كاتب وباحث وإعلاميّ تونسيّ من مواليد سنة 1980. له مجموعتان قصصيّتان أزياء لقصائد السّيّدة سين (2014)، وكأن أمضيَ خلف جثّتي (2016). وله كتاب أكاديميّ بعنوان الفكر الكاثوليكيّ المعاصر والآخر (2016).
ــــ السيّد الرّئيس، تأكّدْنا، بما لا يدع مجالًا للشكّ، من أنّك حامل!
قالها طبيبُ القصر الجمهوريّ، وقد وقف وجلًا تتنازعه الوساوسُ وتعصف به الشّكوك. غير أنّه كان مقتنعًا بنتيجة التحاليل الطبّيّة الّتي أُعيدت ثلاث مرّات، واستغرقت يومين كاملين، ثمّ انتهت إلى النتيجة نفسها.
ولمّا لاحظ فغورَ أفواه المستشارين والوزراء، وجحوظَ عيني السّيّد الرئيس، تابع بثقة:
ــــ لم يعد استبعاد نتائج التحاليل ممكنًا.
***
كانت الأعراض قد ظهرت على السيّد الرئيس منذ أشهر، حين كان يلقي خطابًا في باحة القصر بمناسبة ذكرى الثورة. فبينما كان يمجّد شهداءَ الوطن، داهمه قيءٌ مفاجئ. اصفرّت ملامحُه، ونزّ منه عرقٌ بارد. انقطع البثّ المباشر، وأذاع مخرجُ الحفل أغنيةً وطنيّةً: "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان." وتسلّل صوتُ جوليا عبر موجات الراديو: "نحنا الثورة والغضب، نحن أمل الأجيال."
وفي حين اندفع الوزراءُ والمستشارون وكتّابُ الدولة وسفراءُ الدول الشقيقة والصديقة والموظّفون نحو السيّد الرئيس يحملونه إلى طبيب القصر يفحصه، لم يفهم أحدٌ من الناس ما جرى:
ــــ كبر السيّد الرئيس ولم يعد يستطيع إلقاء خطاب واحد!
ــــ يا للفضيحة! صار القصر مأوى للعجّز!
ــــ هذا إيذان باندحار الإمبرياليّة...
ــــ لقد قلنا منذ البدء إنّنا محتاجون إلى رئيس شابّ يتّقد حيويّة ويحقّق أهداف الكادحين، فإذا بقطعة لحم نتنة عمرُها أقدمُ من الكرة الأرضيّة تحكم البلاد بأصابعَ مرتعشة.
وحين كان الطبيب يجري فحوصاته ويقارن ويحلّل ويشخّص، كان التلفزيون الرسميّ يعرض فيلمًا كرتونيًّا يروي قصّة ذئبٍ تزوّج نعجةً، فأنجبا بغلًا وبقرةً وبندقيّةً ذات شعرٍ أصفر وعينين سوداوين.
أمّا مذيعة النشرة المسائيّة فكانت تقرأ التقرير وملامحُها تفضح حيادها المزعوم:
"ذكر الناطق الرسميّ باسم القصر الجمهوريّ أنّ آلامًا حادّةً قد باغتت السيّدَ الرئيس وهو يلقي خطابَه في ذكرى الثورة. وقال المصدر ذاته إنّ الآلام عابرة، ولن تمنع السيّد الرئيس من مواصلة مهامّه في رحلة الذود عن الوطن وضمان الحرّيّة والكرامة. وكان السيّد الرئيس قد تعرّض صباح اليوم لوعكة صحّيّة مفاجئة منعته من إتمام مراسم الاحتفال بذكرى الثورة في القصر الجمهوريّ، ما تسبّب في حيرة بالغة لدى الحضور. يُذكر أنّ جموعًا غفيرةً من المواطنين قد توافدتْ منذ سماعها الخبر إلى القصر الرئاسيّ للاطمئنان إلى صحّة السيّد الرئيس."
أطفأ أحد مستشاري الرئيس التّلفاز، وقال:
ــــ السيّد الرّئيس، علينا أن نقبل بالأمر الواقع. ويجب أن نبحث عن حلّ منطقيّ يسلّم بما حصل، ويتّخذ الإجراءات الملائمة قبل أن يفوح الخبر.
وقال آخر في حماسة:
ــــ الأيدي تتربّص بنا، والعيون تتعقّب كلّ كبيرةٍ وصغيرةٍ تدور داخل القصر.
