عديدةٌ هي المقالات التي سافرتْ مؤخّرًا إلى الماضي، وعادت إلى تاريخ بيروت في مراحلَ مختلفة. كأنّ في هذه الانكفاء تحسّسًا للأنفاس في الصدر، واستردادًا لها، وتأكيدًا على دفق الزمن من جديد، على الرغم من حرْقَة تعَمْلقه، وضراوةِ تهاوي خرائبه بالمدينة.
هذه المقالة لا تبتعد عن هذه العودة، بل تحاول الاقترابَ من السياق الثقافيّ والسياسيّ للمسرحيّة الشعريّة الموسومة جريح بيروت، التي كتبها الشاعران إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم تضامنًا مع المنكوبين من أهل بيروت، إثر قصفِ القوّات البحريّة الإيطاليّة مرفأَ بيروت في 24/2/1912.
عُرِضت المسرحيّة على خشبة دار الأوبرا الخديويّة في القاهرة يوم 19/3/1912، برعاية الحكومة المصريّة، وبعنايةٍ خاصّةٍ من أعضاء في حزب اللامركزيّة الإداريّة العثمانيّ. وفي صيف 1913، طاف الجوقُ المصريُّ، برئاسة جورج أبيض وسلامة حجازي، بـ جريح بيروت في مدن "الديار السوريّة." فقُدِّمتْ أمام جمهور بيروت وزحلة وحيفا ويافا وحلب وحماه وحمص. وحين عُزِم على تقديمها في دمشق، مُنعتْ قُبَيْل رفعِ الستار عنها، على ما سنفصِّل الكلامَ لاحقًا.
المَقاطع المتلاحقة على التوالي تتناول مرتسماتٍ متواشجةً مع هذا العرض المسرحيّ الدّالّ، وتتوكَّأ على أنباءٍ صحفيّةٍ تُعْنى باليوميّ، وبخبريّاتٍ تُرجِّحُ كفّةَ العَرَضيّ الذي أَسْقَطَه التاريخُ العامُّ من حسبانِه. وتبدأ بمقدّمةٍ عامّةٍ للهجوم على مرفأ بيروت، ثم تتعقّب حيثيّات جريح بيروت، وتدعوها لتتقدّمَ وتقولَ قولَها.
الهجوم الإيطاليّ على مرفأ بيروت
تَزامن نشاطُ الحركات السياسيّة الإصلاحيّة والانفصاليّة في أرجاء الأمبراطوريّة العثمانيّة، في القرن التاسع عشر وبدايةِ القرن العشرين، مع اشتداد المطامع الاستعماريّة، وسعيِها إلى اقتسامِ القارّتيْن الأفريقيّة والآسيويّة، وتوزيعِ مناطقِ النفوذ في البحر المتوسّط، إضافةً إلى بَرْمَجةِ المجهودِ الحربيّ بغيةَ الهيمنة على أراضي "رجل أوروبا المريض" وتجزئةِ السلطنة. وإلى هذا السعي الاستعماريّ تنتمي الحربُ العثمانيّة-الإيطاليّة (29/9/1911-18/10/1912).
مدمِّرة تابعة لسلاح البحريّةِ الإيطاليّة تقصف ميناءَ ولاية بيروت
خلال سيرورة التحضير الإيطاليّ لغزو ولاية طرابلس الغرب، وتحديدًا في 24/2/1912، هاجمتْ مدمِّرتان تابعتان لسلاح البحريّةِ الإيطاليّة أسطولَ حكومةِ الاتحاديّين الراسيَ في ميناء ولاية بيروت. عُرفتْ هذا الواقعةُ باسم "معركة بيروت،" وكانت غايتُها شلَّ القدرة الدفاعيّة التركيّة على نجدة ولاية طرابلس الغرب، وتأمينَ عبورٍ آمنٍ للبحريّة الإيطاليّة عبر قناة السويس.
