كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.
ـــ صباح الخير يا برلين.
ـــ هُنا زونين إليه!
ـــ مساء الخير يا شارع العرب.
ـــ وهُنا برلين أيضًا.
أهلًا وسهلًا بكم في زونين إليه، شارعِنا الجديد، شارعِ العرب، شارعِ الشمس. هذا الثُعبان الطويل يمتدُّ على الأرض الصلبة، وعلى هذا الإسفلت الأسود، من أوّل "طريق مزرعة الورود،" حتى ساحة "هيرمان بلاتس." وهذه، الآن، حدودُنا المغلقة، غير المُعلنة، منطقُتنا الحرّة، المقفلة، حاراتُنا الصغيرة، بيوتُنا، مقاهينا، قبورُنا الجديدة.
وهُنا أفراحُنا، أحزانُنا، وحياتُنا التي لا نعرف كيف صارت، ولا كيف نرويها ونفسّرها للآخرين. لماذا؟
لأننا ببساطة لا نعرف.
نعم، لا نعرف من أين نبدأ حكايتَنا، وكيف نقولها. هل نحن، مثلًا، في واحة صغيرة داخل صحاري مجهولة لا حدودَ لها؟ أمْ نحن صحراء صغيرة في واحة واسعة سِرّيّة لا نعرف عنها أيَّ شيء؟
غيتو؟ يسأل الشارع، ثمّ يمدّ إلينا لسانَه الطويل.
أمّا العبد الفقير، فيقول لكم: لا فرق، والله لا فرق. المهمّ أنّ كلَّ شيء يمشي ويتنفّس في شارعنا العجيب. الحمد لله!
ويسمّونه في الصحافة "الشارع الرّهيب."
نعم، في الصحف ونشرات الأخبار اليوميّة، تُروى عن شارعنا الأساطيرُ المخيفة الكئيبة. إذا كتبوا عنه لا يتذكّرون إلّا المخدِّرات وعصاباتِ الجريمة المنظّمة والخوفَ والإرهابَ والحجابَ والنقابَ ومعاداةَ الساميّة.
ما هي الساميّة؟
لا نعرف!
هُنا تسقط الطوائفُ، ونصير عربًا
ويسمّيه البعضُ "شارع الغرباء،" و"شارع الأجانب." أما بالنسبة إلينا، فالأمر مخُتلف تمامًا: إنّه شارعنا. ومَن يكره شارعَه؟ هُنا، الألمان هم الأجانب. والله العظيم هم ضيوفُنا، نحن أهلَ البقلاوة واللحم بعجين والفتّة والمناسف والطاجين والمسقْعة. في شارعنا، لا يسألك الناسُ عن اسمك، ولا عن هويّتك وطائفتك وبلدك، ولا من أين جئت ولا إلى أين تذهب؛ فأنت تقريبًا حرٌّ وغيرُ موجود في آن. لا أحد يكترث بك.
هُنا تسقط الطوائفُ، ونصير عربًا. نعم. جَرِّبْ أنْ تبيع كنافة شيعيّة أو درزيّة! هريسة سنيّة؟ يطردك الناس، وتقفل محلَّكَ وتخسر. مِن مصلحتك هنا أن تصير عربيًّا. نحن عربُ برلين، وكلُّ الأشياء تتساوى وتتشابه في شارع الغرباء.
لم تعُد الأخبار، التي تقال عنّا في دير شبيغل ودويتشة فيله، لا الأكاذيب ولا الحقائق، لم تعُد تعني لنا أيَّ شيء. نعرف حقيقةً واحدة، وحيدة، باردةً ويتيمة: أنّنا متشابهون وغرباء. يوحِّدنا صمتُنا، ولونُنا البنّيّ الغامق والقمحيّ والأسمر المحروق. ويشتّتنا خوفُنا من الحكاية؛ هذه الملعونة هي ذاتها التي تجمع شظايانا ثمّ تنثرنا مرّةً أخرى كما ينثر الحصّادون البذارَ في البراري، وبعد ثانية توزّعنا فوق الإسفلت وفي الأزقّة والبارات والمساجد والطرق والكنائس والساحات.
