أظهرتْ موجةُ اللجوء غير المسبوقة التي تعرّضتْ لها أوروبا في صيف العام 2015 ردّاتِ فعلٍ متطرّفةً لدى بعض دول الاتّحاد الأوروبيّ، إلى درجةِ أنّ بعضَها الناشئ اعتبرها تهديدًا لوجهِ أوروبا المسيحيّ مع ظهور "حركاتٍ متطرّفةٍ" تنتشر بين الأوروبيّين، ومنها حركةُ "بيغيدا" التي تبثُّ المخاوفَ من "أسلمة" أوروبا. وليس بعيدًا عن مثل هذه الحركات المتطرّفة تصريحُ رئيس الحكومةِ المجريّة ورئيسِ جمهوريّة التشكيك أنّ "تدفّقَ اللاجئين على أوروبا يهدّد بتقويض الجذورِ المسيحيّة للقارّة،" وإعلانُ رؤساء بعض بلديّات فرنسا وبعض المسؤولين في سلوفاكيا وبولندا رغبتَهم "في استقبال اللاجئين شرطَ أن يكونوا مسيحيّين."
ضمن هذا السُعار الدينيّ، كشفتْ دراسةٌ أصدرها المجلسُ المركزيُّ للمسلمين في ألمانيا أنّ الطائفةَ المسلمة في أوروبا ستشهدُ نموًّا على نطاقٍ غير مسبوقٍ نظرًا إلى كون أكثر من 80 في المئة من نحو 800 ألف طالبِ لجوءٍ يُتوقَّع وصولُهم إلى ألمانيا مع نهاية العام 2015 هم من المسلمين. وهو ما يطرح تساؤلاتٍ جديّةً عن حال الديمغرافيا الأوروبيّة بعد جيلٍ أو جيلين.
اللجوءُ الكنسيُّ
يتوهّم كثيرون أنّ المخاوفَ الأوروبيّة من "أسلمة أوروبا" ستجعل الغربَ يلهث وراء استقطاب من لم يهاجرْ من مسيحيّي الشرق بهدف تفريغ المنطقة منهم، لكن هذه الفكرة سقطت اليوم. فمن الواضح أنّ الغربَ لا يهمُّه من الشرق مسيحيّوه أو أقليّاتُه، بل استثماراتُه والمجموعاتُ البشريّةُ التي يمكن أن تحقّقَ له أفضلَ عائدٍ من تلك الاستثمارات.
يتندّر المسيحيّون الشرقيّون في أوروبا من أنّ اللاجئ المسلم يمكن أن يحصل على اللجوء قبل المسيحيِّ بشهور؛فبعيْد رفض السلطات طلب لجوئه يلجأ إلى أقربِ كنيسةٍ ويلتحق بالمسيحيّة،فيصير تحت حماية الكنيسة إلى حين حصوله على "حقِّ اللجوء الكنسيّ" الذي يؤمّن له الإقامة الشرعيّة خلال سبعة أشهر، وذلك خوفًا عليه من "حدِّ حكم الردّةِ في الإسلام" ــــــــــ أي القتل ــــــــــ إذا ما تمّ ترحيلُه إلى بلاده. وفي المقابل، طلب العديدُ من المسيحيّين الشرقيّين، ومنهم مسيحيّون سوريّون، مساعدةَ الكنيسة لتسريع إجراءاتِ لجوئهم، لكنّها اعتذرتْ عن التدخّل في شؤون الحكومة!
اللجوء السياسيّ
أوروبا اليوم في مهبِّ عواصف أمنيّة نتيجةً للتدخّل الفاعل في المأساة السوريّة. لكنّ سرطان التطرّف الدينيّ ما كان لينتشر لو عولج سرطانُ التطرّف السياسيّ؛ فغزوُ اللاجئين لأوروبا سلّط الضوءَ على المشكلة الحقيقيّة، ولا يجوز ــــ على المستوى الدوليّ ــــ أن تُختصر خمسُ سنوات من الصراع السوريّ الدامي والمدمّر في قضيّتين: اللاجئين وداعش.