انتهى الانقضاضُ بالانتصار الساحق للبوارج الإيطاليّة، وإبادةِ الفيالق البحريّة التركيّة الموجودة قبالةَ بيروت مادّيًّا وبشريًّا. وأحدثَ القصفُ الإيطاليّ أضرارًا جسيمةً في المرفأ، بل تعرّضتْ مدينةُ بيروت - وخصوصًا الجهة المتاخمة للميناء - إلى دمارٍ فادح. وعلاوةً على عدد الضحايا المريع في صفوف جنود السفن الحربيّة التركيّة، فقد أسفر الهجومُ عن مقتل 66 مدنيًّا وفق الإحصاء الأوّليّ، فضلًا عن مئات الجرحى.
على المستوى العالميّ، وعلى الرغم من إبحار المدمِّراتِ الإيطاليّة بعد الانتهاء من مهمّتها العسكريّة باتجاه غرب المتوسّط، فإنّ ظَفرَها البليغَ في مرفأ بيروت أقلقَ الحكومةَ الفرنسيّة، ودفعَها إلى إعادةِ الجهر بمطامعها في المنطقة العربيّة شرقَ المتوسط. هكذا حَزمتْ فرنسا أمرَها بخطابٍ شديدِ اللهجة، يتَّكئ على "ميْل" السكّان المحلّيّين نحوها، و"النظرِِ بعين العطف" إليهم ودعمِهم في محنتهم، علاوةً على "حقّها" في حماية الامتيازات الفرنسيّة لمواطنيها في هذه المنطقة. كلُّ ذلك يتبدّى في التصريحات المتعاقبة لرئيس الوزراء حينئذٍ ريمون بوانكاريه (الذي سيلقَّب بـ"النمر" بعد الحرب العالميّة الأولى).
وعليه، انتهت الحربُ الإيطاليّة-العثمانيّة باحتلالِ إيطاليا ولايةَ طرابلس الغرب (ليبيا)، بعد أن دفعتْ بيروتُ ثمنًا دمويًّا في إحدى حلقاتها الشرسة. ثم عُقدِتْ معاهدةُ أوشي (لوزان الأولى) في 18/10/1912، وبموجبها اعترفتْ حكومةُ الاتّحاد والترقّي بالسيادة الإيطاليّة على ليبيا، لتبدأ سيرةٌ جديدةٌ من تاريخ هذه البقعة من الأرض وكفاحِها من أجل التحرّر والسيادة.
المناخ الثقافيّ في شرق المتوسط
ترافقت الفترةُ الممتدّةُ بين نهايةِ القرن التاسع عشر وبدايةِ القرن العشرين مع ازدهارٍ مدينيٍّ اجتماعيٍّ تاريخيّ. ويعود ذلك إلى سيرورةِ التحديث، ونهجِ التعليم، وسياسةِ "التنظيمات" العثمانيّة المتعاقبة، علاوةً عن فاعليّة المنَجز الفكريّ النهضويّ للمثقّفين في فضاء الثقافة العربيّة عمومًا؛ هذا من دون التغافل عن النموّ الاقتصاديّ، وعن أثر زيادة الاستثمارات الأوروبيّة داخل الولايات العربيّة المختلفة في توجيه الزراعة نحو تأمين الموادّ الخامّ وضبطِ الصَنائع الحِرَفيّة التقليديّة (المانيفاتورة) والتحكّمِ بالسوق المحلّيّة لصالح الامتيازات الأجنبيّة.
كلُّ ذلك جرى بالتزامن مع الترويج لبداهة "التقدّم" في الخطاب الأوروبيّ، محمَّلًا على جناح التطوّر الصناعيّ الرأسماليّ، والتجارةِ الدوليّة التي راحت تجتهد في بَسْطِ آفاقِ نفوذها على وجهِ البسيطة بشقّ قَنَواتِ المياه، ومدِّ السكك الحديديّة، وتوظيفِ التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ في مسرح العمليّات الحربيّة وكواليسِها (جُرِّب القصفُ الجوّيّ لأوّل مرّة في الحرب العثمانيّة-الإيطاليّة، ولاحقًا اختَبرتْ فرنسا فاعليّةَ الأسلحة الكيماويّة في الحرب العالمّية الأولى قبل حظرها).