ماذا أقول لكم؟ كيف أقول لكم؟
نسير الآن في بطن هذا الوقت، في جوف هذا العصر، على هذا الشارع الذي اسمُه "زونين اليه،" أو "شارع الشمس،" أو "شارع العرب." نسير هكذا، بلا بوصلةٍ أو خارطة. قصّتُنا بسيطة ولا حلَّ لها، لا عن طريق التكنولوجيا ولا نظام الـ "جي بي أس." فأفواجُ البشر تتحرّك في حدود شارعنا فقط. صحيح أنّنا نمشي الهرولة ونبدو كأنّنا أحرارٌ تمامًا، ونعرف ماذا نريد، ولا ينقصنا إلّا المزيد من محالّ الفلافل والحمّص والتبّولة والحلويات والمساجد ورضى الوالدين والصلاة على النبيّ. لكنْ كلّ هذا تمثيل. نحن ممثِّلون، وشارعُنا هو المسرح.
تعال وانظرْ إلى جموع اللاجئين الغُرباء كيف يمشون وينامون ويعملون ويسهرون ويأكلون. كيف يصعدون في قطارات "الإسوبان" فوق الجسور وينزلون إلى "الأوبان" تحت الأرض، والقطارات تزعق كأنّها تنّينٌ من حديد. القطارات والسيّارات والحافلات الصفراء، أم 41 وأم 171 وأم 29 وأم 104 وأم 194، تحرُث شوارعَنا أربعًا وعشرين ساعة. ونظلّ نتحرّك في حدودنا، لا نقطع الحاجزَ الوهميّ، لا نعرف ماذا يوجد داخل تلك المعاهد والمتاحف والأبنية القديمة. ننظر إليها فقط. إذا حاولتَ أن تدخلَها، ولو للفرجة، قد تهلك!
تعال وانظرْ إلينا كيف نتحلّق حول طاولات الطرنيب والتريكس والباصرة في المقاهي على طرفَي الشارع. وماذا يتعيّن علينا أن نفعل غيرَ ذلك حين لا نجد عملًا؟ ننتظر شيئًا نجهله. لا شيء لنا سوى الانتظار. الانتظار حرفتُنا. ننتظر الأوراق وقرارَ المحكمة وما لا نعرف. المهمّ أنّنا ننتظر.
ترانا ندخّن النرجيلة. حبالُها تتدلّى من أفواهنا كأنّنا كائناتٌ غريبة حطّت في برلين من كوكب العجائب، وننفخ في اليوم ملايينَ الزفرات. نحترق على مهلنا وعلى طريقتنا الخاصة. ندخّن الوقتَ والأمل، وندخّن مثلَ قطار بخاريّ قديم، وننتظر. ثمّ ننتشر في ساحات هيرمان بلاتس واليكس بلاتس وحارات فيردن ونيوكلن. ثمّ نقف ننتظر القطارات التي لا تتعب ولا تنام.
تعال وانظرْ، هُنا وهُناك. عربٌ وأكرادٌ وأتراكٌ وفُرسٌ. أفارقة وغجر وأمازيغ. فقراء ومهاجرون ولاجئون وباعة حشيش ومهرّبون وعملاء.
لقد وصلنا من كلّ البلاد والجهات إلى برلين، وقلنا: تمام، الحمد لله على كلّ حال، وصلنا، خلص، هنا لن تعترضنا حواجزُ الجيش، ولن تقصفنا الطائراتُ والدبّابات. لن يرمونا في أقبية السجون. لن تقطع داعش رؤوس أولادنا. لن نجوع. لن تُسبى النساء. واذا لم تقصفك الطائرات، ولم تعترضك حواجزُ الجيش، ولم يسألك الشرطيّ عن اسمك وهويّتك، فأنت حرّ.
ـــ حُرّ؟ هل أنت حقًّا حرّ؟ انت كُررر. لا تغضبْ. أو اغضبْ. لا فرق.
ـــ ما معنى الحرّية؟
ـــ الحرّية خراء.
ونحن مثل كلّ الناس، أقصد نحن سكّانَ شارع العرب، قاطني هذا المخيّم العربيّ، في وسط هذا الغيتو الكبير، وسط برلين، وقد تحوّل على أيدينا المتعبة المشقَّقة إلى بلدةٍ كبيرة، تشبهنا ولا تشبهنا. تعرفنا ولا تعرفنا. تشبه البلدات الصغيرة التي لم تعد تشبهنا، أقصد البلدات هناك، في الوطن، قرانا البعيدة، حيث قبورُ أجدادنا وأشجارُ الليمون والتفّاح والصفصاف والبرتقال والتين والزيتون والأمكنة التي تركناها خلفنا، وحيث حقولُنا التي تسرّبتْ من بين أصابعنا كما يتسرّب الهواءُ والماء.
