نعالج في هذه الدراسة سفْرَ عاموس، وتحديدًا الآية 26 من الإصحاح الخامس، التي ما زالت لغزًا كبيرًا نحاول هنا فكّه، علّه يقدّم لنا معلوماتٍ إضافيّةً عن ديانة بني إسرائيل. غير أنّ المشكلة هي وجودُ اختلافاتٍ شديدةٍ بين النصّ العبريّ من جهة، والترجمة السبعينيّة اليونانيّة، ونصّ أعمال الرسل من جهةٍ ثانية.
- النصّ العبريّ للآية: וּנְשָׂאתֶם, אֵת סִכּוּת מַלְכְּכֶם, וְאֵת, כִּיּוּן צַלְמֵיכֶם--כּוֹכַב, אֱלֹהֵיכֶם. وبالحروف العربيّة: "ونشاتيم إت سيكوت ملككم، وإت كيون صلميكم- كوكب إلهكم، أشر عشيتتم، لكم." وتترجم الآيةُ إلى الإنجليزيّة ترجمةً محايدةً تقريبًا على الشكل الآتي:
And you bore Sikkut, your king, and Kiyyun your images, the star of your gods which you made for yourselves.
- النصّ اليونانيّ، حسب ترجمته الإنجليزيّة المقبولة عمومًا:
And you took up the tabernacle of Moloch and the star of your god Raiphan, your images, which you made for yourselves.
وتمْكن ترجمتُها إلى العربيّة كالآتي: "وحملتم خيمةَ مولوك ونجمةَ إلهكم ريفان، وتماثيلَكم، التي صنعتموها لأنفسكم."
- ويقول نصُّ أعمال الرسل: "بل حملتم خيمةَ مولوك، ونجمَ إلهكم رمفان، التماثيلَ التي صنعتموها لتسجدوا لها."(1)
ومن ثمّ فإنّ نصّ أعمال الرسل يتوافق إلى حدٍّ بعيدٍ مع النصّ اليونانيّ. الفارق أنّ الأوّل يحوّل "ريفان" إلى "رمفان" ـــ وهو تحريفٌ سنتناساه باعتباره تحريفًا متأخّرًا من أعمال الرسل. ولا خلاف على الكلمة الأولى: "ونشاتيم" أيْ "حملتم"؛ ولا على الجملة الأخيرة: "أشر عشيتم لكم" أيْ: "التي صنعتموها لأنفسكم." وبالتالي يتركّز الخلافُ حول مركز الآية: "سيكوت ملككم، وكيون صلميكم- كوكب إلهكم،" وعلى الأخصّ الكلمات الثلاث: 1- سيكوت. 2- ملككم. 3- كيون.
أمّا النصّ اليونانيّ فقد قرأ "سيكوث ملككم" على أنّهما "سيكوث مولك" وترجمهما هكذا: "خيمة مولك،" معتبرًا "سيكوث" كلمةً عبريّةً تعني "خيمة"؛ وبالتالي، فالجملة الأولى في الترجمة اليونانيّة تعني: "حملتم خيمة مولوك." ومولوك هو الإله المفترض الرهيب الذي كانت تقدَّم له أضاحي الأطفال، وقد لعنه يهوه في التوراة. أمّا "كيون" في النصّ العبريّ، فقد قرأتْها الترجمةُ اليونانيّة على أنّها اسمُ إلهٍ يُدعى "ريفان"؛ والفارق شديدٌ جدًّا بين "كيون" و"ريفان."
أمّا الترجمة العربيّة للآية فتقول: "بل حملتم خيمة ملكومكم، وتمثالَ أصنامكم، نجمَ إلهكم الذي صنعتم لنفوسكم."(2) ـــ وهي ترجمة منقولة عن ترجماتٍ أجنبيّة، تأخذ من النصّ اليونانيّ جملة "حملتم خيمة" لكنّها لا تقبل "مولوك" بل تبقى مع "ملككم" في النصّ العبريّ، غير أنّها تحوّلها إلى "ملكومكم"؛ أي إنّها تضيف إليها واوًا وميمًا كي نصير مع "ملكومكم،" أيْ مع "ملكوم" إلهِ العمّونيين الشهير. فالتوراة اتّهمتْ بني إسرائيل، بل الملك سليمان أيضًا، باللحاق بهذا الإله العمونيّ؛ ولذلك بدا أنّ إضافة بعض الحروف للوصول إلى "ملكوم" أمرٌ يليق ببني إسرائيل المنحرفين. لكنّ هذه الترجمة لم تتعامل مع "كيون" على أنها اسم إله، بل اعتبرتْ أنّها تعني "تمثال"؛ ذلك أنّ الكلمة التي بعدها ("سلميكم" أو "صلميكم") بدت وكأنّها تعني "أصنامكم" (فالصنم "صلم" في بعض اللغات الساميّة). ولذا افترض أنّ الأمر يتعلّق بتماثيل أصنام. لكنّ التمثال مفرد، والأصنام جمع، وكان ينبغي قول: "تماثيل أصنامكم."