آنئدٍ، شكّلتْ "لغةُ الجرائد" الوسيلةَ الثقافيّةَ الاجتماعيّةَ اليوميّةَ الأهمَّ التي تحاور الجزءَ (الفرد) حول أوضاع الكلّ (المجتمع) ضمن التاريخ. وعلى صفحاتها تأسَّسَ جسرُ التواصل الفاعل، والتفكير السجاليّ، والنقاش المؤثِّر بين الكتّاب والمفكِّرين العرب وجمهورِ قرّاءٍ تنامى نطاقُه مع تنامي ثقةِ الوقت النهضويّ بنفسِه وبنواياه الأخلاقيّة... وقبل أنْ يَدُولَ التاريخُ والدهرُ بأيّامِه وأنامِه.
لذلك يمكن تفهّمُ لهجة الحماس الإنسانويّ الكونيّ التي عمّت المطبوعاتِ العربيّةَ الصحفيّةَ عند أعتابِ القرن العشرين، محتفيةً بقطار "التقدّم" التبشيريّ، والاختراعاتِ البليغة، وعجلةِ التصنيع التي لا تتوقّف، والمعارضِ الدوليّة المقامة في المتروبول.
ومع ذلك، فقد التزمتْ بعضُ المقالات بنبرةٍ نقديّةٍ متحفّظة: فلم تنخرطْ في زهوة التفاؤل بالتقدّم المنفلتِ العقال؛ كما أنّها رفضتْ أنْ توغلَ في الرفضِ، وشؤمِ الموقف الكلبيّ، أو المتخوّفِ الغيبيّ المطالبِ بالعودةِ "الخلاصيّة" نحو ماضويّةٍ تتعامى عن حركة التاريخ. وفي طليعة الأسماء التي شكّكتْ في آليّة "التقدّم" المتعالي وفق الخطاب الرأسماليّ، يَحْضر فرح أنطون، وشبلي الشميّل، وإبراهيم اليازجي، ولبيبة ماضي هاشم، وأستر أزهري مويال. ولعلّ هذا التأرجحَ بين "الآمال الكبرى" وترقُّبِ "الخيبات العظمى" يرجع إلى الشرخ الذي اخترق تراكُمَ تاريخ التنوير العربيّ بفعل الأحداث التي كانت تمرّ بها المنطقةُ آنَ أفولِ الحقبة العثمانيّة وبزوغِ المرحلة الاستعماريّة.
وقبل توجيه الضوء مباشرةً إلى مسرحيّة جريح بيروت، أذْكر كمثالٍ على الموقف الناقد للعنف الاستعماريّ آنئذٍ نصَّ "الحرب" الذي كتبتْه لبيبة ماضي هاشم (1880-1947؟). وهاشم مثقّفةٌ لبنانيّةُ المولد، مصريّةُ الدار والهوى، عربيّةُ الثقافة. وهي صحفيّة، ومترجمة، وروائيّة، وكاتبةٌ قصصيّة، وكاتبةٌ مسرحيّة، ومفكِّرةٌ نسويّةٌ، وتربويّة، وأوّلُ أستاذةٍ جامعيّةٍ في التاريخ العربيّ الحديث. كما أنّها شغلتْ منصبَ "المستشارة التربويّة" في وزارة المعارف في دمشق، حيث تعاون معها ساطع الحصري في تأسيس الجهاز التعليميّ التربويّ للفتيات في عهد الحكومة الفيصليّة.
كانت لبيبة هاشم اليافعة، قبل إصدار مجلّتها الشهريّة فتاة الشرق في القاهرة (1906)، تنشر مقالاتِها في دوريّاتٍ عدة، لا سيّما مجلّة الضياء، التي ظهر فيها مقالُ "الحرب" لأوّل مرة (مجلّد سنة 1899-1900)، وفيه تتناول بالشجب والإدانة "حربَ البوير الثانية" (1899-1902) التي خاضتها إنكلترا في جنوب أفريقيا، مفتتحةً القرنَ العشرين بتحقّقِ إحدى نوايا الاستعمار الجديد. لاحقًا، أعادت هاشم نشرَ مقالها في فتاة الشرق (15/10/1911)، بعد أنْ عدّلتْ فيه ليواكبَ أوّلَ قصفٍ إيطاليّ لسواحل ولاية طرابلس الغرب، ومن دون أن تَعْرفَ طبعًا أنّ القصف سيطاول مرفأ بيروت في السنة التالية. ولم يكن إلّا تعديلًا بسيطًا؛ ذلك أنّ جوهرَ النيّة الاستعماريّة واحدٌ في العمق. ولا يجانبُ الصوابَ القولُ إنَّ "الحرب" هو أوّلُ مقالٍ عربيّ في القرن العشرين يتناول موضوعَ العنف بروح بيانٍ سلميّ يدينُ المطامعَ الاستعماريّةَ عن وعي؛ الأمرُ الذي يدفع إلى اعتبار كاتبته رائدةَ دعاة السلام في تاريخنا العربيّ الحديث.