ـــ قبل الحرب كنّا يتامى.
ـــ وبعد الحرب؟
ـــ صرنا شظايا.
هنا يسمّوننا "مشكلة أوروبا." في الحقيقة نحن مليون مشكلة يا أخي، عشرون مليون مشكلة. نحن موضوع صحفيّ مثير في الأخبار. نحن كابوس الدول المتحضِّرة. قصص مبعثرة في المقاهي والحدائق العامّة ومراكز التوقيف. نحن حكاية، لا بداية ولا نهاية لها. كالزجاج المكسور المنثور فوق الإسفلت البارد.
فوق شارع العرب في برلين.
ـــ وأنت يا مستر، ستحتاج إلى معجزة ربّانيّة، وإلى جيش من الأنبياء، إذا أردتَ ترميمَنا أو حاولتَ فهمَنا أو جبْرَنا. هذا مستحيل. إنسَ. ألا تتذكّر كيف استنفر الشرطيُّ على الحدود حين قال له أحدُ اللاجئين السوريين المتعلّمين، وكان اسمه الدكتور رياض:
ـــ الحقيقة يا سيّد، أوروبا هي مشكلتنا.
ردّ عليه الشرطيُّ ولم يسمعه:
ـــ لماذا جئتَ من اليونان إلى برلين؟ كيف وصلتَ من درعا إلى تركيا؟ قلتَ لي عائلتُك في صربيا؟ مَن كان معك في هنغاريا؟ ما هي طائفتُك؟ اوكي في وسعك أن ترحل. لماذا أنت هنا؟ ولا تردّ الآن؟ اذن، اِخرسْ.
تعال وانظرْ إلينا في مراكز اللجوء. استمعْ في ذهول إلى مليون قصّة تجمّعتْ في حكايةٍ واحدة، واكتشفْ وحدك أنّك لن تعرفَ ولن تفهمَ بعدها أيَّ شيء. نحن لغزٌ عصيٌّ على التفكيك والحلّ. وليس في وسعك أن تقبض على أصل المشكلة. وإذا كنتَ من أولئك الباحثين عن موضوع للدراسة الجامعيّة، فتعال إلينا؛ نحن موضوع مثير وجاذب للبحث وطقّ الحنك مع صديقتك الشقراء في بار سيتي.
تعال لترى كيف أصبحنا حقلَ تجارب مجّانيًّا عن أمراض الواهمين القادمين من الشرق، وهدفًا ثابتًا للمؤسّسات التي تفرّخ كلَّ يوم باسمنا. الله وكيلك، باسمنا! يُقال لنا: "اشكروا ألمانيا. اشكروا ميركِل." أووف، نعم من أجلنا، وكم من جمعيّاتٍ وأحزابٍ ومراكزَ كلّها في "خدمة" اللاجئين والفقراء. ولا نقرأ عنّا إلّا ما يترجمه إعلامُهم بلغةٍ لا نفهمها. في البدء يكتبونها بالألمانيّة، ثمّ ينقلونها إلى العربيّة، والفارسيّة، والأورديّة، والتركيّة، والأمازيغيّة. لكننا لا نفهم شيئًا. هؤلاء الألمان الشقر، أصحاب العيون الخضراء والزرقاء والحمراء، يدرسون طباعَنا وملامحَنا، يقرأون سلوكَنا وأوهامنا، ضعفَنا وغضبَنا. يريدون أنْ يعرفوا عنّا كلّ شيء، لأنّنا مشكلة كبيرة حطّت على أبواب مدنهم وشواطئهم مثلَ طاعون.
ولا يأتون إلى شارعنا إلّا من أجل الفلافل والشاورما والبهار والبخور والأشياء الرّخيصة. لا يسألوننا عن أيّ شيء. لكنْ، الحمد لله على كلّ شيء.
لا، بل يسألوننا عن كلّ شيء، وتجلدنا سياطُ الأسئلة كلّ يوم، وتلسعنا نظراتُ موظّفة "الآوس لاندر،" وتقرص وجوهَنا كلماتُها النافرة. نرى العيون المعادية تعضّ قلوبَنا. نرى نظراتهم الشكّاكة في أقوالنا. أوَلسنا لاجئين؟
في مراكز اللجوء، ودوائر الهجرة، والمحاكم، والسجون، وعيادات المرض، وعلى الحدود: في كلّ الأماكن، يمسحون الأرضَ بنا!