من الواضح أنّ الغربَ لا يهمُّه من الشرق مسيحيّوه أو أقليّاتُه، بل استثماراتُه والمجموعاتُ البشريّةُ التي يمكن أن تحقّقَ له أفضلَ عائدٍ من تلك الاستثمارات. |
لقد نسي العالمُ أنَّ السوريين خرجوا إلى الشوارع قبل خمسة أعوام يطالبون بالحريّة وبالخلاص من سطوة المخابراتِ وقمعها، مطالبين النظامَ بالرحيل أملًا في نظامٍ أفضل، لكنّهم كانوا هم مَن رحلوا عن بيوتهم ووطنهم وباتوا لاجئين أو نازحين؛ أمّا من رفضوا الخروجَ وقرّروا المواجهة فقد انضمَّ أغلبُهم إلى الأطراف الأقوى من المتشدّدين والمتطرّفين، لا حبًّا بهم، بل طلبًا للثأر بعد أن دُمّر كلُّ حراكٍ مدنيّ. هكذا أصبح المشهدُ العامُّ في سوريا مأساويًّا يأكله التطرّفُ، إذ من يتقاسم البلدَ اليوم هم من المتشدّدين أو الشبّيحة، وكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة؛ أمّا باقي الناس فكثيرون منهم اختاروا بلادَ اللجوء هربًا من جحيم الموت والدمار. لكنْ بدلًا من عرض هذه الصورة الحقيقيّة، أصبحت قضيّةُ العالم هي كيف يواجه خطر داعش وأخطار تدفّق اللاجئين على أوروبا.
أمّا بالنسبة إلى تسهيل أوضاع اللاجئين في دول أوروبا، فالأمر ليس موقفًا إنسانيًّا دائمًا. فبالنسبة إلى ألمانيا مثلًا قد تبدو الهجرة حاجةً ملحّةً بعد أن أعلن المكتبُ المركزيُّ للإحصاء سنة 2007 أنّ نسبة التزايد السكانيّ استمرَّت بالانخفاض رغم التشجيع الحكوميّ على الإنجاب؛ وهو ما يشي بأنّ عددَ السكان هناك سيتراجع بواقع 10 ملايين نسمة مع حلول العام 2050، وستزداد نسبةُ المسنّين، وسيكون نصفُ السكان فقط في سنّ العمل، وسيكون هؤلاء هم وحدهم من سيدفعون الضرائب، الأمرُ الذي ستكون له تداعياتُه على الاقتصاد ونموّه.
لكنّ أوروبا، بشكل عامّ، فشلتْ في دمج المهاجرين السابقين في مجتمعاتها. ومن يقومُ بالأعمال الإرهابيّة هناك هم من أبناءِ الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، الذين يُفترض أن يكونوا قد نشأوا على القيم الديمقراطيّة الأوروبيّة، وبشكلٍ خاصّ على أفكار المساواة واحترام الإنسان وحقوقه، بعيدًا عن اللون والعرق والدين. لقد عجزت أوروبا عن توفيرِ أسسِ اندماج المهاجرين واللاجئين في مجتمعاتها، ومن أسباب ذلك البيروقراطيّةُ المرعبةُ التي تنتشر في أجهزة الدولة، وعدمُ قدرتها على تطوير آليّاتِ التعامل معهم بسرعةٍ تتناسب مع هذا الضخّ البشريّ.
التفكيكُ والتركيبُ إيقاعُ التاريخ
قبل نحوِ قرنٍ من الزمن، اجتمعت القوى الكبرى لتقاسُم ثروةِ "الرجل المريض،" المنهكِ تحت وطأة الانشغال بالحروب الجانبيّة والمشكلاتِ الداخليّة. وكان أفولُ زمن السلطنة العثمانيّة، مع امتلاكها الثروةَ الهائلة التي جمعتها على مدى ما يقارب 500 عام ،متزامنًا مع صعود قوًى أوروبيّةٍ إلى الساحة العالميّة ترى السلطنةَ لقمةً سهلةً يسيل لها لعابُها (قليلون ربّما يذكرون أنَّ قيصرَ روسيا نيكولاي الأول هو من أطلق سنة 1853 لقبَ "الرجل المريض" على الدولةِ العثمانيّة، وهو الذي دعا بريطانيا إلى الاشتراك معه في اقتسام أملاك الدولة). واليوم نسمع كثيرًا من العناوين التي سادت في تلك الفترة، ولعلَّ أبرزَها ــــــــ وهو يحاكي لقبَ "الرجل المريض" ـــــــــ لقبُ "القارّة العجوز" التي كانت فتيّةً قبل مئة عام واقتسمتْ تركةَ "الرجل العثمانيّ المريض" بالتعاون مع روسيا ولكنّها تبحث اليوم عن تجديدِ شبابها بالمهاجرين.