قبل أنْ تبلغ هاشم العشرين، انفردتْ بمقالتها بعيدًا عن الاحتفاء بـ"الآمال الكبيرة" والتقدّم المحمَّلِ على جناح القرن الجديد. ترفض هاشم في مقالها الحربَ كلّيًّا؛ فهي رعبٌ غوليّ، إذلالٌ للبشريّة، تشريدٌ في الأرض، استباحةٌ لحقوقِ الغيرِ، استنفادٌ لثروات الأمم. وترى أنّ التمدّن مهدَّدٌ بخطر الطمع الكامن وراء الحروب الاستعماريّة. ولا يفوتُها أن تنْتَقدَ خرافةَ "حبّ الوطن" التي يُؤجَّج أُوارُ هذه الحروب باسمها. هكذا يفيض من نصّها تبصُّرٌ لشروقٍ قاتمٍ للقرن العشرين، واستبصارٌ مبكّرٌ للعبارة التي ستظهر بعد أكثر من خمسين سنة: "القرن العشرون هو قرن الحروب."[1]
كتب شاعران مصريّان "جريح بيروت" تضامنًا مع المنكوبين إثر قصف البوارج الإيطاليّة للمرفأ
عرض "جريح بيروت" في القاهرة
تردّد صدى الفعل الاستعماريّ بمرفأ بيروت وبمواطنيها في فضاء الثقافة العربيّة، وخصوصًا في الديار المصريّة. فقد أثارت فظاعةُ الأخبار الواردة من بيروت الكثيرين، سواءٌ بين المصريين، أو "الجالية الشاميّة" التي اتّخذتْ من مصرَ دارًا تدخلها آمنةً. وما لبث أنْ تداعى المثقّفون لمُؤَازَرةِ الأهلين، ونُصرةِ الأُسَرِ المتضرّرة. فكتب الشاعران المصريّان إسماعيل صبري (1854-1923) وحافظ إبراهيم (1871-1932) مسرحيّةَ جريح بيروت الشعريّة (تتألّف من فصلٍ واحد) تضامنًا مع منكوبي بيروت إثر قصف البوارج الحربيّة الإيطاليّة. وقُدِّم عرضُ الافتتاح في القاهرة في مسرح الأوبرا الخديويّة مساء الثلاثاء 19/3/1912 كما ذُكر سابقًا.