حين توقِفُنا سيّاراتُ الشرطة، بسبب لوننا وخوفنا وصمتنا، ماذا نقول؟ نقول طيّب، عادي؟ لِم لا؟ وهل نحن مثل الآخرين؟ هل نصدّق أنّنا صرنا مثل الآخرين؟ لا. لونُكَ يفضحك. أين تفرّ من لونك البنّيّ والأسمر والمحروق؟
ـــ إذهبْ إلى "زونين إليه."
ـــ لماذا؟
ـــ تضيع في الزحام وتتلاشى، لن يعرفك أحد هناك.
ـــ طيّب.. إلى شارع العرب. توكّلنا على الله. وبعدها؟
ـــ ليس مهمًّا.. إذهبْ فقط.
لم نأتِ بحثًا عن الحرّية، بل هربنا من الموت، وأملًا في بقيّة حياة لأطفالنا.
ـــ وما هي الحرّية؟ هل في وسعك شرحُها لنا يا سيّد؟
هذه القحبة التي اسمها حرّية. لا معنى لها. أوَليست الحرّية، في نهاية المطاف، مجرّدَ الإدمان على الأمان؟
من قال هذا الهراء؟ ضابط في جهاز مخابرات، أمْ فيلسوف قديم نسيت اسمَه؟
ـــ لا، بائع الحشيش المغربيّ. سي علي. هو الذي قال هذا. قال: الحرّية وهمُ العرب. الحرّية مجرّد خراء. وقال: ما قيمة الحياة حين تكون بلا أحلام، بلا أوهام، بلا أخطاء، بلا حبّ، بلا وطن، بلا حشيش؟ وقال: العالم تغيّر ألف مرّة، ونحن ما زال يَحْكمنا ملك!
أحد الشباب الغاضبين في مقهى فيروز يقول: "تفو علينا." وقال آخر: "كس أخت الوطن، منيح؟ إنسَ، باعوا الوطن. باعووووووه."
إلى هذه الدرجة وصلنا؟
بل أنت لم تر شيئًا بعد. هذه فقط الدرجة الأولى!
حتّى الوطن، بالنسبة إلينا، كان مثلَ حلم عصيّ على التحقّق، ثمّ صار مجرّد ذكرى أليمة، كابوس. كان حلمًا قديمًا، وحين نتذكّره نشعر بوخزات في الصدر، ثمّ تتحوّل طنينًا في الرأس. وبعدها يأكلنا القلق، ويبلعنا السؤال. فماذا نفعل؟
ندخّن، وندخّن، ونحاول أنْ نستعيد الوطن كلَّ يوم بالكبّة، والزيت، والزعتر، والملوخيّة، والزفت.
والآن؟
الآن لا شيء. نحن لا شيء. أنت لا شيء. مجرّد غبار منثور على طرفَي الطريق. وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي نعرفها. حقيقتنا، مذ تحوّلنا إلى "خبر عاجل" في نشرات الأخبار. ليس مهمًّا على الإطلاق. لا فرق إنْ كنّا "خبرًا عاجلًا،" أو خبرًا عاديًّا. يمكن أن تقع مجزرةٌ رهيبةٌ بعد ساعة ثمّ تتحوّل في لحظة، في أقلّ من لحظة، إلى جملة عابرة تمرُّ سريعًا على شريط الأخبار في أسفل الشاشة كما نمرّ نحن في شريط هذه الحياة.
ماذا نفعل؟
ـــ ماذا تتوقّع مثلًا؟ سنصرخ في النادل بلال المصري، ونقول له ونحن نشير إلى الشاشة: "قرفنا طيزنا من الأخبار الزفت."
نحن مجرّد هوامش وتفاصيل مبعثرة ملقاة على قارعة التاريخ، وحواري "زونين إليه،" ومادّة مثيرة لصحفيّةٍ تبحث عن فكرةٍ لمقال يرضي مديرَها الصهيونيّ. ستحتاج إلى وقود ونار وحطب وبعض الجهلة، ونحن الوقود والنار والحطب والجهلة. الأخبار صناعة يوميّة، مثل الفول والمناقيش والمسبّحة. من ذا الذي صنع منّا "خبرًا عاجلًا"؟ نحن، أمِ العدوّ؟
مَن العدوّ؟
مَن الصديق؟
لا نعرف الجواب.