على أنّ الأشيع هو أنّ كلمتيْ "سيكوث" و"كيون" في النصّ العبريّ تشيران إلى إلهيْن من أصلٍ بابليّ، وأنّ الثاني منهما هو كيوانو البابليّ، الذي يقال له "كيوان" في المصادر العربيّة، وهو كوكبُ زُحَل.(3) ويستند استخلاصُ أنّنا مع إلهيْن إلى سِفْر الملوك الثاني، الذي يخبرنا أنّ الآشوريين، بعد أن أسقطوا مملكةَ إسرائيل الشماليّة، أَسكنوا في منطقة السامرة مجموعاتٍ من عدّة شعوبٍ حملتْ معها آلهتها الخاصّة من بلادها الأصليّة، وكان من بينها إلهٌ يدعى "سكوث بنوث": "فعمل أهلُ بابل سكوث بنوث، وأهلُ كوث عملوا نرجل، وأهلُ حماة عملوا أشيما..."(4) وهكذا، فلدينا إلهٌ بابليّ اسمُه "سكوث بنوث." وقد شجّع وجودُ إلهٍ بهذا الاسم على افتراض أنّ "سيكوث" في عاموس العبريّ اسمُ إلهٍ محدّد، وإنْ كنّا لا نعرف شيئًا عنه.
لكنْ إذا كان "سيكوث" إلهًا بابليًّا حقًّا، فكيف أمكن بني إسرائيل أن يتعبّدوا لآلهةٍ بابليّةٍ بعيْد خروجهم من مصر؟ ذلك أنّ الفقرة التي سبقت الفقرةَ التي نحن بصددها تتحدّث عن انحرافات بني إسرائيل أثناء التيه: "هل قدّمتم لي ذبائحَ وتقدّماتٍ في البريّة أربعين سنةً يا بني إسرائيل؟"(5) والحقّ أنّه يصعب ابتلاعُ فكرة أنّ إسرائيليّي الخروج تعبّدوا لآلهةٍ بابليّة. ومن ثمّ نعتقد أنّ سيكوث وكيون ليسا إلهيْن بابلييْن، ولا إلهيْن أصلًا. وسوف ننطلق من أنّ كلمة "سيكوث، سيكوت، أو سيخوث" (حيث الكاف والخاء حرفٌ واحدٌ في العبريّة) تعني "خيمة" كما فهمتها الترجمةُ اليونانيّة. ثم سنذهب إلى كلمة "ملككم" في النصّ العبريّ، والتي قُرئت في الترجمة اليونانيّة على أنها "مولك" لكنّها عُدّلتْ في عدة ترجمات إلى "ملكومكم" كما رأينا في الترجمة العربيّة على افتراض أنّ تحريفًا وقع في الكلمة فحوّلها إلى "ملككم" بدل "ملكومكم." ونحن نعتقد أنّه يجب أخذ هذه الكلمة من النص العبريّ من دون تعديل؛ فالكلمة ليست محرّفةً. وعليه، فلدينا جملة: "حملتم إت سكوت ملككم" أيْ: "حملتم خيمة ملككم." وكلمة "ملككم" مضافٌ ومضافٌ إليه في ما نفترض، وهي في رأينا وصفٌ لإله بني إسرائيل أو لقبٌ له، أي إنّها تعني: "إلهكم" لا "الملك الذي يرأسكم." وبالتالي، فقد حمل هؤلاء القومُ في تيههم خيمةَ إلههم، الذي يوصف بأنّه ملِكُهم. والنصّ اليونانيّ يدعم هذا بشكلٍ ما؛ فهو يوافق على أنّ صوامت الكلمة تعطي أحرف "ملك" لكنّه يغيّرها بالتشكيل إلى "مولوك." لكنْ غابت عن المترجمين إلى اليونانيّة فكرةُ وجود إلهٍ محدّدٍ يدعى "ملك" أو يلقَّب بهذا اللقب، فحوّلوا الكلمة إلى "مولوك" استنادًا إلى وجود مولوك الرهيب والغامض في التوراة.
