون الأول 1987، قد صدمتْ عددًا من السيّارات على معبر بيت حانون، ما أدّى إلى استشهاد أربعة فلسطينيين (هم طالب أبو زيد، وعصام حمّودة، وكمال حمّودة، وشعبان نبهان) وإلى جرِح سبعة آخرين.
(3) يقول بسّام أبو شريف، المستشارُ السابق للرئيس عرفات: "حتى تلك اللحظة [يقصد لحظة اندلاع الانتفاضة]، لم يكن هنالك بالذهن انتفاضة. كان بالذهن إسنادُ الشعب في الداخل؛ رصدُ موازنات للجامعات، للمدارس، للمستشفيات، كنوع من الدعم لنتائج هذه المُظاهرات الكبيرة... كانت إسرائيل تفرض حصارًا شديدًا على الأموال وعلى المساعدات وعلى المتطوّعين، الخ. وكانت وجهةُ نظر أبو عمّار أنّ شعبنا قد لا يتحمّل استمراريّة مثل هذه الانتفاضة." موقع الجزيرة نت:
https://bit.ly/2Tcc1T3
(4) د. بشير أبو القرايا، النظام الانتفاضيّ: نظرة في الواقع العربيّ والإنسانيّ (بيروت: مكتبة حسن العصريّة، 2013).
(5) يؤكّد موقعُ وكالة وفا (http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3475) في نصٍّ بعنوان "أسلحة المقاومة" نُشر سنة 1987 أنّ "الانتفاضة الجماهيريّة العارمة للشعب الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة" لم تأتِ "بشكلٍ عفويّ أو آنيّ، ولم يكن حادثُ معبر بيت حانون... حادثًا قدريًّا لعبت الصدفةُ ملعبَها في أحداثه." ويتطرّق النصّ إلى وصف الرئيس عرفات عامَ 1988 بأنّه "عامُ البشرى،" وأنّ هذه "الانتفاضة الكبيرة، بشهدائها وجرحاها ومعتقليها، هم رُسلُ هذه البشرى، وهي الخطوة الأولى على طريق إنهاء الاحتلال وطردِه وبناءِ الدولة الفلسطينيّة المستقلّة وعاصمتُها القدس الشريف." وثمّة مَن يزعم، من دون دليلٍ واضح، أنّ الشهيد خليل الوزير كان "يرغب في تصعيد الانتفاضة، بل في نقلها إلى فلسطينيي الخطّ الأخضر؛ وتوقّع حدوثَ عصيان مُسلّح عامّ، وكان طموحُه الشخصيّ أن يدخل الأراضي المحتلّة لقيادة العصيان." راجع: يزيد صايغ، الكفاح المسلّح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، 1949 ــــ 1993 (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، ط 1، 2002)، ص 864.
(6) تبلور منذ بداية الثمانينيّات نشاطٌ سياسيّ إسلاميّ واضح. يقول نافذ عزّام، القياديُّ في حركة الجهاد الإسلامي، إنّ تلك السنوات كانت صعبةً بالنسبة إلى الفلسطينيين لأنّ الأمور كانت تتجه نحو المفاوضات والتسويات (انظر موقع قناة الجزيرة نت، مرجع سابق). وقد أُعلن عن حركة حماس رسميًّا مع بدء الانتفاضة في منتصف كانون الأول 1987.
(7) يشاع أنّ عرفات لعب دورًا مفصليًّا في انشقاق الجبهة الديمقراطيّة في العام 1989 بقيادة ياسر عبد ربّه، وهو الرجلُ الثاني في الجبهة، وذو علاقةٍ وثيقةٍ بعرفات. وقد قام عبد ربّه بتأسيس الاتحاد الديمقراطيّ الفلسطينيّ ("فدا")، الذي يُعَدّ أوّلَ حزبٍ فلسطينيّ علنيّ في الأراضي المحتلّة عام 67. وأدّى هذا الانشقاق إلى انضمام معظم الكوادر الناشطين في "الجبهة" إلى "فدا،" ما أضعف الأولى وأثّر سلبًا في دورها لاحقًا (يتداول الفلسطينيون أنّ محمد اللبدي، الناشطَ في الجبهة الديمقراطيّة، هو مَن صاغ أوّل بيان للانتفاضة، الذي حمل الشعارَ الشهير "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة،" بعيْد اندلاع المواجهات في الضفّة وغزّة ــ ــ ما دفع حركة فتح إلى إعداد بيانٍ مشابه).
(8) يقول حسام خضر، من القيادة الموحّدة للانتفاضة (1987 ــــ 1993): "أصبحت الأرض المحتلّة [عام 67] هي الساحة الوحيدة اللي مُمكن لهذه القيادة أن تلعب بها وتُحافظ على شرعيّتها ووجودها. للأسف الشديد، أنا أقول لكِ، بالسنة الثانية للانتفاضة، أصبحتْ تونس تتدخّل بشكل سلبيّ لأنّهم [أي القادة الفلسطينيين في تونس] في وادٍ والناس في واد... الشباب هُنا مضطرّون أن يبعثوا البيان، بيان القيادة الوطنية الموحّد رقم 10 أو 20 أو 30، من باب العلاقة، ومن أجل أن يبعث أولئك [القادة] شويّة مصاري..."
الجدير ذكرُه هنا أنّ "القيادة الوطنيّة الموحّدة" تشكّلتْ بصورة سرّيّة تامّة؛ حتى إنّ "إسرائيل،" على الرغم من كلّ ما تملكه من خبرةٍ في هذا المجال، لم تستطع أن تكشف هويّةَ أعضائها إلّا بحلول نيسان من العام 1988، فقامت بإبعادهم ــ ــ ومن بينهم حسام خضر، الذي التقى خليل الوزير قبل اغتياله. ويزعم خضر أنّه خاطبه قائلًا: "الفساد كان مُستشري في مؤسّسات منظّمة التحرير. وبالتالي إحنا كان يصلنا من موازنات ــــ كان من شأنها أن تنقُلنا نقلة نوعيّة باتجاه مقاومة شعبيّة ومُسلّحة ــــ الفُتاتُ. وكُلّه كان يتقصقص على الطريق في جيوب المسؤولين. وهذا حقيقة وضعتُها، أنا والأخ مروان، أمام الأخ أبو جهاد، في اجتماع تقريبًا استغرق 4 ساعات في 12/4/1988 في بيته [في تونس]... يعني 4 أيام قبل استشهاده." للمزيد انظر موقع قناة الجزيرة نت، مرجع سابق.
(9) تقرير صحيفة Le Nouvel Observateur الفرنسيّة ورد في:
https://bit.ly/2EODYgr