اصبرْ قليلًا. وانتظرْ هنا في هذه الحجرة، وستعرف كلّ شيء بعد ساعة أو أقلّ. تيقّنْ إنْ كنت ستعيش أم ستموت. هل اصطادك السرطانُ، أمْ مرضٌ عابرٌ وتَشفى؟ هل تبقى في برلين، أمْ ترحَّل إلى سجن الغرباء ومراكز الإيواء، أمْ إلى حتفكَ في مسالخ الوطن؟
المهم انتظرْ هنا! ولا تسألْ نفسك وأنت في سجن اللاجئين: لماذا تلاحقنا السجون؟ وهل حقًّا انتهت رحلتُنا مع الألم؟ ومع المرض؟ مع العوز؟ الذلّ؟ السفالة؟ الجيوش والطائرات؟
هذه الأسئلة عدوى، مومس، تحبل وتلد أسئلةً من جديد. والأسئلةُ وحدها تتكاثر مثل البشر. كلٌّ منا سؤالٌ يحمل في جعبته ألفَ سؤال. مهما حاولتَ يا "مستر ألماني،" لن تعثر على جواب واحد يطفئ نارَكَ ويشفي غليلك.
حين يسألك الموظّفُ الشرطيّ: "أنت، كيف وصلتَ إلى هنا؟" ماذا تقول؟
اِهمسْ في أذن صديقك: "إحكيلو إنّك سوري وخلص!"
ـــ سوري؟
وصلنا إلى برلين، أعني إلى "زونين إليه،" وسألنا الهواءَ المالحَ في حلوقنا: هل وصلنا إلى نهايتنا أمْ إلى نهاية الرحلة؟ هل نحن البداية في رحلة البحث عن الخلاص الوهميّ؟ أيّ خلاص؟
كُلّنا هربنا من الموت، لكنْ لم ينجُ أحدٌ من النكبة. وصرنا كلّنا فلسطينيّين. يحمل المرءُ نكبتَه ونكستَه وخيبتَه، ويرفع بقجةً صغيرةً إلى الأعلى، ويضعها فوق رأسه، ويمضي.
ـــ نحن بَدْوُ أوروبا.
ـــ إلى أين؟
ـــ إلى مضاربِ برلين!
ـــ ....
انتهت الحربُ هناك، ولم تنتهِ تمامًا. يُطاردنا الخوفُ ويحاصرنا الوجع؟ نسكن في القلق؟ يأكلنا التوتّر ويذبحنا السؤالُ عن الأهل والأقارب والأصدقاء والرفاق؟ لا جواب. وهذا القرف الذي يملأ صدورَنا، ورؤوسَنا، وأنوفَنا، وعروقنا؟ لا جواب. لكنّنا هنا، كما ترى، لا نقول أيَّ شيء. نهرب من أنفسنا، ننفخ في صمتٍ دخانَ السجائر، والشيشا، والجنس. نحرقُه مع "المعسّل،" والتنباك، والحشيش، والخراء. نحن عرب، أو نشبه العرب، ولسنا عربًا. لا نعرف كيف نقول الكلام، لكنّنا نعبِّر عن مشاعرنا بالمقلوبة، والفاصولياء، والكنافة، والهريسة، والكبّة.
عرب، وأقلّ من الآخرين. عرب، ونوهم أنفسنا أنّنا خيرُ أمّة أُخرجتْ للناس. لا تسألني كيف وصلنا إلى هُنا. لو كنت أعلم، لقلتُ لك على الفور. ربّما لأنّنا كنّا بلا وطنٍ هناك، فصرنا بلا وطن هنا. لا أعرف. كنّا مغتربين عن أحلامنا ثمّ أصبحنا غرباء ولاجئين بلا أحلام.
مشنوقين، نتدلّى على حبل الوقت والانتظار، ونتأرجح مثل بندول الساعة. كلُّ ما أعرفه أنّنا صرنا عبيدًا. عبيد القرن الحادي والعشرين. خدم أوروبا الجدد. يهود أوروبا القدامى. مشكلة كبيرة بلا حلّ!
اوه، لا تغضب، وانتظرْ هنا. أو اغضبْ. انفجرْ هنا، لا فرق.
برلين
كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.