نجمُ إله بني إسرائيل هو أسلم- السها؛ وكانوا يعبدون هذا النجم- الإله الشماليّ؛ ولأنّ نجمهم شماليّ فإنّ مملكتهم شماليّة. هم شماليّون لأنهم يتبعون هذا النجم الإله الشمالي، لا لأنّ مملكتهم كانت في شمال فلسطين أو شمال القدس. |
نأتي الآن إلى الجملة التالية. فقد حمل بنو إسرائيل، إضافةً إلى خيمة ملكهم- إلهِهم، شيئًا آخرَ هو: "كيون سلميكم- كوكب إلهكم." والمشكلة هنا تكمن في تعبير: "كيون سلميكم". ولو تناسينا موقّتًا كلمة "كيون" فستبقى المشكلة في كلمة "سلميكم." إذ لا خلاف على فهم شبه جملة "كوكب إلهكم" لأنّها تعني عند الجميع: "نجم إلهكم." والاتفاق على شبه الجملة الأخيرة يسهّل علينا الأمرَ في الواقع، إذ يمكننا أن نفترض أنّها وصفٌ لكلمة "سلميكم"؛ أي إنّ الجملة تعني هكذا: "سلميكم، الذي هو نجمُ إلهكم." وكلمة "سلميكم" مكوّنة من "سلم" ومن الضمير "كم." ولو أبعدنا الضميرَ لصارت عندنا جملةٌ تقول: "سلم، نجم إلهكم." وبالتالي يتّضح أنّ نجمَ إلهِ بني إسرائيل في تيههم يُدعى سلم، بالحروف الصامتة. ومع التشكيل فقد يكون الاسم "سالم، ساليم، شالم، شاليم،" أو ما شابه.
لكنْ أيُّ نجمٍ في السماء يُدعى "سلم"؟ الجواب سيقودنا إلى سفْر التكوين، وإلى لقاء إبراهيم مع ملكي صادق ملك شاليم الذي "أخرج خبزًا وخمرًا. وكان كاهنًا لله العليّ. وباركه وقال: مبارك أبرام من الله العليّ مالك السموات والأرض."(6) شاليم (أو ساليم) هذا هو "سلم" في اعتقادنا؛ وهو نفسُه الإلهُ المعروف عند الثموديين باسم "صلم" وعند العرب باسم "أسلم." وقد ورد الاسمُ في بعض المصادر العربيّة بصيغة أصلم: "وحُكي عن سلمان الفارسيّ، رضي الله عنه، أنّه كان ليلةً ينظر إلى بنات نعش إلى النجم الأوسط من الثلاثة، فيها نجمٌ لطيفٌ ملاصقٌ النجمَ الوسطانيّ، تسمّيه العامّةُ السّها، ويسمّى أصلم. فكان إذا نظر إليه قال: اللهمّ [يا] ربّ أصلم، صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد، وسلّمنا ثلاث مرّات. فسُئل عن ذلك، فقال مَن قال ذلك أمِن في ليلته من العقرب."(7)
إذن، "أسلم" هذا هو نجمُ السها، وهو نجم محدّدٌ في كوكبة بنات نعش، المكوّنة من قطعتيْن: مربّع (أو مستطيل) من أربعة نجوم، ويسمّى "النعش" أو "نعيش"؛ وثلاثة نجوم أخرى، يمكن تخيّلُها كخيمة، وتسمّى "ذيْل بنات نعش" أو "البنات."
إلى يميننا النعش، وإلى يسارنا البنات
ويقع نجمُ أسلم، الضئيلُ الضوء، قرب النجم الأوسط في "البنات،" أيْ قرب "عناق" الشهير. ويسمّى، إضافةً إلى السها ونعش أو نعيش، "الصيدق،" الذي يعني بحسب المصادر العربيّة: الملك أو القطْب. يقول أميّة بن أبي الصلْت: "فيها النجومُ تُطِيع غيرَ مُراحةٍ/ ما قال صَيْدَقُها الأَمِينُ الأَرْشَدُ."
والآن لنلحظْ علاقة هذه الأسماء بالأسماء في قصّة إبراهيم وملكي صادق. ففي قصة إبراهيم: ملكي، صادق، شاليم. وفي القصة العربيّة: ملك، صيدق، أسلم. إنّها الأسماء ذاتها تقريبًا. ويمكن الافتراضُ أنّ شاليم هذا موجود في اسم القدس القديم ذاتِه "أور شاليم،" أي جبل الإله شاليم أو ساليم أو سلم، إذا كانت كلمة أور تعني جبلًا بالفعل.