كثيرون قد لا يحتملون فكرةَ أنّ التاريخَ يمكن أن يعيدَ نفسَه مع الاتّحاد الأوروبيّ الذي قد يلاقي مصيرَ الدولة العثمانيّة ذاتَه. لكنّني أظنّ أنّ الهدفَ المقبل بعد تفكيكِ الشرق (سوريا والعراق...) هو تفكيك أوروبا التي حكمت العالمَ قرونًا طويلةٍ، واستطاعت أن تخلقَ وحدةً يصعب تخيّلُ تحقّقها مع اختلافِ اللغات والقوميّات والثقافات. غير أنّ هذه القارّة التي تحررتْ من سطوة رجال الدّين بصعوبة، وخرجتْ قويّةً من حروبٍ دينيّةٍ دمويّة، وعلّمت البشريّةَ مبادئَ المساواة والحريّة والديمقراطيّة، لا تتصرّف اليوم، وهي "القارّة العجوز،" بحكمةِ الشيوخ مع ما يواجهها من تطوّراتٍ دراماتيكيّةٍ غير مسبوقة ــــ أكان ذلك على صعيد أمنها الداخليّ ( في مواجهة تنظيمٍ مشبوهٍ وليدٍ اسمُه داعش)، أمْ على صعيدِ ملفِّ الهاربين إليها من جحيم الموتِ والدمار في سوريا والعراق ودولٍ أخرى.
في علم "الكايوس أو الفوضى" مبدأٌ اشتهر بتسميته "أثر جناح الفراشة،" يقول إنّ رفّةَ جناحِ فراشةٍ فوق بيكين تستطيع أن تغيّرَ نظامَ العواصف فوق نيويورك! ويمكن البناءُ على هذا المبدأ بفكرةٍ بدأتْ تتّضح تداعياتُها على الأرض، تقول: إنّ رفّةَ جناح فراشةٍ فوق سوريا يمكن أن تغيّرَ وجهَ أوروبا، أنظمةً ومبادئَ طالما تفاخرتْ هذه القارّةُ بريادتها لها.
ما يجري اليوم في العراق وسوريا، اللذين شهدا بزوغَ الحضارة البشريّةِ قبل آلاف السنين، ويُحتضران اليوم ويتداعيان كـ"الرجل المريض" أمام سرطانٍ زُرع فيهما واصطُلح على تسميته بـ"داعش،" يشي بأنَّ الأمور لن تبقى ضمن هذا الحيّز الجغرافيّ، وأنّ السرطان سيصلُ إلى "قلب" أوروبا، وأنّ ما يجري اليوم مجرّدُ بروفاتٍ لقادمٍ دمويٍّ سيّئ.
لماذا تفكيك أوروبا، ومن يستطيع ذلك؟
مثلما أثارت ثروةُ الرجل المريض شهيّةَ روسيا وبريطانيا وفرنسا في القرن الماضي، فإنّ ثروات أوروبا التي كانت "خازن دار" ثروات الاستعمار القديم، يسيلُ لها لعابُ روسيا وأمريكا وربّما القوى الصاعدة التي ستقضي على العالم الأحاديّ القطب.
في جمهوريّةِ أفلاطون الطوباوية يحكم الشيوخُ الجمهوريّةَ لأنّهم يتمتّعون بالحكمة بعد أن خبِروا في شبابهم ساحاتِ الصراعات والحروب. لكنّ أوروبا اليوم مضطربةٌ خائفة، تفتقد الحكمة والرؤية الإستراتيجيّة، وتدور بين رحى حقديْن مدمِّريْن؛ حقدِ اليمين المتطرّف الإسلاميّ، وحقد اليمين المتطرّف الأوروبيّ. فإنْ لم تنتبه إلى أنّ "قذفَ" اللاجئين الشباب في رحمها هو إكسيرُ تجديدِ شبابها، ولم تتمكّن من استيعابهم ودمجهم في المجتمع، فستجدُ نفسها في مواجهةٍ صادمةٍ مع كثيرين منهم. فهؤلاء المهاجرون هربوا من القمع والإرهاب، وعندما يُغلَقُ في وجههم البابُ الأخيرُ الذي وصلوا إليه بعد أن واجهوا الموتَ فلن يكونَ أمامهم سوى دفاعٍ مستميتٍ عن أنفسهم وعن عائلاتهم، وسيقفون أمام خيارين أحلاهما مرٌّ: التقوقع حول أنفسهم، أو الانضمام إلى جماعاتٍ قويّةٍ متطرّفة تحميهم من ردّات الفعل العنيفة التي يمكن أن يدفع اليمينُ المتطرّفُ الشارعَ الأوروبيَّ إلى اتّخاذها مستقبلًا.
هولندا