...واستفاقت أوروبا من حلمها الساذج بأنّها تعيش في كوكبٍ آخر بعيدًا عن هذا العالم. ثلاثُ أزماتٍ ضربت "الحلمَ الأوروبيّ" في الصميم، فحوّلتْه إلى كابوس.
الأزمة الأولى هي الأزمة الاقتصاديّة التي عصفتْ باليونان وكادت تطيح اليورو ومفهومَ "الوحدة النقديّة الأوروبيّة." ولأنّ الاتحادَ الأوروبيّ بُني أصلًا على أساسٍ اقتصاديّ، وهو ما يزال في طور الطفولة سياسيًّا، فإنّ انهيارَ اليورو كان سيَتْبعه حتمًا تفكّكُ الاتحاد الأوروبيّ نفسِه.
الأزمة الثانية كانت تدفُّقَ مئات آلاف اللاجئين من سوريا والعراق وأفغانستان، وغيرِها من البلاد المنكوبة، إلى أوروبا برًّا وبحرًا، الأمرُ الذي أطاح اتفاقيّةَ دبلن الأوروبيّة التي تجبر اللاجئَ على طلب اللجوء في أوّل بلدٍ أوروبيٍّ تطأه قدماه. فوجهةُ اللاجئين هي البلاد المستقرّة والغنيّة في الشمال الأوروبيّ، لا المجرُ أو اليونان اللتان لا تستطيعان استيعابَهم أصلًا. كما بان جليًّا عدمُ وجود رؤيةٍ أوروبيّةٍ مشتركة لمسألة اللاجئين، والتباينُ العميقُ بين الدول الغربيّة والشرقيّة داخل الاتحاد. ناهيكم ببعد الاتحاد الأوروبيّ عن الواقعيّة؛ فهو يناقش خطّةً لتوزيع 100 ألف لاجئ بين دوله، في حين وصل عددُ اللاجئين إلى قرابة المليون.
وجهةُ اللاجئين هي البلاد المستقرّة والغنيّة في الشمال الأوروبيّ، لا المجرُ أو اليونان اللتان لا تستطيعان استيعابَهم أصلًا |
وبينما كان النقاشُ محتدمًا حول ملفّ اللاجئين، جاءت الأزمةُ الثالثة، ألا وهي هجماتُ باريس في الثالث عشر من هذا الشهر (نوفمبر 2015)، لتطيحَ التركيبة النفسيّة الأوروبيّة كليًّا.
***
أما الأزمة الأولى، فقد تمّ التغلّبُ عليها من خلال قيادةٍ ألمانيّةٍ قاسيةٍ وغيرِ متهاونة. أنجيلا ميركل هي مَن فرض ايقاعَ أزمة الديْن اليونانيّ، وهي مَن حَسم المعركة، وهي من قبِل تبعاتِ ذلك سياسيًّا وعلى مستوى العلاقات العامّة. ميركل قاسية،جشعة، غيرُ عادلة، مدافعة عن مصالح الكارتلات المصرفيّة، من وجهة نظر البعض؛ أو هي جدّيّة، مهنيّة، غير قابلة للابتزاز، من وجهة نظر البعض الآخر؛ لكنْ، وبغضّ النظر عن تقويم الطرفيْن، فقد خرجتْ ميركل، ومعها ألمانيا، من أزمة اليونان متربّعةً على عرش القيادة الأوروبيّة.