إذن، فنجمُ إله بني إسرائيل، في سفْر عاموس، هو أسلم- السها. ولقد كانوا يعبدون هذا النجم- الإله الشماليّ. ولأنّ نجمهم شماليّ فإنّ مملكتهم شماليّة. هم شماليّون لأنهم يتبعون هذا النجم الإله الشمالي، لا لأنّ مملكتهم كانت في شمال فلسطين أو شمال القدس.
الكفين
تبقى معضلة كبرى في الآية: "كيون" في النصّ العبريّ، أو "ريفان" بحسب الترجمة اليونانيّة. فالقوم حملوا شيئًا يسمّى كيون أو ريفان. ونحن نعرف أنّه شيء يخصّ نجمَ إلههم (سالم، اسلم)، لكنّنا لا نعرف ما هو على وجه اليقين. أمّا ما نحن متأكّدون منه تقريبًا فهو أنّ تصحيفًا ما قد حصل عند قراءة النصّ الآراميّ الأصليّ للتوراة، الذي أُخذتْ منه الترجمةُ اليونانيّة والنصُّ العبريّ معًا، وأنّ هذا التصحيف أوصلنا إلى كلمتين متباينتين بشدة هما "كيون" و"ريفان." والكلمتان لا تكادان تلتقيان عمليا إلّا في حرف النون، وهو الدليل الوحيد على أنّهما كانتا في الأصل كلمة واحدة. وعليه، فأيّ محاولة لحلّ اللغز يجب أن تستند إلى هذا الحرف. وهناك رأيٌ شائعٌ عن احتمال خلط حرفَي الراء والكاف في بداية الكلمتين لأنّهما متشابهان في الكتابة: "في العبريّة القديمة يمكن الخلطُ بين حرفَي الكاف والراء بسهولة، وكذلك الأمرُ بين حرفَي الواو والفاء."(8) ويضيف مصدرٌ آخر: "التفسير الأكثر شيوعًا للاختلاف التامّ بين تهجئة كيون وسوكوث [أو سيكوث] يكمن في استخدام شكلٍ من الأبجديّة الآراميّة من قِبل يهود جزيرة إلفانتين [في مصر] في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد نتج عنه خلطٌ في نصوص العهد القديم بخصوص حرف الكاف الذي يبدي تشابهًا في الشكل مع حرف الراء، وبخصوص حرف الفاء الذي يشبه حرفَ الواو. ويمكن لناسخٍ محدّدٍ أن يكون قد أخطأ في قراءة هذه الأحرف، معتقدًا أنّ الأمر يتعلّق بالإله كيوانو، وهو اسمٌ لكوكب زُحَل."(9)
وإذا أخذنا بهذ الفرضيّة، فإنّه يُفترض أنّ الكلمتين "كيون" و"ريفان" كانتا في الأصل تبدءان بالحرف ذاته، سواء كان هذا الحرفُ راءً أو كافًا. وعليه، فلدينا كلمة تنتهي بنونٍ وتبدأ براءٍ أو كاف. ولو افترضنا أنّ الكلمتين تبدءان براءٍ فسنكون مع: "ريون" و"ريفان." ولو عرّيْنا الكلمتين من حروف العلّة والحركات فسنكون مع: "رون" و"ريفن." أما "رون" فلا تقودنا إلى شيء في ما يبدو؛ في حين أنّ "ريفن" تبقينا في دائرة ريفان التي نحاول الخروجَ منها أصلًا. وبناءً عليه، فربما كان الأصلح أن نفترض أنّ الحرف الأول في الكلمتين كان الكاف، فنكون في الأصل مع: "كيون" و"كيفان." وإذا أبعدنا حروف العلّة، التي هي زائدة عن الأصل، فسيكون لدينا: "كون" و"كفن."
