لطالما كان هدفُ مَن يصوغون الدساتيرَ هو الانتقال إلى مرحلة متقدّمة من الكمال المرجوّ لبناء وطن. ومَن قرّر في الدستور اللبنانيّ جعلَ النائب ممثِّلًا للأمّة قاطبةً قد سعى إلى إخراجه من "زواريب" السياسة الضيّقة إلى الشمول، لِما في ذلك من نفعٍ عامٍّ يطاول المواطنين كافّةً.
غير أنّ "الكمال" الموجود على ورق الدستور اصطدم غيرَ مرّة بالقوانين الانتخابيّة. والقانون الانتخابيّ الجديد في لبنان يعتمد خاصيّة "الصوت التفضيليّ،" الذي من شأنه أن يمثّل معركةً بين الناخبين داخل اللائحة الواحدة نفسها، إذ يتمّ احتسابُ الأصوات التفضيليّة التي حصل عليها كلُّ مرشّح على حدة ضمن القضاء نفسه. وهذا ما ما يتناقض مع التعريف الدستوريّ للنائب، في وصفه ممثِّلًا للأمّة.
غير أنّ السطور الآتية ستركّز على الشعارات الانتخابيّة بشكل خاصّ، وفي بيروت تحديدًا. فالقوى السياسيّة اعتمدتْ على الشعارات التي من شأنها ان تُدخل إلى عقل الناخب ما يُعرف بـ"الشدّ العصبيّ" ــ ــ وهو ما يجعله تابعًا مطلقًا لها لأنّه لن ينظر إلى البرنامج الانتخابيّ الذي على أساسه ينبغي أن ينتخبَ هذا المرشَّحَ دون ذاك.
خذوا مثلًا شعارَ تيّار المستقبل الانتخابيّ: "نحن الخرزة الزرقاء التي تحمي لبنان." هذا الشعار يستنجد بأساطير أو غيبيّات متجاهلًا حقيقةً واضحة: أنّ هذا التيّار جزءٌ أساسٌ من سلطةٍ لم تحمِ لبنانَ، وإنّما رهنته للدَّيْن العامّ، بل لفوائد هذا الدين، ولأعباءِ مشاريع "عمرانيّة" لا تحاكي احتياجاتِ الطبقات المنتجة والمسحوقة.
كما أنّ هذا التيّار لم يحمِ لبنانَ من الشحن المذهبيّ، الذي ساد بشكل خاصّ مع بداية الأحداث السوريّة ونموّ الحركات الأصوليّة والتكفيريّة، وإنّما طرح نفسَه قطبًا "سنّيًّا" موازيًا للشيعيّة السياسيّة. فأين الخرزة الزرقاء من ذلك كلّه؟
أمّا السيّد فؤاد مخزومي، وهو رئيس لائحة بيروتيّة منافسة، فيتباهى بأنّه "بيروتيّ أصيل." وهذا اللقب لا يناقض واقعَ اندماج كتل بشريّة متنوّعة في نسيج بيروت منذ عقود فحسب، بل ينضح أيضًا بمناطقيّةٍ معاديةٍ لـ"الوافدين" إلى بيروت من مناطق أخرى، كي لا نقول إنه يشدّ العصبَ السنّيّ البيروتيّ في مواجهة الشيعة.
أمّا شعارات من قبيل "بيروت الكرامة تناديكم،" و"بيروت تستحقّ،" فهدفُها هي أيضًا إشباعُ غريزة البيروتيّ المناطقيّة، بدلًا من استثارة حميّته الوطنيّة وشعورِه بالانتماء إلى ما يتجاوز بيروتَ (كي لا نقول لبنانَ).
هذا من دون أن نغفل شعاراتِ حركة أمل الانتخابيّة، التي تركّز على الولاء للحركة ورئيسها، بدلًا من الولاء لبيروت، ناهيكم بلبنان؛ أو شعارات حزب الله التي تركّز على الحماية.
فإذا انتقلنا إلى شعاراتِ ما يسمّى "المجتمع المدنيّ،" وهو تعبير فضفاض عن مرشّحين يُفترض أنّهم خارج السلطة أو معادون لها، فسنفاجأ بأنّ كثيرًا منها يتبنّى شعاراتِ أطرافٍ أساسيّةٍ في السلطة. ولعلّ من أبرز هذه الشعارات المطالبة بنزع سلاح حزب الله، وبخروجه من سورية.
من تظاهرة في العام 2012 لإسقاط النظام الطائفي (الصورة لوسام أندراوس)
قد يرى البعض أنّ هذا التخندق، حتى ضمن إطار "المجتمع المدني،" مبرَّرٌ نظرًا إلى كون مجتمعنا "حربيًّا،" لم يتخلّصْ بعدُ من رواسب الحرب الأهليّة، ولم يزل قسمٌ منه متأهّبًا لمواجهة العدوّ الاسرائيليّ والتطبيع الخليجيّ معه، فيما يتأهّب قسمٌ آخر منه لمواجهة "التمدّد الإيرانيّ" و"عودة الوصاية السوريّة." وهذا سبب كافٍ، في رأي هؤلاء المواطنين، للتعلّق بأحزابهم وطوائفهم لكونها "المخلّص" الذي حافظ على وجودهم. وقد فهمت القوى السياسيّة هذا الأمر جيّدًا، واعتمدتْ عليه، بل ابرزتْه، في أغلب خطاباتها السياسيّة قبيْل أيّ انتخابات.
غير أنّ هذه القوى، باستمالتها للحسّ الغريزيّ المناطقيّ والطائفيّ والمذهبيّ و"الحمائيّ" من أجل حشد الأصوات الانتخابيّة، قد أوقعتْ نفسَها في فخّ الأزقّة الانتخابيّة. والمأمول أن يعي الناخبُ اللبنانيّ، الحريص على وحدة وطنه وتطوره، أهميّةَ الصورة "الكماليّة" لمن قد يمثّله في البرلمان طوال 4 سنوات، بما يجعل من هذا النائب أكثرَ بكثيرٍ من مجرّد "بوق طائفيّ أو مذهبيّ،" أو محض صلةِ وصلٍ بينه وبين الدولة في الأمور الإنمائيّة الصغيرة التي يمكن أن تقوم بها البلديّات.
من هنا، فإنّ السادس من أيّار سيكون يومًا مفصليًّا في حياة المواطن اللبنانيّ لناحية تحمّله المسؤوليّةَ في اختيار ممثِّليه في ظلّ الاستحقاقات التي تنتظر الوطن، وفي ظلّ المؤشِّرات الاقتصاديّة التي تُنذر بأزمةٍ محدقة قد تصل بمؤسّسات الدولة الى مرحلة الإفلاس. ولذلك فإنّ المسؤولية الوطنيّة التي تقع على المواطن تقتضي في هذه المرحلة أن يُحسن الاختيارَ، وأن لا يقع في فخّ الطائفيّة والحسابات الحزبيّة الضيّقة التي وقع فيه أغلبُ المرشَّحين في هذه الانتخابات.
بيروت
علي ملحم
كاتب لبنانيّ. له كتابات سياسيّة واجتماعيّة في مواقع عربيّة، وصحف لبنانيّة متنوعة.