كان السيّد الرئيس ممدّدًا على بطنه غارقا في التفكير. لم يحدث هذا منذ زمن نوح، فلِمَ هذا الحظّ المنكود؟! ماذا صنعتُ يا إلهي؟ لم تبقَ غير أيّام معدودات وتحصل الكارثة!
نطّ وسط القاعة فجأةً. تأمّل وجوهَ الوزراء والمستشارين برهةً، ثمّ قال:
ــــ هيّئوا الأذهان لتقبّل الأمر! جنّدوا الإعلام لهذه المهمّة.
قال مستشارٌ أوّل:
ــــ علينا بخبراء ومحلّلين.
قال مستشارٌ ثانٍ:
ــــ نرسل في البلاد قوافلَ توزّع الخبز، وتزرع في الأذهان احتمال حصول أمرٍ غريبٍ في القصر الجمهوريّ!
قال مستشار ثالث:
ــــ لا غرابة في الأمر! لنسمّه معجزة!
وقال وزير أوّل:
ــــ إنّها معجزة بالفعل!
قال وزير ثانٍ:
ــــ لا تتحفّظوا عن الأمر. إنّه معجزة حقيقيّة!
***
في الأيّام التالية، أصبح الخبر في القصر الجمهوريّ يقينًا ثابتًا، فاتّقد النشاط في الأروقة. كان الجميع يتحرّك بخفّة، باستثناء السيّد الرئيس الّذي أثقل الحملُ ظهرَه وقد انتفخ على غير عادة. وبينما كان فريق طبّيّ يسهر على تأمين ولادته، كان فريقٌ آخر يزيّن القصر بأبهى حلّة من الشّرائط والبالونات الملوّنة والأضواء. وسافرتْ مئاتُ القوافل في أنحاء البلاد تحدِّث الناسَ عن كائن أسطوريّ قد يخرج من القصر الجمهوريّ خلال أيّام. وراح المحلّلون والخبراء والمنجّمون وقرّاءُ الأكفّ يملأون الشّاشات مؤذنين بقرب حصول معجزة في القصر. أمّا أهل البلاد، فقد تقبّلوا الأمر بشيء من الريبة أوّل الأمر، ثمّ صار خبرُ "الكائن الأسطوريّ" حديثَ كلّ مجلسٍ في القرى والمدن.
وفي كلّ يوم يصل فيه السّيّدَ الرّئيسَ تقريرٌ مفصّلٌ عن الجهود التي تقوم بها اللجان، يبدي سخطه على إذاعةٍ لم تستعن بخبيرٍ قدير، أو على محطّةٍ تلفزيّةٍ لم تستنجد بعرّافٍ بارع، ويقلّل من شأن آلاف الحسابات الفايسبوكيّة التي زرعتها اللّجانُ في ساعة وراحت تروّج للخبر المنتظر. لم يكن السيّد الرئيس راضيًا تمامًا عمّا يحصل، غير أنّه يطمئن نفسه بردود الفعل الإيجابيّة التي تحقّقت.
***
لو نطق السيّد الرئيس في تلك الأثناء لأفصح عن الإزعاج الذي يسبّبه له ذلك البطنُ الخلفيُّ العجيب، الذي امتدّ وراء ظهره، وكبر حتّى تدلّى على مؤخّرته. ولو كان لآلامه أن تتجسّد لانتشرتْ أطفالًا حفاةً عراةً يتامى شرّدتهم الحروب وتفرّقوا في الصحارى يقتلهم الجوعُ والظّمأ. غير أنّه تحمّل كلّ ذلك، وقابل المعاناة بلامبالاةِ مَن لم يعد أمامه ما يخسره. ولمّا أسرّ إلى الطّبيب بأنّ عموده الفقريّ، الّذي دفعه البطنُ فتقوّس، يكاد ينشطر نصفين، طمأنه إلى أنّ الرّحم لم تنبت في مكانها الطّبيعيّ بل من العمود الفقريّ. ورجّح أنّ الولادة ستكون شرَجيّةً، وإلّا فإنّ الفريق الطبّيّ قد جهّز الخطّة ب: الولادة القيصريّة.
***
فيما كان رجال القصر منهمكين في إعداد العدّة، كان السيّد الرئيس يستنشق هواءَ الفجر في شرفته، ويتحرّك من حين إلى آخر حاملًا على ظهره بطنًا لا يدري ما فيه، ولكنّه يدري أنّه يؤرّقه ويُثقل ركبتيه ويكاد يعصف بمفاصله.
تلوح في ذهنه ذكرياتُ لياليه مع ذلك الشبح، فيمتلئ حنقًا، ويرى غضبَه نارًا تجوب البلاد، وتخطف الشبحَ من كهفه، فتحرقه في باحة القصر أمام عينيه. ولكنّه، آنَ يتذكّر لحظاتِ اللذّة التي قضاها معه في الحجرة الخلفيّة من القصر، تصيب ركبتيْه رعشةُ طرب، فيجد بعضَ العزاء. أتنسى وحوحاتك أمامه؟ ألم تكن تعلم أنّ لكلّ لذّةٍ ثمنًا؟ صحيح أنّ الثمن كلّفك غاليًا هذه المرّة يا فخامة الرّئيس، غير أنّك ستكون صاحبَ معجزة لم يحظ بها سواك، فابتسمْ ولا تقنط، عسى أن يكون المولودُ كائنًا يبدّل وجه الأرض. أمّا الشبح، فلا جناح عليه ولا جرم ولا لوم، ألستَ أنتَ من دغدغته ومازحته وأغريته؟ ألم يدفعْكَ بلطفٍ بعيدًا عنه ويحوقل في البدء؟
هكذا كان خيالُ السيّد الرئيس يخاطبه، والوساوسُ تتنازعه. بيد أنّه كان راضيًا عن نفسه مادامت الأعباءُ التي يحملها على ظهره أعباءَ الآخرين. بل إنّه كثيرًا ما كان يقف أمام المرآة، فيرى نفسه ذلك النبيَّ الذي يحترق من أجل خلاص البشريّة الغارقة في خطاياها، فيسعد قلبُه، وتسري في أحشائه طمأنينةٌ تطربه، فيتأمّل الحنّاءَ على يديه وقدميه، ويعدّل الكحلَ في عينيه، ثمّ يرمي قطعة سواك في فمه استعدادًا ليوم الولادة.
***
وذات يوم علا الصياحُ في أرجاء القصر، وكثرت الأوامرُ من هنا وهناك، وأعلن الحرسُ النفيرَ العامّ في القصر الجمهوريّ، ووقف الفريقُ الطبّيّ يحيط بسرير السيّد الرئيس وهو ملقًى يتألّم ويتأوّه ويستغيث: يمسك بأطراف السّرير حينًا، ويركل ممرّضًا حينًا آخر من شدّة الألم.
أعلمه الطّبيب أنّ آلام الظّهر التي وخزته قبل ساعة هي آلامُ الولادة، وشدّ أزرَه ببعض العبارات الدافئة. غير أنّ الآلام الحقيقيّة اشتدّت عند منتصف الليل، فتأكّد من أنّ الساعة قد حانت، وأخذ صياحُه يعلو ويعلو، ولمعتْ في ذهنه صورةُ قضيبٍ أسودَ تضيئه مصابيحُ خافتةٌ مثل برج إيفل، فاشتدّ حنقه. ومرّ الشبحُ في خياله بين الآلام مرورًا خاطفًا، فغمغم خلال الدموع: "اللّهمّ جُزّ قضيبَه وافقأ خصيتيْه يا ربّ العالمين!"
في تلك الأثناء كانت الشاشاتُ تبثّ أغانيَ حماسيّةً، وتنقل الحدثَ مباشرةً عبر كاميرات مثبّتةٍ في نواحي القصر الجمهوريّ. وفي الباحة عزفت فرقٌ نحاسيّةٌ الأناشيدَ الثوريّة، ووقّعتْ تشكيلاتٌ عسكريّةٌ مشيةً منتظمة. وفي الفضاء رتلٌ من الطائرات العموديّة تجوب السماوات السّبع بالعلم الوطنيّ، وأزيزُ المدافع يزلزل البلادَ من حين إلى آخر. فجأةً لاحظ الطبيبُ أنّ البطن الخلفيّ أخذ يمتدّ تحت جبّة السيّد الرئيس وينتفخ، والرئيسُ يصيح ويرغو رغاءَ الإبل، وتمتدّ نظراتُه إلى الطبيب استعطافًا، فلا يرى سوى ارتباك الفريق الطبّيّ ودهشتِه أمام ما يحصل.
لمّا تأكّد الطبيب أنّ احتمال الولادة الشرجيّة بات مستحيلًا، أمر بعدّة التخدير كي يجري عمليّة قيصريّة لاستخراج الجنين. وفيما الممرّضون يخدّرون السيّد الرئيس، بلغ الانتفاخُ أشدّه، فصار بالونًا ضخمًا، وبزغتْ عينا الرئيس، ووقف شعرُ رأسه. وما هي إلاّ برهة من الزمن حتّى تفرقع السيّد الرئيس، وتطايرتْ أشلاؤه في غرفة التمريض، فقُتل الطبيبُ وثلاثةُ ممرّضين، وأغمي على قابلةٍ شابّة، وجُرح أربعة مساعدين آخرين. تردّد صوتُ الفرقعة في أروقة القصر، وبلغ الدويُّ الباحة الخارجيّة، فعمّت الجلبة. ظنّ الجميع أنّ أحدهم فجّر القصرَ بسيّارة مفخّخة، فهرعوا إلى المكان يستكشفون الأمر، وفزعوا لمّا رأوا الأشلاءَ والضحايا والدماء ولم يجدوا أثرًا لمولود.
***
هوامش من وضع الكاتب
هامش أوّل: في اليوم التالي أُعلن الحدادُ الوطنيّ المفتوح، وفتحنا أعينَنا على مذيعة النشرة الصباحيّة تقرأ التقرير الآتي:
"ذكرت وكالة موزمبيقا للأنباء أنّ انفجارًا خصل في القصر الجمهوريّ، في ساعاتٍ متأخّرةٍ من ليلة البارحة، فيما كان فريق طبّيّ يشرف على ولادة السيّد الرئيس. وأضاف المصدر ذاته أنّ الانفجار أسفر عن وفاة السيّد الرئيس وطبيبِه الخاصّ، في حين أصيب بعضُ أفراد الطاقم الطبّيّ بجروح طفيفة، ولم تقع إصاباتٌ في صفوف التشكيلات العسكريّة التي أحيت حفل استقبال المولود الجديد.
وقال ممرّضٌ ناجٍ من العمليّة، في تصريح لفريق الأخبار: إنّ الولادة كانت تسير بسلام، إلّا أنّنا فوجئنا بانفجارٍ ضخمٍ أودى بحياة السيّد الرّئيس وطبيبه الخاصّ.
من جهته، ثمّن مصدر مسؤول رفض الكشف عن اسمه، الجهود التي قام بها الفريقُ الطبّيّ، ووجّه أصابعَ الاتّهام نحو أطرافٍ تحاول إثارة الفتنة والبلبلة وزعزعة الأمن العامّ في البلاد على حدّ تعبيره.
وأعرب مصدرٌ مقرّبٌ من الرّئاسة عن قلقه بشأن التّدهور المفاجئ للوضع العامّ في البلاد، وطالب بفتح تحقيقٍ في الأمر.
يُذكر أنّ السيّد الرئيس قد حمل منذ تسعة أشهر، في سابقةٍ لم تشهدها الأرضُ منذ بداية التكوين."
هامشٌ ثانٍ: لم يصدّق أحدٌ ما حصل، وسرت شائعاتٌ تقول إنّ السيّد الرئيس قد وَلد بعرةً، وأنّ البعرة نجَت من الانفجار، وأنّ القصر الرئاسيّ يتكتّم على الخبر، ويضعها تحت حراسةٍ مشدّدة. وأخذ التململ يدبّ في النفوس، وبدأ التخطيط لجملة من التّحرّكات، واقترح أحدُهم الاعتصام في محيط القصر الجمهوريّ للمطالبة بالبعرة الرئاسيّة، واقترح آخرون أن يبنوا عليها قبّةً ضخمةً ويتّخذوها مزارًا أبديًّا.
هامش ثالث: تشكّل مجلسٌ رئاسيٌّ للخروج بالبلاد إلى برّ الأمان، وأُعلن يومُ الواقعة عيدًا وطنيًّا، وسُجّل ضمن العطل الرسميّة بعنوان "عطلة البعرة الوطنيّة." وتمّ القبضُ على الشبح صاحب السّيّد الرّئيس في أحد الكهوف البعيدة، ووجّهتْ إليه تهمٌ من قبيل "خدش الكرامة الوطنيّة،" و"التكتّم على جريمة،" و"التجاهر بما ينافي الحياء في حقّ رئيس الدّولة." وحُكم عليه بالإعدام مع النفاذ العاجل.
تونس
كاتب وباحث وإعلاميّ تونسيّ من مواليد سنة 1980. له مجموعتان قصصيّتان أزياء لقصائد السّيّدة سين (2014)، وكأن أمضيَ خلف جثّتي (2016). وله كتاب أكاديميّ بعنوان الفكر الكاثوليكيّ المعاصر والآخر (2016).