أما "كون" فلا تفتحُ لنا طريقًا في ما نعتقد، ويظلّ أمامنا احتمال أنّ الكلمة بالحروف الصامتة كانت في الأصل "كفن،" أي إنّ الكلمة في الترجمة اليونانيّة يجب أن تكون "كيفان" لا "ريفان." وفي هذه الحالة يكون الناسخ قد أخطأ في قراءة حرفي الكاف والفاء، فظنّ الأول راءً والثاني واوًا، وبالتالي تكون جملة عاموس هكذا: "و[حملتم] كيفان سلمكم، الذي هو نجم إلهكم." و"كيفان" من جذر "كفن" الساميّ كما نفترض، الذي يعطي معنى التغطية والإخفاء، ومنه الكفنُ الذي هو غطاءُ الميت. فهل تكون "كيفان" المفترضة إشارةً إلى التابوت، تابوت العهد؟ نعتقد أنّ هذا ممكنٌ جدًّا. وحينها يكون بنو إسرائيل قد حملوا خيمةَ إلههم وتابوتَه ـــ وهما الأداتان الدينيّتان الشهيرتان في التوراة واحتفالاتها الدينيّة ـــ لكنّهما هنا تخصّان الإلهَ سالم (سلم، اسلم) لا الإلهَ يهوه.
وكلمة "كيفان" تذكّر بالإله العربيّ الشهير، لكن الغامض، "ذو الكفين،" الذي أُحرق تمثالُه أو معبدُه بعد انتصار الإسلام: "وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس، صنمٌ يقال له ذو الكفين. فلما أسلموا، بعث النبيُّ، صلّى الله عليه وسلّم، الطفيلَ بن عمرو الدوسي فحرقه، وهو يقول: يا ذا الكفين لستُ من عبادِكا/ ميلادُنا أقدمُ من ميلادكا/ إنّي حشوتُ النارَ في فؤادكا."(10) والفارق بين كيفان Kaiphan وكفين Kaphin يكمن في التشكيل فقط.
ومعنى كلمة "كفين" في "ذي الكفين" لم يكن في ما يبدو واضحًا للّغويين العرب القدماء، لذا لم يعمدوا إلى تفسيرها. وهو ما يشير إلى أنّها اشتقاق قديم جدًّا من جذر "كفن،" سقط من الاستعمال منذ زمن طويل، ولم يعد موجودًا سوى في اسم الإله (ذي الكفين). أما نحن فنقترح أنّ هذه الكلمة تعني النعش والتابوت، أيْ غطاء الميت المصنوع من مادّة صلبة لا من قماش كما هو الحال مع الكفن. أي إنّ الكفين هو، عمليًّا، صندوقُ الميت. وبناءً عليه، فالأرجح أن تكون الكلمة في سفر عاموس هي "كفين" أو تنويعٌ آراميّ عليها. وبالتالي فآية سفر عاموس تقول: "وحملتم خيمةَ إلهكم وكفينَ سالمكم، الذي هو نجمُ إلهكم"؛ أي إنّهم حملوا خيمةَ الإله وتابوته معهم في تيههم. وهذا يعني أنّ الإله سالم، الذي هو اسمٌ آخرُ للإله إسرائيل، هو طراز من ذي الكفين العربيّ. وعليه، فالإله إسرائيل، إلهُ بني إسرائيل (وليس بني يهودا)، يتماهى مع إله النجم أسلم - الصيدق. وهذا يعني أنّ نجمَ إسرائيل هو نجمُ السها الشماليّ.
خيمة البنات
نعود الآن إلى الإله "سكوث بنوث" في السامرة، الذي وُصف بأنّه إلهٌ بابليّ. وتبعًا للغة العبريّة فإنّ اسمه يعني "خيمة البنات،" ويشير في اعتقادنا إلى ذيْل بنات نعش، التي تتكوّن من نجوم ثلاثة، تشبه خيمةً أو عريشًا من العيدان، وتسمّى في العربيّة: "البنات." ومن ثمّ فقد حمل بنو إسرائيل في تيههم الدينيّ نموذجًا مقدّسًا لهذه الخيمة التي يقيم فيها إلهُهم: حملوا كفينَه، تابوته، وخيمته. حملوا مجسّمًا لمربّع بنات نعش، الذي يدعى النعش عند العرب، أي التابوت. كما حملوا مجسّمًا لـ "خيمة البنات." وهذا يعني أنّ ديانة بني إسرائيل مرتبطة بشمال السماء، ببنات نعش والدبّ الأكبر؛ في حين أنّ ديانة يهودا مرتبطة بجنوب السماء، أي ببرج الجوزاء ومنطقتها.
