وديع، إنهضْ، العدوُّ يُطاردُ شعبَك (ملفّ)
28-03-2017

 

 

ماذا يمكن أن نقول لك بعد حوالى أربعة عقود من الغياب؟

أيموت الشهيد، أمْ يولد من جديد؟

أيعود وحده، أمْ ينتظر قوافلَ العودة؟

لربّما أردتُ فقط القولَ إنّ طيفَكَ السرّيّ لمّا يزل يناجي خيالَ شعبك وطليعته الثورية ، ويبقى سؤالهم الدائم: متى يعود؟

يعود. يعود. كلمة من أربعة حروف، سهلة ومتشابكة. يمكنك أن ترتّبها وتركّبها كما تشاء، وتصنع منها اسمَك وهدفكَ النبيل.

متى يعود؟

أوَليست هذه هي الحكايةَ كلَّها، يا وديع؟  

حكايةَ التشرّد الفلسطينيّ المستمرّة وهي تشقّ لحمَ الواقع المعيش.

حكايةَ بقايا قضيّةٍ تنبض، لا تريد أن تندثر بعد قرن من العذاب؟

لكنك حيٌّ في مكان ما أيّها العنيد: إنسانٌ يتنفّس إلى اليوم؛ كتابٌ لم نقرأه بعدُ؛ تجربةٌ لم نوثّقها بعدُ؛ قصّة كلّما سبرنا أحد أغوارها تراءت أمامنا أغوارٌ أخرى لا تنتهي.

وديع حدّاد ليس شخصًا واحدًا، بل تغريبةٌ طويلةٌ، ومسيرةٌ نضاليّة صاغها آلافُ الرجال والنساء، وشكلتْها مئاتُ  الحروب والمجازر والاعتصامات والتظاهرات وعمليّات المقاومة.

في كل عام نعود اليك ونسألك: متى تعود؟

ويسأل شعبُنا: متى نعود؟

نسأل فلا نسمع إلّا ارتطامَ صوتنا على قارعة العجز والهزيمة.

فمنذ غادرتَ ورفاقكَ ساحةَ الاشتباك والسؤالُ يقرع رؤوسنا: متى تعود؟ متى نعود؟

اليوم ، العدو  يُطارد شعبك في كلّ مكان.

في البر، والبحر، والمطارات، وعلى الحدود. في البيوت، والجامعات، والشوارع. في السفارات، والعمارات، والخيام . في الضفة، وغزّة، والقدس، وحيفا، وبيروت، وصوفيا، وعمّان، ودبي، وبرلين، واسطنبول، واثينا،...

في زمنٍ مضى قلتَ إننا سنتحدّى المرحلة الصعبة ونقطع هذا الجسر. وكنتَ تريد الذهاب إلى "حيث لا يجرؤ الآخرون،" وأن تسبق العدو بالعقل والمعرفة، وأن تكسب عنصر المفاجئة عن طريق الخداع. وقلتَ: "نفعل ذلك ونقولُ ما تقوله المخيمات!" كانت المخيّمات هي الميزان الذي تقيس به دوزانَ الموقف السياسيّ الذي يطمئنّ إليه قلبُك، ويرضاه عقلُكَ. وبعد ذلك، بعد ذلك فقط، تستطيع أن تنظر في عينيْ أمّ شهيد بلا وجل أو خجل!

قناعتك الراسخة واضحة لا تقبل التاويل: إذا كان الهدف هو تحرير فلسطين، فذلك يحتاج إلى جبهة عربيّة أمميّة شعبيّة، تحمل رؤيةً سياسيّة ثوريّة، وتستعدّ لحرب طويلة قاسية. فالحزب الثوريّ يحتاج الى قوة الرّدع، إلى السلاح والعضلات، بقدْر ما يحتاج الى القلم والعلم والتحليل والتوثيق والرصد والترجمة. وبكل بساطة وهدوء، قدّمتْ فكرتَكَ العلميّة والعلميّة البسيطة:

تعالوا نحيّد الجغرافيا في المعركة، ولننقل الصراعَ الى كلّ ساحة ممكنة. "وراء العدوّ في كلّ مكان!"