وبالطبع لم يكن لدوريّةٍ مثل الزهور أن تَسْهوَ عن عرضٍ مسرحيّ مثل جريح بيروت. فهي مجلّةٌ أدبيّة فنّيّة علميّة شهريّة، كانت تصدر في القاهرة (ظهر عددُها الأوّل عام 1910)، أسّسها الباحثُ والأديب أنطون الجميّل (1887-1948)، وأدارها الكاتب أمين تقيّ الدين (1884-1937)، وعُرفتْ بدورها التنويريّ، ولغتِها القريبةِ من القارئ، ومتابعاتِها النقديّةِ المرموقةِ والمشوِّقة، وعنايتِها بنقد العروض المسرحيّة، وبخاصّةٍ أنّ مؤسِّسَها كاتبٌ لاقتْ مسرحيّتُه وفاء العرب (تُعرف كذاك بـالسموأل) (1909) شهرةً كبيرةً، فعُرضتْ مرارًا في مدنٍ عربيّةٍ مشرقيّةٍ مختلفة.[2]
وعليه قامتْ الزهور بطبع نصّ جريح بيروت، والكلماتِ والقصائدِ التي تُلِيَتْ في عرض الافتتاح، باستثناء خطبة سليم أيّوب ثابت (ناشط في حزب اللامركزيّة الإداريّة العثمانيّ)، وقد ألقاها ارتجالًا. وجاء في تقديم الزهور لمجريات الحفل:
"ولمّا كانت الزهور، منذ نشأتها إلى يومها الحاضر، عاملةً أبدًا على إحكام الروابط الأدبيّة بين القُطريْن الشقيقيْن مصر وسوريا، وطالما كَتبتْ واستَكْتبتْ في هذا الموضوع المقالاتِ والقصائدَ، التي كانت صحفُ هذيْن البلدين تُردِّدُ صداها وتعزِّز مبدأها، [فقد] رأتْ من الواجب عليها أن يكون لها يدٌ في تلك الحفلة التي أقامها أبناءُ أحد القُطريْن لإعانة أبناء القُطر الآخر في بلواه. فتقدّمتْ إلى اللجنة، بلسان سعادة السريّ الأمثل سليم بك أيّوب ثابت، فأذِنَ لها وحدَها في نشرِ ما أُعدَّ لتلك الليلة، فجمعتْه في كرّاسٍ خاصّ، وقدّمتْ منه عددًا كبيرًا إلى اللجنة ليلةَ الاحتفال، ليضافَ ثمنُه إلى مبرّات المتبرّعين..."
"جريح بيروت" وحزبُ اللامركزيّة الإداريّة
من الواضح أنّ المسرحيّة تتجاهل كلّيًّا الجامعةَ العثمانيّة، وسلطةَ جمعيّة الاتحاد والترقي التركيّة الحاكمة، وتشير بوضوحٍ إلى الرابطة الثقافيّة العربيّة، التي تجمع المسلمين والمسيحيّين العربَ، وتعتزّ بتاريخ العرب الأوائل، وتتنبّأ بمستقبلٍ عربيٍّ مشرق، وتتحدّى الغربَ الاستعماريَّ المتعالي، وتؤكّد انهيارَ مطامعه في تحقّق المساواة والتمدّن وإنجاز "طبائع العمران."
تُصاغ الشخوصُ وفق رمزيّةٍ واضحةٍ لا تَخفى على المتلقّي: فـ"الطبيب المصريّ" يهبّ لنجدة "الجريح البيروتيّ،" في إشارةٍ إلى الإعانةِ المصريّة المقدَّمة إلى سكّانِ بيروت خلال مصيبتهم؛ بينما ترمز "ليلى" إلى مدينة بيروت، التي وقع الجريحُ في عشقها منذ الطفولة؛ أمّا "العربيّ" فرمزٌ يعقد الصلةَ بين شخوص المسرحيّة كافّةً. وذكرتْ مجلة الزهور معلوماتٍ حول الرعاية الحكوميّة التي أفضتْ إلى خروج العرض إلى النور، فقالت:
