نصّ الكلمة المصوّرة التي ألقاها رئيسُ تحرير الآداب، عبر الفيديو من بيروت، في مؤتمرٍ عقدتْه الجبهةُ الشعبيّة لتحرير فلسطين في 27/1/2019 في غزّة، إحياءً للذكرى الحادية عشرة لرحيل د. جورج حبش، تحت عنوان: "جريمةُ التطبيع وسبُل المواجهة." لمشاهدة الكلمة مصوّرة اضغط هنا
أيّتها الرفيقات،
أيّها الرفاق،
فخرٌ كبيرٌ لي أن تشرِّفوني بالتحدّث إليكم في غزّة، أكثرِ بقاعِ العالم كرامةً وشموخًا وإباءً، وفي ذكرى الحكيم جورج حبش تحديدًا، أبرزِ ثوريّي عصرنا وأرقاهُم أخلاقًا وأشدّهم تفانيًا.
وإنّه لمن دواعي سروري الشديد أن يكون أهلُ غزّة، ببصيرتهم الثاقبة التي تخترق الحصارَ الطويلَ وتضيءُ عتمةَ غزّة، في طليعةِ مَن يواجهون أحدَ أكبر الأخطار التي تتهدّد أمّتَنا العربيّة، وأعني خطرَ التطبيع مع العدوّ الإسرائيليّ. فالحقّ أن غزّة رفعتْ مستوى العمل على جبهة مقاومة التطبيع حين نظّمت "الهيئةُ الوطنيّةُ العليا لمسيرات العودة" مؤتمرًا وطنيًّا لمقاومة التطبيع في 27/12/2018،[1] ثم حين سمّت إحدى الجُمَعِ الماضية "جمعةَ مقاومة التطبيع." والآن تأتون، أيّها الأعزّاء، لتنظيم مؤتمرٍ إحياءً لذكرى الحكيم الخالد، فلا تجدون عنوانًا أكثرَ راهنيّةً من عنوان "جريمة التطبيع وسبُل المواجهة."
إنّ التطبيع مع المجرم، أيّها الرفاق، لهُو جريمةٌ حقًّا، وقرارُكم أولويّةَ مواجهتِه صائبٌ مئةً في المئة. ولا أعتقد أنّ الحكيمَ نفسَه كان ليختارَ موضوعًا للدراسة والتحليل أفضلَ ممّا اخترتم. ولعلّي أذكّرُكم، هنا، بخطابه في المؤتمر السادس للجبهة الشعبيّة، حين تحدّث عن المشروع الصهيونيّ؛ فهو لم يكتفِ بالكلام على "نزعته التوسّعيّة الجغرافيّة في فلسطين، والاقتصاديّة على الصعيد العربيّ،" بل رأى أنّ هدف هذا المشروع هو "فرضُ التطبيع العامّ..." ولمواجهة هذا الخطر، حرِص الحكيمُ على وجوب "تفعيل ممكنات النهوض القوميّ... وخاصّةً مناهضة التطبيع بما يمثّله [هذا التطبيعُ] من ثقلٍ وموقعٍ في التخطيط الإسرائيليّ لاختراق العمق العربيّ، سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا."[2]
أيّها الأعزّاء،
لقد طُلب إليّ أن أتحدّث اليومَ عن الاستراتيجيّات والآليّات التي يستخدمها العدوُّ للتغلغل في المنطقة العربيّة، وهذا موضوعٌ يستحيل أن أتناولَه كاملًا في عشرِ دقائق. لذا، سأقتصر على أبرز تلك الاستراتيجيّات والآليّات.
***
الاستراتيجيّة الأولى اقتصاديّة، وهي تعتمد على التعامل الإسرائيليّ التجاريّ المباشر مع المنطقة العربيّة، التي تقيم دولتان فيها (مصر والأردنّ) معاهدةَ سلامٍ مع الكيان الصهيونيّ. أمّا الدول التي لا تقيم مثلَ هذه المعاهدة، فإنّ البضائع الإسرائيليّة قد تتسرّب إليها عبر وسيط (كقبرص وتركيا) من دون أن تَحملَ علامةَ "صُنع في إسرائيل." ومن ضِمن هذه الاستراتيجيّة الاحتياليّة يعمد العدوُّ إلى تقديم أسعارٍ تنافسيّةٍ في السوق العربيّة، مستغلًّا ضعفَ القدرة الشرائيّة لدى المواطن العربيّ عمومًا.