هكذا ولدت الفكرة: بسيطةً، عبقريّةً، استثنائيّةً، إلى أبعد الحدود.

كنتَ البسيط في زمن آخر، في شروط أخرى. فإذا قال الرفاق: "نريد السلاح،" رددتَ بسرعة: "نأتي بالسلاح."

وإذا قال الفدائيون: "نريد مالًا،" أتيتَهم بالمال. وأمّنتَ لهم الغذاءَ والخلايا في الأرض المحتلة، والشبكةَ في الخارج.

وسرعان ما تلتفت لتسأل عن أحوال المجلة، والإذاعة، والصحيفة، والنشرة. وتتابع تفاصيَل كل شيء. فكلّ شيء ممكن، بل في متناول اليد، شرط أن نريده بحزم. وكلّ هدف يمكن تحقيقُه إذا قاتلنا من أجله بكلّ جوارحنا ومشاعرنا وطاقتنا... ودمنا.

ولم تكتفِ بالسلاح، وتأمين المال، وبناء المعسكرات ومدارس الكادر وشبكة الخلايا، بل قرّرتَ أن تعود في فجر جديد حاملًا للشعب هديّةً: طائرةً حقيقيّةً وكبيرة، بل طائرتين، وثلاثًا، وأربعًا. ثم رحتَ تُعدّ لها مدرَّجًا ومهبطًا في جوف الصحراء، وتهندس مطارَ الثورة.

يأخذكَ عقلُكَ، تحت وطأة السباق مع الزمن، إلى الاختراع والابداع. كأنّك تقول: في وسعي تهديدُ العروش، والدولِ الكبيرة، وأسعارِ النفط. وفي وسعي أن أخربش أرقام البورصة لو اردتُ. ولترتبكْ كلُّ العلاقات الدوليّة! وليقف هذا العالمُ الظالمُ المجرمُ على قدمٍ واحدةٍ كرمى لشعبكِ يا فلسطين.

بل كأنّك تقول: سأذهبُ بعدُ إلى ما هو أبعدُ وأبعدُ، في خطًى محسوبة ودقيقة ومدروسة. فالطريق الذي نختاره سيأخذنا إلى النصر... أو النصر.

أثمّة حدودٌ لخيالك؟

آمنتَ أنّ الحزب الثوريّ ضرورة ووسيلة، لا ترفٌ أو هدف في ذاته. وآمنتَ أنّ الثورة، لا المكتب، هي الطريق. وهذه القناعة سوف تعصف بأشياء حميمة كثيرة، وصداقات كثيرة، فيما بعد. لكنْ، مثلما عبرتَ إلى جبهتك الشعبيّة فقيرًا وبسيطًا، خرجتَ منها إلى قبرك فقيرًا وبسيطًا، وتركتَ للجبهة والثورة ــــ رغم الخصام والعتب والجراح ــــ كلَّ ما في جعبتك من الأخبار والسلاح والأسرار والأموال (المستعادة من جيوب اللصوص). وأخذت اسمَكَ ومشيتَ.

اليوم، بعد أربعة حروف وأربعة عقود، يظلّ السؤال يقرع رؤوسنا:

هل يمكن تحقيقُكَ مرّةً أخرى؟

أفي وسع امرأة فلسطينيّة ــــ عربيّة أن تحبل من روح الشعب وتنجبك، ولو بأسماء جديدة، سرّيةٍ ومستعارة؟

أمْ أنّ الأمر كلّه يتوقّف على قرار وقصة تكبر في رحم الواقع وأحزمة البؤس مثل كل مرة؟  

واليوم، هل يمكن ان يلتقط الشباب الثوري تجربتك ويقرأوا فعلك ويراكموا عليه مداميكَ جديدةً في المقاومة والإبداع ، فيتجاوزوا حدودك وزمنك، ويعْبروا على جسرك إلى زمن جديد؟

خالد بركات

كاتب عربيّ من فلسطين المحتلّة ويقيم في الخارج.