وأمّا في ما يخصّ الأزمةَ الثانية، أزمةَ اللاجئين، فقد أرادت ميركل مواصلة لعب دورها القياديّ، فأعلنتْ أنّ ألمانيا مستعدّة لاستقبال قرابة مليون لاجئ، ففاجأتْ بذلك أنصارَها وخصومَها على حدّ سواء. Wirschaffen das ("سوف نفعلها بنجاح") قالت المستشارةُ الألمانيّة، وهو شعارٌ انقسم من حوله الرأيُ العامُّ الألمانيّ والأوروبيّ: فاعتبر البعضُ ميركل ساذجةً، مفرطةً في الإنسانيّة، متسرّعةً، لا بل متواطئةً مع غزوٍ أجنبيّ يرتدي قناعًا إنسانيًّا؛ في حين اعتبرها البعضُ الأخرُ بطلةً من بطلات حقوق الإنسان ونصيرةً للمظلومين، ولقّبوها "ماما ميركل." وسرعان ما ظهر جليًّا أنّ معارضة الطرح الألمانيّ لا تأتي فقط من دول أوروبا الشرقيّة التي لم تزل في طور التدرّج في سلّم "القيم الأوروبيّة،" وإنّما من دول "المركز" الأوروبيّ بأسْرها.
فاستقبالُ ملايين اللاجئين المسلمين كان أمرًا لا تستطيع أيُّ حكومةٍ أوروبيّةٍ تمريرَه أمام رأيها العامّ، وخصوصًا في أجواءٍ تهيمن عليها مشاهدُ الفيديوهات التي يطالعها الجميعُ عن قطع الرؤوس وبترِ الأعضاء ورميِ البشر من فوق المباني وحرقِهم والتفنّنِ في التمثيل بهم. أوروبا التي تجتاحُها، منذ عقود، حُمّى الإسلاموفوبيا (رُهاب الإسلام) لن تَقبل باستقبال المزيد من المسلمين. أوروبا، التي تعجز إلى اليوم، عن استيعاب أنّ الملايين من المسلمين الذين وُلدوا وترعرعوا تحت سمائها هم مواطنون أوروبيّون؛ أوروبا هذه لن تكون قادرةً على النظر إلى اللاجئين المسلمين من منظورٍ إنسانيّ بحت.
لماذا شكّلتْ ألمانيا استثناءً عن هذه القاعدة؟ ربّما لأنّها تعلّمتْ من تاريخها المليء بالمهجّرين والتهجير؛ وربّما لأنّها ــــ تاريخيًّا ــــ لم تصطدمْ بالعالم الإسلاميّ بشكل مباشر. ألمانيا كانت دائمًا في صراع مع محيطها الأوروبيّ، ومشروعُها الاستعماريّ لم يتعدَّ بضعَ محاولاتٍ فاشلةٍ في أفريقيا الوسطى. أما باقي دول أوروبا الغربيّة فتاريخُها الاستعماريّ، وحاضرُ انخراطِها في الصراعات الدائرة في العالم الإسلاميّ، عاملان أساسيّان في رسم خطوط علاقتها العدائيّة بالإسلام والمسلمين.
ومن هنا جاءت ضربةُ باريس هذا الشهرَ قاصمةً ومؤلمةً لأوروبا كما تريدها ألمانيا، قويّةً ومتضامنةً ومن دون عُقد؛ وعزّزتْ خطابًا أوروبيًّا مذعورًا ومحارِبًا وكولونياليًّا. جاءت داعش إلى باريس مدفوعةً بحساباتها الجيوسياسيّة، وتنفيسًا لأزمتها الميدانيّة المتصاعدة منذ التدخّل الروسيّ في سوريا (وهو تدخّلٌ جرّ الأميركيَّ، بدوره، إلى المزيد من الجدّية في محاربة داعش في العراق). وهذه المرّة ضربتْ داعش باريسَ عشوائيًّا ومن دون تمييز، مستهدفةً عمومَ الجمهور الفرنسيّ، خلافًا لهجومها على شارلي إبدو في يناير الفائت حين ضربتْ أهدافًا "منطقيّة" (من وجهة نظر الجهاديين). ضربة داعش الأخيرة انتصارٌ لمفهوم "صراع الحضارات" الغربيّ، وانتصارٌ لنظيره: مفهومِ "الفسطاطيْن" الإسلامويّ. ولذلك كان ردُّ الرئيس الفرنسيّ هولاند هو تبنّي خطاب جورج بوش بشكلٍ يكاد يكون حرفيًّا.