وكنّا في كتبنا السابقة قدّمنا فرضيّةً تقول إنّ الإله الشماليّ، أو السُّها، يكون محبوسًا أو ميّتًا في المربّع، أي في النعش؛ لكنه في الاعتدال الخريفيّ، أو قريبًا منه، ينتقل إلى "خيمة البنات" التي تقيم فيها النجمةُ "عناق،" التي هي إيزيس الشماليّة، حيث يُنعش ويعودُ إلى الحياة، لكنّه يظلّ خفيًّا، أو شبهَ خفيّ، مثل السها الذي لا تكاد تبصره العيون: "وهو كوكب خفيّ صغير مع أوسط بنات نعش."(11) ونعتقد أنّ عيد العرش، وهو عيدٌ لبني إسرائيل لا لليهود في الأصل، هو عيدُ خروج الإله من النعش إلى خيمة البنات. إنّه خروجٌ فلكيّ ـــ دينيّ في الأساس، ولا علاقة له بمصر البلد. وقد كانت طائفة الحلّة العربيّة تفعل ذلك أيضًا؛ ففي الخريف، وعند المطر الأول تقريبًا، تغادر الحلةُ بيوتَها، وتسكن في خيامٍ من أغصان الشجر خارج مكّة أو في البادية. ولا بدّ أنّ هذه المظلّات كانت تمثيلًا لخيمة بنات نعش. وفي هذه اللحظات لا يُسمح لها بالدخول إلى منازلها. وبالتالي، فدين طائفة الحلة يشبه دينَ بني إسرائيل، لا دينَ يهودا (الذي يشبه دين الحمس).
السّهوة
وأخيرًا، فإنّ "سيكوث" (أو سيكوت) العبريّة يمكن قراءتها على أنها "سيخوث،" على اعتبار أنّ الكاف والخاء في العبريّة حرف واحد. وهذه الكلمة تبدو لنا عديلًا لكلمة "السّهوة" في العربيّة. وكلّ ما جرى هو إبدالُ الخاء بالهاء، وهذا إبدال معروف في اللغات الساميّة (سهوة = سخوت أو سخوة). وهكذا فـ "سيكوث بنوث" تعبير يعني "سهوة البنات" في العربيّة، أيْ: خيمة البنات. فالسهوة "ثلاثة أعواد أو أربعة يعارَضُ بعضُها على بعض ثم يوضَع عليه شيء من الأمتعة، والجمع سهاء."(12) ويضيف اللسان: "السَّهوة: بيتٌ على الماءِ يستَظِلُّون به، تَنْصِبُه الأَعرابُ."(13) وكلمة "بيت" هنا تعني الخيمة أو العريش؛ أمّا "الماء" فتعني هنا الآبار. والكلمة العربيّة مهمّة جدًّا في توضيح الأمر؛ فهناك علاقة لفظيّة قويّة بينها وبين اسم الإله السها ذاته: (سهوة، سها). وهذا ما يرجّح احتمال أنّ الكلمة مشتقة في الأصل من اسم الإله السها؛ فهو الإله الذي يعيش في خيمة (سهوة) في وقت محدّد من السنة. وبالتالي فإنّ عبارة "سكوت (أو سخوت) بنوت" تعني "سهوة البنات،" أي خيمة البنات، أيْ بنات نعش في شمال السماء. وبناءً عليه، فقد كان ذيل بنات نعش يُعبد في الزمن القديم لأنّ الإله السها، وقرينته عناق، يقيمان فيه عند لحظة محدّدة في العام.