"لمّا نُكبتْ بيروتُ نكبتَها الأخيرةَ في 24 شباط، هزّتْ الأريحيّةُ والمروءةُ دولةَ الأمير النبيل محمّد علي باشا، شقيق الجناب العالي الخديوي [عبّاس حلمي الثاني]، ونخبةً من سُراة مصر وكرمائها. فتألّفتْ لجنةٌ، رئيسُها دولةُ الأمير، وقوامُها أصحابُ السعادة والوجاهة: محمّد شرابي، ومحمود رياض باشا، وعزيز عزّت باشا، وإسماعيل باشا صبري، وحسن باشا مدكور، وإسماعيل باشا أباظة، وحسين باشا واصف، وعبد الرحمن باشا صبري، وخليل باشا خيّاط، ونجيب شكّور، وسليم أيّوب ثابت، ورفيق العظم، وحبيب أفندي لطف الله. فاحتفلوا بإحياء ليلةٍ خيريّةٍ في تياترو الأوبرا الخديويّة... لإعانة المنكوبين في تلك الحادثة الأليمة. فضمّت الليلةُ أوجهَ وجهاءِ المصريّين والسوريّين، يتقدّمُهم صاحبا الدولة الأميران محمّد علي باشا وحسين باشا كامل (عمّ سموّ الجناب العالي)، وصاحبُ العطوفة محمّد سعيد باشا، رئيسُ مجلس النظّار، وأصحابُ السعادة النظّارُ الكرام. فرأى الحاضرون في تلك الحفلة الأنيقة أحسنَ ما يُرى، وسمعوا خيرَ ما يُسمع."[3]
في الاقتباس السابق، ليس بمستغربٍ العثورُ ضمن أعضاء اللجنة المنظِّمة لعرض جريح بيروت في دار الأوبرا الخديويّة على أسماء بعض "الشوام" القاطينن في مصر: خليل باشا خيّاط، ونجيب شكور، وسليم ثابت، ورفيق العظم، وحبيب أفندي لطف الله (فضلًا عن خليل مطران الذي نشرت الزهور قصيدتَه التي ألقاها في حفل الافتتاح). وفي معرض الحديث هنا، سأتوقّف عند اسمٍ دالّ، ربّما كان لفكره وفعلِه السياسيّ أثرٌ بعيدٌ في مصير العرض في "مسرح زهرة دمشق" لاحقًا، ألا وهو رفيق العظم (1865-1922).
والعظم أديبٌ ومؤرِّخٌ وسياسيّ، دمشقيُّ المولد. بدايةً، حرص في مدينته الأمّ على التواصل مع حلقتي الشيخيْن المصلحيْن طاهر الجزائريّ (1852-1920)، وسليم البخاري (1851-1928). ثُمّ غادر مسقطَ رأسه إلى مصر نهائيًّا سنة 1894 مع تزايد التدخّل الحكوميّ المُتَعسِّف في الحياة الثقافيّة. وفي دارته المصريّة المختارة، التحق بحلقة الشيخ المصلح محمّد عبده (1849-1905)، وراح ينشر مقالاتِه السياسيّة والاجتماعيّة الرافضة للاستبداد في درويّات المرحلة (الأهرام والمؤيّد والمقطّم...). عُرِف بأفكاره الإصلاحيّة. ويَذكر أدهم آل الجندي أنّه انتسب إلى "جمعيّة الدستور، ثم إلى جمعيّة الاتحاد والترقّي. ولمّا رأى نوايا الأتراك السيّئة نحو العرب، أسّس حزبَ اللامركزيّة، فكان رئيسًا له. وكان من مؤسِّسي حزب الاتحاد السوريّ. أدّى للعروبة خدماتٍ جلّى، وكان من أرفع أعلامها زعامة وقدرًا."[4]
وبناءً على السجلّ العروبيّ التراكميّ، اتفق العظم مع شخصيّات من "الديار السوريّة" عام 1912 على تأسيس حزب اللامركزيّة الإداريّة العثمانيّ في القاهرة. ومن رفاقه أذْكر: حقّي العظم، ورشيد رضا، وعبد الحميد الزهراوي، وشبلي الشمّيل، وفؤاد الخطيب، ومحبّ الدين الخطيب، واسكندر عمّون، وسامي الجريدي، وداود بركات، وسليم ثابت؛ محاولةً منهم لتأكيد لامركزيّة الحُكم، والمطالبةِ بالاعتراف باللغة العربيّة الأمّ لغةً رسميّةً إلى جانب التركيّة، وتوحيد الولايات العربيّة، ونقلِ السلطة فيها إلى السكّان المحلّيّين، علاوةً عن الإصلاحات السياسيّة المختلفة، التي وعدتْ بها جمعيّةُ الاتحاد والترقّي الدستوريّة حين استلامِها الحكم، وقبل أنْ تجنحَ نحو تطرّفِ عصبيّةٍ قوميّةٍ لاعقلانيّةٍ رأتْ أنّ قوّةَ الدولة كامنةٌ في ضرورة تتريك المكوِّن المجتمعيّ وتذويبِ التعدّد وإلغاءِ التنوّع في كلٍّ متجانسٍ أوحد.
