بعد اللفّة السابعة في السيّارة، وكوبِ اليانسون الثاني، بدأتْ أُولى بوادر النعاس. ولأنّي صرتُ خبيرةً بجسمي المُضادِّ للنوم، فقد قُلتُ في سرّي: "سألفُّ لفّةً ثامنة، ولن أصدِّق تثاؤبي؛ فهذه مجرّدُ إشارة كاذبة!"
كان جسمي يوهمني بالنعاس. بيْد أنّي، حالما آتي سريري، تعود عيناي إلى "الفنجلة،" فأنتصرُ عليه بمقاومة إشاراته. غير أنّ الأرقَ كسر شوكةَ القراءة الليليّة، والعملِ المنزليّ المُتأخِّر، والمسلسلاتِ العديدةِ الأجزاء. وأمست مقاومتُه تستدعي هدَّ البدن هدًّا، فصرتُ أسوقُ السيّارةَ في معظم الليالي لساعات:
أحضنُ بيروتَ وتحضنني. أمرُّ بظاهرها وباطنها، قبل أن أرجع إلى الشقّة التي أتقاسمُها مع جمعٍ من الفتيات، وأكرهُ كلَّ ما فيها.
تتّفق سيارتي الـ"ميني" ونوباتِ أرقي، وتُعينني على تعقُّب ليل بيروت. هذه المدينة، التي لطالما لفظتْ أبناءها، سبق أن لفظتْني أنا أيضًا، فأودت بي إلى الصحراء منذ سنوات. كنتُ قد غاليتُ في كرهها، وفي الجزم بلاجدواها في تحقيق عيشةٍ مستورة، وفي الهزء من "داء الحنين" الذي يدّعي أبناؤها الإصابةَ به عند مغادرتها قسرًا. وها أنا اليوم أبحث عن الترياق من أرَقي في شوارعها.
ربَّ ضارَّةٍ نافعة!
في هذه العتمة التي لا تستر عيوبَ بيروت، أقود السيّارةَ من دون تخطيط، فلا أسمع سوى موسيقى لا تفلح في بثِّ ولو القليل من الفرح، ولا أرى سوى فتيانٍ شاردين يبيعون الوردَ العديمَ الرائحة. أتهرَّب من وجه المدينة السياحيّ الظاهريّ - الذي سطتْ عليه عصاباتُ رَكْنِ السيّارات - بإغلاق النوافذ، وأهجمُ على الشوارع الفقيرة المقفرة المغلقة على سكّانها. عندئذ، يعود عقلي إلى الدوران المنطقيّ، فتتولَّد الخشيةُ لديَّ من أن يسيء أحدٌ فهمَ دواعي وجود سيّارة "ميني" تذْرع أحياءً بعد منتصف هذا الليل الأزرق.
أَقفل عائدةً إلى جوار البحر. أطيلُ المكوثَ هناك. البحرُ مأمني من ضيق أفق البشر و"المدينة السياحيّة."
إخالُ البحرَ الهائجَ وقد امتدّت أمواجُه العاتيةُ حتّى ناطحاتِ السحاب المجاورة، مثيرًا الرعبَ.
لا كبير على البحر! الغرق هو وسيلتي الفضلى لهلاك البشريّة، لا النيزكُ الذي يتمنّى البعضُ أن يحرقَ الأرض. الماء الهادر، المُهلِكُ للأنفاس، المشوِّهُ لعنجهيّة الإنسان، الراقصُ على ترنيمة كيرياليسون،* لا يُفرِّق بين صالحٍ وطالح، أو رجلٍ وامرأة، أو مُسنٍّ ورضيع، أو آليّةٍ مدنيّةٍ وعسكريّة.
أندهش حين أبارحُ كلَّ ما فرضتُه على نفسي من ردودٍ "معقّمة" وكلامٍ مُنمَّق. الأرق يُعرِّيني، يُبدِّلني. لكنْ ما هي إلّا لحظاتٌ حتَّى تنتهي الترنيمةُ في رأسي، وأوضِّب نفسي.
يعلو نباحٌ. على مسافةٍ قريبةٍ، رجلٌ يسير برفقة كلبه، في الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. ينحني الرجلُ الأربعيني، مُهدِّئًا حيوانَه الأليف. يُمرِّر كفَّه على رقبته البيضاء، يفرك شعرَه، ويعود أدراجَه.
تُهدِّئ ملاطفةُ الكلب شيئًا من الصداع الذي يطرق رأسي: الصداعِ الذي لطالما خلتُ نفسي ممسكةً بقدّوم لأُسكت عربدتَه؛ الصداعِ الذي أجزم أنّه مسؤولٌ عن نصف جرائم البشريّة.
آهٍ لو أحظى بالغفوة الآن! آهٍ لو أتخفَّف من هذا الرأس الشغّال! الساعة الثانية بعد منتصف الليل. "كيرياليسون" تدور من جديد! أضواءُ الكورنيش البحريّ تنطفئ. تَميد بي الأرضُ. الريحُ الثائرة تقذف سيّارتي. الأشجارُ تكاد تنقلع. عليَّ أن أعود أدراجي. جسمي يضطرب. الغفوة على مرمى حجر!
بيروت
* يا ربّ ارحمْ.