داعش وأخواتها تحلم، بالدرجة الأولى، بمشروع بناء دولة الخلافة على الأرض العربيّة، وهو مشروعٌ يشبه المشروعَ الصهيونيّ. داعش، كصهيونيّة إسلامويّة، تحلم بنوعٍ من الهولوكوست الجديد، يكون ضحيّتَه المسلمون في أوروبا |
وبينما كانت ألمانيا تمسكُ بدفّة المبادرة، فتبدو مركل قائدةً تاريخيّةً عملاقةً بين أقزام من أمثال أوربان المجريّ أو دو ويفر البلجيكيّ المقرّبيْن من طرح اليمين المتطرّف، جاء هجومُ باريس الأخير فصمتتْ مركل، وانحسر نفوذُ الخطاب الألمانيّ، وأُعلنتْ حالاتُ الطوارئ في غير مكانٍ في أوروبا، وعاد التفتيشُ على الحدود، وانتشر الجيشُ في مئات الشوارع الأوروبيّة. "لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة": هذا هو المنطقُ السائدُ في أوروبا الآن. الحريّات العامّة تتقلّص، والإسلاموفوبيا تتضخّم لتخرج من قوقعة اليمينيّ المتطرّف وتتحوّلَ إلى خطابٍ شرعيٍّ "أخلاقيًّا."
***
وفي الوقت عينه، تبدو أوروبا مجتمعًا مذعورًا، منقسمًا على ذاته، ويحتوي على تناقضاتٍ قادرةٍ على تدميره. أوروبا التي لم تَفتحْ ملفّاتِها الاستعماريّة أصلًا لكي تستطيعَ إقفالها؛ أوروبا التي لم تستطع استيعابَ العلاقة العضويّة والمباشرة بين الاستعمار والهجرة، ولم تكن من ثمّ على استعدادٍ للقبول بشرعيّة الهجرة أخلاقيًّا وتاريخيًّا، وللتعامل مع هذه الهجرة إيجابيًّا بحيث تعيد النظرَ في الهويّة التاريخيّة الأوروبيّة من أجل جعلها قادرةً على استيعاب التعدديّة؛ أوروبا هذه عاجزةٌ عن كسب قلوب وعقول الملايين من شبابها المسلم، وشبابِها من ذوي البشرة الداكنة من غير المسلمين أيضًا. بل إنّ أوروبا تدخل اليوم مرحلةَ مواجهةٍ رسميّةٍ مع هذا الشباب، ومع هذه المجتمعات، من منظورٍ كولونياليٍّ داخليّ.
من المؤكّد أنّ داعش وأخواتِها تنتشي لتنامي ديناميّات الصراع داخل أوروبا ضدّ مسلميها وملوّنيها. ومن المؤكد أنّ داعش وأخواتِها تحلم باجتذاب أعدادٍ هائلةٍ من الشباب الأوروبيّ وبتجنيدِه في معركةٍ على الأرض الأوروبيّة. لكنّ داعش وأخواتها تحلم، بالدرجة الأولى، بمشروع بناء دولة الخلافة على الأرض العربيّة، وهو مشروعٌ يشبه المشروعَ الصهيونيّ. داعش، كصهيونيّة إسلامويّة، تحلم بنوعٍ من الهولوكوست الجديد، يكون ضحيّتَه المسلمون في أوروبا، ويؤدّي إلى هجرة الملايين منهم إلى كنف دولة الخلافة المزعومة. واليمين الأوروبيّ، بدوره، يحلم بحربٍ أهليّةٍ أوروبيّة تتيح له طردَ المسلمين.
مرةً جديدةً تتقاطع مصالحُ الفاشيست على مختلف مشاربهم. إلّا أنّ الأمل يبقى معلّقًا على وعي أوروبيّ ديموقراطيّ وإنسانيّ وأخلاقيّ معيّن، وعلى بعض القيم النابعة من دروس قاسية في التاريخ الأوروبيّ ــــ دروسٍ يبدو للأسف أنّ من تعلمها جيّدًا هم الألمان وحدهم.
بلجيكا
: