الساعة الواحدة ظهرًا، تشرين الثاني.
ما إنْ تراءت له المدينةُ من نافذة الباص العموميّ، حتّى قفزتْ إلى السطح كلُّ الذكريات التي ظنّها منسيّةً.
"عشرون عامًا من الغياب مرّت بسرعة البرق،" قال الرجلُ الخمسينيُّ لنفسه.
ــــ أظنّك أتيتَ كي تتطهّر.
قالت الشابّة التي تجلس إلى جواره، وكأنّها سمعتْ داخله.
أجابها من دون أن يلتفت نحوها:
ـــ تستطيعين العودة.
زمّت شفتيْها باستياء، ثمّ قالت بحزم:
ـــ لن أعود. أشتهي رؤيتك وأنت تتألّم!
لا يدري لماذا تصرُّ على معاقبته، ودفعِه دائمًا إلى الشعور بالذنب. ألا يكفيها ما فعلتْه به سنواتُ الغربة والتشرّد؟! كلّما نظر في عينيها رأى الحقدَ وشهوةَ القتل يَرْشحان منهما، وتذكّر كيف رافقه البؤسُ وسوءُ الحظّ منذ لحظة ولادتها.
الرجل الخمسينيّ والشابّة، المتوجهّان نحو مقبرة المدينة، يبدوان كأبٍ وابنتِه في عيون الآخرين. كان ـــــــــــ لها ـــــــــــــ احتمالَ أبٍ سيّئٍ وغبيّ في تربية الأطفال، وكانت ــــــــــ له ـــــــــــ مشروعَ عاهرةٍ.
"المارّة جميعُهم أولادُ حرام،" انبثقتْ هذه الفكرةُ الخبيثةُ في رأسها، ثم جرت مع مكوّنات الدم من خيانة ولامبالاة، حتّى وصلتْ إلى الـــــ DNA الخاصّة بها. أرادت لصوتها أن يخرج قويًّا، لكنّه كان ضعيفًا ويشوبه الحزن.
ــــ لماذا...؟
لم يشفقْ عليها. على العكس، راودته رغبةٌ ملحّة في أن تكمل سؤالها "لماذا قتلتَها؟" لتعطيه سببًا للبوح بكلّ شيءٍ في وجهها، داخل الباص، ووسط المدينة التي يَشكُّ في عفّتها.
يغرق في صمته، وينشغل في وصف ما يتراءى له من صور تمرّ سريعًا في رأسه: رضيعٌ مُلقًى عند باب الجامع. امرأةٌ عاقر تمرُّ بالمصادفة، تلفّهُ بخرقتها وتهرب به إلى بيتها. جثّةُ خمسينيّ في مقبرة، ما زالت طازجةً، ويشتهيها قبرٌ مفتوحٌ،...
قَطعتْ عليه أفكاره حين قالت من دون سابق إنذار:
ـــ اُنظر، اُنظر، تبدو المقبرة حديقة ورد.
ـــ لا إنّها ليست كذلك، ولن تكون.
ـــ أكرهك.
ــ أعلم.
وأكملَ في سرّه ما خشيَ أن يجهر به: "كان عليّ أن أقفلَ رحمَها بقفلٍ معدنيّ، حتّى تموتي اختناقًا وجوعًا." ثم أضاف: "الضحك والهزَل والمرح ثلاثة أشياءَ يملكها الأطفالُ ولا أملكها، يحوّلون بها العالم إلى مادّة كوميديّة."
يُعاند ويُغالي في الجدّ واللاسخرية، برغم ما يُخفي داخله من التهتُّك سرًّا، وما جنتهُ يداه من الخطايا. يُغالي ويقول: "لماذا يأتون بالأطفال إلى هذا العالم؟" تستفزّهُ، محاولةً الحصول على جوابٍ واحدٍ، لكنْ عبثًا.
ـــ كيف كذّبتني؟
يردُّ عليها بقسوة: "مثلما يقول الأهل لأولادهم حين يُسألون عن كيفيّة مجيئهم إلى الحياة، اشتريتُكَ من السوق."
"اشتريتُك من السّوق،" تُلخّص كلّ هذه التفاهة.
فلسطين