تضييع التابوت
انطلاقًا من ذلك كله، يمكننا الآن فهم المصير الغامض لتابوت العهد. فقد ضاع هذا التابوتُ الأشدّ قداسةً، إذ استولى عليه الفلسطينيون وأخذوه إلى معبد الإله داجون في أسدود حسب القصة: "فأخذ الفلسطينيون تابوتَ الله وأتوْا به من حجر المعونة إلى أشدود. وأخذ الفلسطينيون تابوتَ الله وأدخلوه إلى بيت داجون وأقاموه بقرب داجون."(14) لكنّهم أعادوه بعد أن اكتشفوا أنّ الكوارث حلّت عليهم بسبب ذلك: "وأرسلوا وجمعوا كلَّ أقطاب الفلسطينيين وقالوا أرسلوا تابوت إله إسرائيل فيرجع إلى مكانه ولا يميتنا نحن وشعبنا."(15) والمفيد من هذه القصة الهوليووديّة أنّ داجون يتماهى مع الإله الذي يمثّله التابوت، ولولا ذلك لما وُضع في معبد داجون. وعلى كلّ حال، فقد أعيد التابوتُ إلى مكانه في الهيكل حسب سفْر الخروج: "وتجعل الحجابَ تحت الأشظة. وتدخل إلى هناك داخل الحجاب تابوت الشهادة، فيفصل لكم الحجاب بين القدس وقدس الأقداس. وتجعل الغطاء على تابوت الشهادة في قدس الأقداس."(16)
لكنْ إذا كان التابوتُ الأشدُّ قداسةً قد وُضع في أقدس مكانٍ في الهيكل، فكيف ضاع؟ يبدو أنّ صراعًا وقع بين دولة يهودا وكهنتها، وبين بني إسرائيل، حول مكان التابوت. والتقليد الأصليّ لبني إسرئيل هو أن يُحمل التابوتُ معهم، أيْ يظلّ خارج المعبد. وهذا ما تشير إليه، وبوضوح تام، إصلاحاتُ يوشيا، المعروضة في أخبار الأيّام الثاني: "... وقال للاويين الذين كانوا يعلّمون كلّ إسرائيل الذين كانوا مقدِّسين للربّ: اجعلوا تابوتَ القدس في البيت الذي بناه سليمانُ بن داود ملك إسرائيل. ليس لكم أن تحملوا على الأكتاف."(17) واضحٌ من هذا المقتبس أنّ مكان التابوت لم يكن في المعبد أصلًا، لكنّ سياسة الإصلاح كانت تريد إنزاله عن أكتاف بني إسرائيل ووضعه داخل المعبد. وهذا يعني في اعتقادنا أنّهم كانوا يريدون نزعَ الأداة الأشدّ أهميّةً من الناحية الرمزيّة من يد بني إسرائيل، ووضعها في المعبد تحت سيطرة كهنة دولة يهودا، اللاويين. فوجودُ هذه الأداة خارج السيطرة تؤدّي إلى دوام تماسك كتلة بني إسرائيل، وعلى الأخصّ القسم الموجود داخل مدن يهودا، ككتلة مميّزة وموحّدة. وهذا أمر شديد الخطورة على دولة يهودا وديانتها. الأمر، إذن، لا يتعلّق بطقس ديني ذي مترتّبات سياسيّة. وقد نجحتْ يهودا في تخليص التابوت من بين يديْ إسرائيل، ووضعتْه في الهيكل. وهكذا أرغم بنو إسرائيل على التخلّي عن تقليدهم القديم الذي يدينه الإصحاحُ الخامسُ في سفْر عاموس، أي حمل تابوت إلههم.
لكنْ يبدو أنّ هذا لم يحلّ المشكلة جذريًّا. فوجود التابوت في حدّ ذاته ظلّ يمثّل مشكلةً لدولة يهودا وسياسةِ الإصلاح، ولو كان مختبئًا في عتمة الهيكل، لأنّه يمثّل أداةً رمزيّةً لوجود بني إسرائيل كشرعةٍ دينيّةٍ خاصّة. ولهذا يبدو أنّ الأمر انتهى إلى تضييع التابوت. لقد "أضيع" كما "أضيع" مكانُ قبر موسى من قبل. ويبدو أنّ إضاعته جرت عبر عدة محاولات؛ ففي البداية زُعم أنّ الفلسطينيين سرقوه، في قصة مخترعة في أغلب الظنّ. لكنّ محاولة إضاعته واجهتْ ردَّ فعلٍ قويًّا، فأرغمتْ دولة يهودا والكهنة على إعادته إلى الهيكل. غير أنّ المحاولات استمرّت، وانتهت بنجاح محاولات تضييعه، وقد عهد سفْرُ المكابيين الثاني بمهمّة إخفاء التابوت وتضييعه إلى إرميا:
"ولمّا وصل إرميا وجد كهفًا، فأدخل إليه المسكنَ والتابوتَ ومذبحَ البخور، ثم سدّ البابَ. فأقبل بعضُ مَن كانوا معه ليَسِموا الطريقَ، فلم يستطيعوا أن يجدوه. فلمّا أُعلم بذلك إرميا لامَهم، وقال إنّ هذا الموضع سيبقى مجهولًا إلى أن يجمع اللهُ شملَ الشعب ويرحمَهم. وحينئذ يُبرز الربُّ هذه الأشياء."(18) لقد مَنع إرميا وضعَ علاماتٍ تتيح التعرّفَ إلى مكان التابوت، الذي كان عليه أن يختفي لأنّ ديانةً جديدةً ظهرتْ في يهودا، وهي لن تطيق وجودَ تابوت بني إسرائيل القديم لأنّه يشكّل خطرًا عليها وعلى الدولة التي ترعاها.