ساهم العظم مع رفاقه "الشوامّ" في النشاطات الثقافيّة التي كانت تربط بين الديار المصريّة والديار السوريّة، مثل مسرحيّة جريح بيروت. ودعم حركةَ القوميّة العربيّة كما فُهمتْ في ذلك الحين، وشارك فيها ناشطًا سياسيًّا. وسعى مع أعضاء "حزب اللامركزيّة الإداريّة" إلى افتتاح فروعٍ للحزب في مدن الديار السوريّة بهدف توحيد العمل السياسيّ العربيّ المعارض لحكومة النظام المركزيّ. لاحقًا، بحلول العام 1914، أصبح الميلُ الإصلاحيّ نحو "اللامركزيّة الإدرايّة" تهمةً قاتلةً. واتُّهم العظم وسليم ثابت (المذكوران في اللجنة المنظِّمة لمسرحيّة جريح بيروت) بالعمل على "انفصال" الولايات العربيّة عن كيان الدولة، وظهر اسماهما في قائمة المحكومين بالإعدام غيابيًّا.[5]
من كلّ ما سبق، نفهم أنّ حزبَ اللامركزية الإداريّة العثمانيّ كان عضوًا فاعلًا في تنظيم العرض الأوّل لـ جريح بيروت، ومتضامنًا مع فحوى المسرحيّة.
سلامة حجازي
مصير "جريح بيروت" في دمشق
مع بداية صيف 1913، شرع الجوقُ المشكَّلُ من اتحاد فرقتيْ جورج أبيض وسلامة حجازي بالتحضير لجولته في مدن "الديار السوريّة،" يافا وحيفا وبيروت وحلب ودمشق، جريًا على عادة الفِرق المصريّةِ حينئذٍ. وكان الجمهورُ المسرحيُّ في هذه المدن ينتظر قدومَ الفِرق المصريّة في موسم الصيف بتوقٍ كبير. وليس من المبالغة القولُ إنّ هذه الفرق عامّةً، وفرقةَ جورج أبيض وسلامة حجازي بخاصّةٍ، تركتْ أثرًا لا يُمحى في ذاكرةِ مدن شرق المتوسّط؛ فضلًا عن أنّها سدّتْ فراغًا فنيًّا كبيرًا فيها بسبب ندرة العروض المسرحيّة المحلّيّة.
وصلت الفرقةُ إلى محطّة دمشق في تشرين الثاني من العام 1913، حاملةً في صُرَّتِها حفنةً من المسرحيّاتِ المتنوّعة التي حالفها إقبالٌ باهر، مثل: لويس الحادي عشر، وغانية الأندلس، وعِظة الملوك، وتلماك، وروميو وجولييت، وبعض المونولوجات الشعريّة المتفرّقة. ودفع الأثرُ الطيّبُ الذي قُوبلتْ به الفرقةُ إلى الموافقة المبدئيّة على عرض جريح بيروت بناءً على رغبة الجمهور الدمشقيّ. إلّا أنّ تدخّلَ السلطات حال دون تحقيق هذا المرام الفنيّ.
في محاولة معرفة سبب حظر عرض جريح بيروت في دمشق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الظرف الاجتماعيّ المحافِظ في دمشق لا يختلف بدرجةٍ كبيرةٍ عن غيره في المدن العربيّة المشرقيّة الأخرى؛ أي إنّ انفتاحًا اجتماعيًّا أكثرَ أو أقلَّ لن يغيّر من جوهر المسألة. ثمّ إنّ فرقة جورج أبيض وسلامة حجازي سبق أن قدّمتْ عروضَها من دون أيّ مشاكلَ تُذكر في المدن العربيّة السابق ذكرها. وهذا ما يدعو إلى حصرِ علّة المنع في موضوع المسرحيّة ومحتواها، ودرجةِ مرونة السلطة السياسيّة المحلّيّة في التعامل مع القول الفنّيّ لهذه المسرحيّة، إضافةً إلى قوّة النشاط المسرحيّ الذي يفرض حضورَه في فضاء المدينة.
