هذا الهواء الرطب لي (ملفّ)
29-05-2016

 

هل يصلح الشعرُ للحديث عن القضايا الكبرى والمصيريّة في حياة الشعوب؟ قد يمنحني هذا السؤالُ الإشكاليّ القدرةَ على الخوض في ما آلت إليه الأوضاعُ في سوريا، واستخدامَ مقولة محمود درويش، "هذا الهواءُ الرطبُ لي،" في الكلام على حالة الفوضى التي أنتجها التعاملُ الوحشيُّ من قبل النظام أوّلًا، ومَن والاه ودعمه سرًّا وعلانيةً ثانيًا، فضلًا عن المجتمع الدوليّ المنزوع الضمير ثالثًا.

وليس بخافٍ على أحد ما حلَّ في عموم سوريا من تقسيمٍ فرضتْه ظروفُ المعارك، وهو تقسيمٌ يفتقر إلى المشروعيّة القانونيّة والأخلاقيّة: ذلك لأنّه تمّ على أساس وضع اليد بقوّة السلاح، ما يجعله اغتصابًا واضحًا للحقوق والحريّات والحالة المجتمعيّة السوريّة التي تتفاخر، على مرّ العصور، بالتوافقيّة والتعايش المتداخل بين مكوّنات النسيج السوري. ويراد لهذا التقسيم ـــــــ وبدعمٍ دوليّ ربّما ــــــــ أن يحيل الدولة السوريّة الواحدة إلى مجموعة كانتونات، أو دويْلات صغيرة، تحت مسمّى فضفاض: "الفيدراليّة"!

وبغضّ النظر عن القوى الخارجيّة التي تعيد صياغة سايكس ــــ بيكو بروحٍ تتناسب ومتطلّباتِ العهد الحديث من التجاذبات الدوليّة، وبعيدًا عن نظريّة المؤامرة (التي قد لا تخلو من الصحّة)، فإنّ المجتمع السوريّ لا تنطبق عليه بحالٍ من الأحوال هذه الطروحاتُ المستوردة. ذلك أنّ طرح مشروع الفيدراليّة تمّ على شكل طعنةٍ في خاصرة الدولة المراد تحقيقها بعد التضحيات التي قدّمها الشعبُ السوريّ طوال سنوات ثورته اليتيمة. ولننظر في هذا الصدد إلى توقيت المشروع، وأسلوبه، والمنطقة التي أعلنتْ منه، والجهة التي أعلنته.

التوقيت: إنّه توقيت التكسّب من الظرف الراهن؛ توقيتُ طرحِ المحصول في السوق قبل أوان نضجه، طلبًا للربح القائم على أساس الأسبقيّة. قال لي أحدُ مندوبي "برنامج فرض تعليم اللغة الكرديّة": "يا أستاذ هذه الخطوة ستأتي في كلّ الأحول. ولأنّها كذلك، فإنّنا نعمل على الخلاص منها ومن بقية الخطوات الأوّليّة ما دامت الظروفُ مواتية."

الأسلوب: في نظرة سريعة إلى "توزّع" القوى، نجد أنّ الجمهوريّة العربيّة السوريّة مقسّمة فعليًّا، انطلاقا من واقع ظاهرة "وضْع اليد." لكنّ قسمًا من السوريين يَعتبر بقاءه فيها ضامنًا للعودة إلى سوريا واحدةٍ. وهناك قسمٌ أعلن دولته، التي تفتقر إلى أدنى درجات الحياة ومتطلباتها؛ لذا فزوالُها أمر محتوم، ولكنّه مسألة وقت. أمّا القسم الثالث، فقد أعلن التقسيمَ انطلاقًا من فكرة الفيدراليّة كنموذج حكم؛ غير أنّ هذا الطرح تمَّ تحت سطوة السلاح، فهو إذًا طرحٌ ميليشياويٌّ يتبنّى مقولة درويش: "هذا الهواءُ الرطبُ لي"؛  فكأنّه يقول: أنا سيّد المكان الآن، والشاهدُ الوحيدُ هو الرصاصة.