في كلّ حال، فعادةُ حمل تابوت الميت على الأكتاف قديمة جدًّا، وما زالت حيّةً عند المسلمين. لكنّ التابوت عند هؤلاء يُحمل على الأكتاف في الطريق إلى القبر فقط، أمّا عند بني إسرائيل فالأرجح أنّهم كانوا يحملونه فترةً طويلةً من السنة. وما دام حملُه مرتبطًا بالخروج والتيه، فإنّنا نفترض أنّهم كانوا يحملونه بعد خروج إلههم منه،
كان على التابوت أن يختفي لأنّ ديانةً جديدةً ظهرتْ في يهودا، وهي لن تطيق وجودَ تابوت بني إسرائيل القديم لأنّه يشكّل خطرًا عليها وعلى الدولة التي ترعاها. |
وذهابِه إلى خيمة البنات، حتى يعودَ من جديدٍ إليه في موعدٍ سنويّ محدّد. ومن خلال نصّ يوشيّا أعلاه، يبدو أنّ الكهنة هم من كانوا يحملونه؛ لكنْ يَغلب الظنّ أنّ بني هارون هم من كانوا يفعلون ذلك، لا اللاويين كما فهم بعضُهم من النص: "كثيرًا ما لاحظ المعلّقون غرابة التوجيه [توجيه يوشيّا بعدم حمل التابوت على الأكتاف]. فمن من غير الواضح إنْ كان يجب على القارئ أن يفهم أنّ مكان التابوت ليس هو المعبد، ولِمَ عليه أن يفهم ذلك. ويبدو أن هذا التساؤل خاطئ؛ فتركيزُ النصّ ليس على التابوت في الحقيقة... بل على تغيير مهمة اللاويين. فيوشيّا، ومن خلال توجيهه، ينهي مهمّة اللاويين في حمل التابوت تبعًا لأوامر داود في: الأيام الأول 23: 25-26."(19)
على العكس من ذلك، فإنّ أوامر داود وأوامر يوشيّا تقع ضمن سياسة الإصلاح ذاتها. ولو كان الأمر غيرَ ذلك لما كان ضروريًّا أصلًا أن يعيد يوشيا توجيهَ أوامر داود من جديد. وهذا يعني أنّ أوامر داود بشأن حمل التابوت ("ليس لللاويين بعد أن يحملوا المسكن وكل آنيّته لخدمته") متأخّرة جدًّا عن عصر داود المفترض. وفي الحقيقة يجب أن نفهم من النص أن يوشيّا يقول للاويين إنّه يجب عليهم عدمُ حمل التابوت كما كان يحمله بنو هارون من قبل. لقد انتهت مهمّة حمل التابوت، الذي خُبّئ في المعبد ولم تعد هناك حاجة إلى حمله. هكذا حلّ اللاويون محل الهارونيين، ونزل التابوتُ من الأعناق ليستوطن غرفةً في المعبد، قبل أن يجري تضييعُه نهائيًّا.
فلسطين
المصادر
1- أعمال الرسل 7: 42-43-
2- الكتاب المقدّس، دار الكتاب المقدس للشرق الأوسط، سفر عاموس 5: 26.
3- الخليل بن أحمد، العين.
4- الكتاب المقدّس، سفر الملوك الثاني 17: 30-31
5- الكتاب المقدّس، سفر عاموس 5: 25
6- الكتاب المقدّس، سفر التكوين 14: 18
7- ابن منكلي، أنس الملا بوحش الفلا، نسخة إلكترونية من: www.alwaraq.net
8- http://biblehub.com/commentaries/amos/5-26.htm
9- Steyn, Gert Jacobus, Trajectories of scripture transmission: The case of Amos 5:25–27 in Acts 7:42–43
http://www.hts.org.za/index.php/HTS/article/viewFile/2006/3832
10- ابن الكلبي، الأصنام، نسخة إلكترونية من: www.alwaraq.net
11- الزمخشري، أساس البلاغة.
12- ابن سيدة، المخصّص.
13- ابن منظور، لسان العرب.
14- صموئيل الأول 4: 1-2.
15- الكتاب المقدّس، سفر صموئيل الأول: 5: 11
16- الكتاب المقدّس، سفر الخروج 26: 33-34
17- الكتاب المقدّس، سفر الأيام الثاني 35: 1-3
18- سفر المكابيين الثاني 2: 5-8
19- Kenneth A, Restaurant Reading and Rereading Josiah: A Critical Study of Josiah in Chronicles (University of Alberta, 2005) , p 57.