قبل عروض أبيض وحجازي، كانت شخصيّاتٌ من مثقّفي دمشق وسياسيّيها قد أرسلتْ، في تشرين الأوّل 1913، برقيّةً إلى العاصمة تطالب فيها بالإصلاح. ومن بين الموقِّعين: أحمد كرد علي، محمّد كرد علي، شكري العسلي، فارس الخوري، عارف الشهابي، خليل مشاقة، عبد الرحمن الشهبندر، خير الدين الزركلي، جرجي الحدّاد، فخري بارودي، سليم البخاري، عبد الوهّاب الإنكليزي. وهذا يعني أنّ المُناخَ السياسيّ العامّ في المدينة كان مشبَعًا بروحِ معارضةٍ قويّة، فرضتها الأجواءُ السياسيّةُ المتوتّرةُ في المنطقة، الأمرُ الذي دفع الشخصيّاتِ المتنوّرةَ في المدن العربيّة إلى عقد الصلات الوطنيّة، وإلى التأكيد أنّ الرابطة العربيّة الثقافيّة أضحت ذاتَ بعدٍ سياسيٍّ جليّ لا يمكن التغافلُ عن توقه إلى الإصلاح وحريّةِ التعبير بلغة "الأنا" إلى جانب اللغة التركيّة.
ويبدو أنّ الحكومة في دمشق كانت سنة 1913 تتهيّب، بل تفزع، من أيّ نشاطٍ يلمِّح إلى احتمال "عروبة" مدن شرق المتوسّط، لاسيّما أنّ حماسةَ الأيّام الأولى التي رافقتْ إعلانَ دستور 1908 راحتْ تخبو شيئًا فشيئًا، ليبدأ بالارتفاع الجَرْسُ المطالِبُ بالإصلاح واللامركزيّة.
وعليه، ليس بخافٍ أنّ عملًا فنّيًّا مثلَ جريح بيروت يقدَّم على الركح الدمشقيّ بعد عامٍ واحدٍ من تأسيس حزب اللامركزيّة الإداريّة في القاهرة، وفي السنة نفسها التي عُقد فيها المؤتمرُ العربيُّ في باريس، هو خيرُ دليلٍ ثقافيّ لغويّ سياسيّ على قوّة التواصل بين المدن العربيّة. بل إنّ المسرحيّة تَستبطن وحدةَ المصير أمام القصف الاستعماريّ على ناصية التاريخ. كما أنّها تنطوي على المبادئ الأساسيّة لفكرة القوميّة العربيّة لتلك الأيّام: فتحتوي على مفاهيم الوطن المتمدّن، والأرضِ العربيّة، واللغةِ العربيّة، والتاريخِ العربيّ، والنهضة العربيّة، و"شخصيّة العربيّ،" والتضامن العربيّ، والكفاح العربيّ، والتوجّس من الغرب الاستعماريّ. وكلُّ ذلك يدفع إلى فهم منعها في مدينةٍ مثل دمشق، التي كانت حركتُها المسرحيّةُ ضعيفةً، وسلطتُها السياسيّةُ المحلّيّةُ مستبدّةً.
***
في الملحق الآتي نعيد نشر نصّ مسرحيّة جريح بيروت الشعريّة: انقرْ هنا.
إشبيلية ـــ دمشق
[1] راجع لبيبة هاشم، "الحرب،" فتاة الشرق، ج1، س6، 15 اكتوبر 1911، ص 6-10.
[2] تتناول مسرحيّة وفاء العرب ما يمكن اعتبارُه تأسيسًا لسماتٍ جوهرانيّةٍ لاعقلانيّةٍ للشخصيّة العربيّة (استقتْ ملامحَها من أخلاق البادية، كالوفاء والكرم ونجدة الضيف والمظلوم). وليس من المبالغة القولُ إنّها من أوّل المسرحيّات النهضويّة ذاتِ المغزى السياسيّ، الذي يؤسِّس لحسٍّ عروبيٍّ يفتخر بنفسه، مقابل تنامي المشاعر القوميّة التركيّة في تلك المرحلة.
[3] الزهور، س 3، ع 2، نيسان 1912، ص 104.
[4] أدهم آل الجندي، أعلام الأدب والفنّ، ج1، دمشق، 1958، ص 191-193.
[5] راجع: أدهم آل الجندي، شهداء الحرب العالمية الكبرى (دمشق، 1960)، ص 135.