وعليه، فإذا كانت الاتفاقيّاتُ الرسميّةُ مع الكيان الغاصب بمثابة اعترافٍ قانونيٍّ رسميٍّ عربيّ به، فإنّ التعاملَ التجاريّ المباشر أو غير المباشر معه يعزِّز وجودَه الفعليَّ في عددٍ من أسواقنا، وقد يرسِّخ لدى بعض العرب وهْمَ حرصِ العدوّ على "مراعاة" أوضاعنا الاقتصاديّة البائسة، ووهمَ الفائدة المرجوّة من التعامل معه.
الجدير ذكرُه، بالمناسبة، أنّ حملة المقاطعة في لبنان كشفتْ عن وجود عددٍ من السلع الإسرائيليّة في السوق اللبنانيّة، أبرزُها مُعَدّاتُ ليْزِر لنزع الشَّعر، من صنع شركتيْ لومينوس وألْما الإسرائيليّتين. وبمُوجبِ كتابٍ وجّهناه إلى وزارة الاقتصاد، صَدر قرارٌ لبنانيّ وعربيّ (عبر جامعة الدول العربيّة) سنة 2012 بوقف عمل الشركة الأولى في الأسواق العربيّة، وتأجيل البتّ في شأن الشركة الثانية إلى المؤتمر القادم للمكاتب الإقليميّة لمقاطعة إسرائيل.[3]
***
إنّكم تواجهون التطبيعَ بما يشرِّفكم ويشرِّف تاريخَكم ويشرِّف أحرارَ العالمِ أجمع
الاستراتيجيّة الثانية ثقافيّة، وهي تتمّ عبر سعي الكيان الصهيونيّ إلى إيهام العرب وشعوبِ المنطقة الأخرى أنّه قِبْلةُ المضطهَدين، جنسيًّا ودينيًّا وإثنيًّا. هنا نأتي إلى ما يسمّى "الغسيل الزهْريّ" (pinkwashing) الذي أغرى لبنانيين وعربًا ساذجين بالمشاركة في مسيرات "الفخْر" المثليّة في تل أبيب وغيرها إلى جانب مثليّين إسرائيليين ــ ــ فكأنّ "إسرائيل" تحاول، بذلك، أن تغسلَ سياسةَ التطهير العرقيّ (التي تنتهجها بدرجاتٍ متفاوتةٍ منذ العام 1948) بسياسة التعاطُف المثليّ.
وضمن هذه الاستراتيجيّة نفسِها تدّعي الدولةُ الصهيونيّةُ التعاطفَ الهائلَ مع البهائيين في إيران، ومع الأكراد في سوريا والعراق، ومع الموارنة والدروز في لبنان، ومع الأمازيغ في المغرب العربيّ، وهلمّجرًّا. والهدف: طمسُ جريمتها المتمادية في فلسطين وجوارها.
استراتيجيّة الغسيل هذه، بفروعها الجنسيّة والدينيّة والإثنيّة، تَلقى للأسف شيئًا من التجاوب لدى عددٍ من الأوساط في بلادنا. ولا نعني هنا بعضَ الأحزاب اللبنانيّة والكرديّة التي بنتْ، اعتمادًا على هذه الاستراتيجيّة المخادعة، علاقاتٍ وثيقةً مع العدوّ، فحسب؛ بل نعني أيضًا أوساطًا عربيّةً متلبرلة لا تني تقدِّم قضيّةَ الحريّات الشخصيّة على قضيّة التحرّر الوطنيّ/القوميّ ــ ــ مع أنّ القضيتيْن ينبغي، من حيث المبدأ، أن تبقيا متلازمتيْن.