ومع ذلك لا يفوتني التنويهُ بالمسرحيّات الهزليّة التي تمّت بين الحكومة "غير الشرعيّة" بناءً على تصريحات كثيرة، وبين قيادات الحزب الكرديPYD  المُفرَج عنها "إعلاميًّا" لتأدية دورها. فقد استطاعت بقوّة السلاح الوحيد ـــــــــ إلى جانب سلاح النظام ــــــــ أن تخمد جذوةَ الثورة في مناطق نفوذها، وأن تجعل تلك المناطق في حالة "مساكنة" مع النظام. والكلّ يعلم بوجود رجل النظام، علي مملوك، هناك، وبمباركته إعلانَ فيدراليّة المناطق "الكرديّة." هذا الإعلان، إذن، هو عبارة عن ورقة لعب وضغط مخابراتيّة، من وجهة نظر النظام؛ وهو خطوةٌ باتّجاه الحلم المنشود، من وجهة نظر غلاة الأكراد.

المنطقة: وهذا الجانب ربّما هو مربط الفرس. فإعلان الفيدراليّة بناءً على التوزّع العرقيّ أو القوميّ أو الطائفيّ إعلانٌ عن مجازر تطهير عرقيّ كثيرة لكي يصبح الشكلُ المنشودُ واقعًا. فمن المعروف أنّ المناطق التي أَعلنتْ فيها ميليشيا صالح مسلم الكرديّة عن جهوزيّتها لتكون مناطقَ إدارةٍ ذاتيّةٍ كرديّة، تمهيدًا لفدرلة سوريا، لا يشكّل الأكرادُ فيها غالبيّةً عدديّة، ما يعني ـــــــ وقد تمَّ ذلك فعليًّا في بعض القرى ـــــــــ العملَ على تهجير باقي المكوّنات الموجودة على الأرض.

الجهة المُعلِنة: إنّ إعلان الفيدراليّة من قِبل ميليشيا استحوذتْ على مناطقَ واسعةٍ، بمعيّة النظام وداعميه الدوليّين والإقليميّين، يُظهر ما لتلك الجهة من دورٍ مشبوه. فطريقة الاستلام والتسليم التي تمّت بين النظام و"قوّات حماية الشعب الكرديّة" في مناطق نفوذ الأكراد حاليًّا تشبه، إلى حدٍّ كبير، طريقةَ الاستلام والتسليم بين النظام وتنظيم داعش. واللافت أنّ داعش و PYD هما اللذان طرحا التقسيم: الأوّل على شكل دولة مقتطعة بلغةٍ صريحة؛ والثاني على شكل دولةٍ مُبتغاة، ولكنْ بلباس سياسيّ قانونيّ مراعاةً للشكل الحضاريّ الذي تطمح "قوات حماية الشعب الكرديّ" إلى تمثيله لكسب مشروعيّة وجودها.

وبالنظر إلى الواقع السوريّ نجد أنّ طرح الفدراليّة هنا لا يأتي بالمعنى السياسيّ والقانونيّ الذي تنتهجه دول كثيرة في العالم. كما أنّه ــــ بهذه المعطيات على الأقلّ ــــ لن يشكّل حلًّا أو مدخلًا لحلٍّ طويلِ الأمد، لأنّه يتمّ انطلاقًا من تقسيم الجغرافيا السوريّة على أساس عرقيّ وطائفيّ، لا على أسس سياسيّة وطنيّة؛ وذلك عنوان واضح للتقسيم.

وبالعودة إلى العنوان الذي اقترحتُه لهذا الاستعراض المبسّط لواقع الحال تجاه الفيدراليّة المطروحة، أستطيع تفريغه من دفقته الشعريّة بأن أسمّيَ "الهواء الرطب" باسم جديد، "التراب الرطب" مثلًا: التراب الذي لن تفارقه رطوبةُ الدماء السوريّة ولزوجتها. كما أستبدلُ لفظة "لي" بجملة طويلة من الحديث عن سلب رغبة شعب كامل، وسرقة حلمه، وطموحه بدولة عصريّة تحترم الإنسان لإنسانيّته، بعيدًا عن كلّ التقسيمات الإثنيّة. "لي" تعني في الحالة السوريّة الراهنة: أنا السيّد القويّ الذي يملك قوّة الرصاصة، والوحيد المخوّل برسم الحدود الجديدة؛ وربّما من المنصف أن نقول إنّها رغبة ملوك الطوائف وأمراء الحروب.

ألمانيا

فايز العباس

شاعر وكاتب من سورية مقيم في ألمانيا. مجاز في اللغة العربيّة وآدابها. صدر له ديوان شعريّ: فليكن موتي سعيدًا.