وضِمن هذه الاستراتيجيّة الثقافيّة نفسِها، تدأب "إسرائيلُ" على الفصل بين إنتاج فنّانيها وأدبائها وأكاديميّيها وأطبّائها ورياضيّيها من جهة، ودورِهم الجوهريّ في ترسيخ الاحتلال وتعزيزِ صورة إسرائيل "المشرقة" في العالم من جهةٍ ثانية. فعلى سبيل المثال سعى العدوّ إلى "تمرير" الإسرائيليّة غال غادوت إلينا وكأنّها محضُ ممثّلةٍ وملكةِ جمال وأيقونةٍ هوليووديّة، متعمّدًا إغفالَ هويّتها العسكريّة السابقة في جيش الاحتلال الإسرائيليّ. وقد انطلى ذلك على بعض دعاة الليبراليّة و"الفنّ للفنّ" في بلادنا، الذين لا يمَلّون من تكرار أسطوانةٍ مشروخةٍ عن "انفصال الفنّ عن السياسة."
كما انطلى على بعض باحثينا ومثقّفينا وهمُ أنّ الجامعات الإسرائيليّة منفصلةٌ تمامًا عن المؤسّسة العسكريّة هناك؛ وهذا غيرُ صحيح بدلالاتٍ كثيرة: منها أنّ فكرة "الجدار" العنصريّ هي من بنات أفكار أستاذ جغرافيا في جامعة حيفا؛ وأنّ هذه الجامعة أيّدتْ "عمليّة الرصاص المصبوب" ضدّ غزّة (2008 ــــ 2009)؛ وأنّ جامعة تل أبيب تضمّ معهدًا أطلق نظريّة "القوة غير المتوازنة" لتبرير تدمير البنية المدنيّة التحتيّة للاقتصاص من "الإرهاب."[4]
***
نحن، إذًا، أمام المعنى الأعمق لمفهوم التطبيع: إنّه سعيُ القاتل إلى أن يَطْبَعَ في أذهاننا "طبيعيّةَ" ما ليس طبيعيًّا. فالاحتلال، عادةً، وضعٌ غيرُ طبيعيّ، خصوصًا حين يتجاوز 70 سنة؛ والفصلُ العنصريّ غيرُ طبيعيّ، ولاسيّما بعد زوال الأبارتهايد من جنوب أفريقيا؛ وسجنُ مئات الأطفال غيرُ طبيعيّ؛ واستقدامُ ملايين اليهود إلى فلسطين بذريعةٍ غيبيّةٍ توراتيّة أمرٌ غيرُ طبيعيّ؛ وبناءُ جدران داخل أرضٍ واحدةٍ تاريخيًّا وجغرافيًّا أمرٌ غير طبيعيّ؛... فكيف يكون مَن يمارِس ذلك كلَّه طبيعيًّا؟!
هنا، تحديدًا، يجري "كيُّ الوعي،" أو ممارسةُ التضليل، في أوسع أشكاله. وهنا يأتي دورُ مواقع العدوّ الإلكترونيّة وصفحاتِه، مثل "إسرائيل تتكلم العربيّة" وصفحة أفيخاي أدرعي ويلّا برسْ، وكلُّها يَستميت في فتح الحوار مع المتصفِّحين العرب، وإنْ كال بعضُ هؤلاء للإسرائيليين أقبحَ الشتائم ــ ــ فالشتمُ في النهاية بابٌ من أبواب التواصل مع "الخصم،" بل بابٌ للاعتراف بشرعيّة المشتوم. وربّما يصل الأمرُ بالمتحاورين إلى قواعدِ تواصُلٍ وحوارٍ "مقبولةٍ ومحترمة،" بعيدًا عن جوهر الصراع بينهم، ألا وهو الاحتلال.[5]
على أنّ كيَّ الوعي لا يقتصر على المواقع والصفحات الإسرائيليّة، وإنّما يتَرافق ذلك مع جيشٍ من المنظّمات غيرِ الحكوميّة، التي قزّمت القضيّةَ الفلسطينيّة وجزّأتْها، وحوّلتْ عددًا معتبَرًا من المناضلين السابقين إلى موظَّفين يلْهجون بمصطلحاتٍ خاليةٍ من كلّ بعدٍ سياسيٍّ تثويريّ، من قبِيل "العدالة الانتقاليّة" و"التمكين" و"حلّ النزاعات بالطرق السلميّة..." بديلًا من شعاراتنا التاريخيّة المعروفة عن تحرير كامل فلسطين وبناءِ الوحدة العربيّة وتطبيقِ العدالة الاجتماعيّة أو الاشتراكيّة.
وإلى جانب المواقع الإسرائيليّة والمنظّمات غير الحكوميّة، ثمّة دورٌ خطيرٌ يقوم به بعضُ المثقفين العرب، الذين أوهموا الكثيرين أنّ "معرفة العدوّ" لا تكون إلّا بالحوار معه، وعبر وسائلِ إعلامه، ولا تكون إلّا بنشر أفلامه، والجلوسِ مع أكاديميّيه (الذين يدرّسون على أراضٍ مسروقةٍ من الشعب الفلسطينيّ!). والواقع أنّ الساحة الثقافيّة العربيّة مكتظّة، منذ عقود، بمبرِّرات التطبيع، من قبيل: "العالم قريةٌ واحدة فلا تعيشوا في قوقعة،" و"إسرائيل في كلّ مكان،" و"صفقة القرن لا رادَّ لها" و"يا وحدَنا!" و"وجوب تفهّم كلّ السرديّات ووجهات النظر،" و"الثقافة تسامحٌ،" و"الفنّ فنّ والسياسةُ سياسة،" و"نافسوا الفِرقَ الرياضيّة أيًّا كانت بروحٍ رياضيّةٍ وأثبِتوا جدارتَكم على الأرض لا بالمقاطعة الغبيّة!" و"زيارة السجين ليست كزيارة السجّان..." وصولًا إلى استخدام آياتٍ قرآنيّة لتبرير السلام مع القاتل من نوع: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا"
وباختصار، فإنّ الكيان يشقّ طريقَه بحضورٍ سِلعيّ، وبآليّاتٍ ثقافيّةٍ تضليليّة، مثلما يشقّ جيشُه الطرقَ ويدمِّر البيوتَ بآليّاتٍ عسكريّةٍ فتّاكة.
***
أيها الأحبّة،
قدرُكم أن تعيشوا تحت أقذر عدوانٍ باقٍ في العصر الحديث. لكنّكم اخترتم، بملء إرادتكم ووعيكم، أن تقاوموه بمختلف وسائلكم، التي تزداد فعّاليّة ونجاعةً مع الزمن. ومثلما تواجهون الاحتلالَ والعدوانَ بغرفةٍ مشتركة، ومسيراتِ عودةٍ كبرى، فإنّكم تواجهون التطبيعَ بما يشرِّفكم ويشرِّف تاريخَكم ويشرِّف أحرارَ العالمِ أجمع، وتحقّقون بصمودكم ونضالِكم ما استُشهد من أجله أحبّتُكم، وناضل في سبيله عظماؤكم ــ ــ وعلى رأسهم حكيمُ الثورة الدكتور جورج حبش؛ حبش الذي كان لغزّةَ موقعٌ خاصٌّ في قلبه منذ بواكير العمل الفدائيّ؛ غزّةَ التي كانت آخرَ ما سأل عنه قبيْل رحيله في مستشفى عمّان حين سمع باقتحام الغزّاويين الأبطال للحدود مع مصر.
تحيةَ حبٍّ ووفاءٍ لكم من لبنان، وأتحرّقُ شوقًا إلى زيارتكم قريبًا على أرض غزّة المنتصرة!
بيروت
[1] https://bit.ly/2CCY5L7
[2] https://bit.ly/2Ho9jcb
[3] https://bit.ly/2S5Ol5V
[4] https://bit.ly/2FUlif2
[5] https://bit.ly/2CDnHro