في تشييع محمد الصغير أولاد أحمد (الشاعر التونسيّ الذي رحل عن عالمنا في 5/4/2016)
في ذلك المساء الأزرق، سقطت الشمسُ في المحيط الهادي، وتطايرتْ أشلاءُ الأرض في الكون. غادرت المجرّاتُ مساراتِها، فإذا النجومُ هباءٌ في هباء، وإذا الوجودُ يرتجّ كأنّه يهمّ بالانفجار.
"شاعرُ البلاد مات..."
واشتعلتْ مواقعُ التواصل الاجتماعيّ بهذه الجملة الخرقاء. لم يصدّق أحد. لم تكن هذه ميتتَه الأولى؛ فقديمًا، قتلته الغربانُ الزرقاءُ غيرَ مرّة، ليُطلّ بجملته الشّهيرة، "محمّد الصّغير أولاد أحمد شخصيًّا،" من صفحته الفايسبوكيّة، فتضيء الشموعُ في كلّ قلب.
"شاعرُ البلاد مات..."
تناقلتها الهواتفُ والأفواه، وطار النّبأ في الفضاء بلا أجنحة. ولمّا صار موتُه رسميًّا تقرأه مذيعةٌ خرقاء، لم يعد ممكنًا أن يكون الليلُ ليلًا، ولا النهارُ نهارًا.
أنا أيضًا صدّقتُ الخبر!
جعلتُ أدور حولي مثل راقصةٍ في حانةٍ مهجورة.
رأيتُ سنابلَ "قمّودة" بلا لون.
رأيتُ جبالَ الكاف تنفثُ براكين.
رأيتُ نخلَ الجريد متّكئا على الفراغ.
رأيتُ القصريْن حافيةً من الحلفاء.
رأيتُ رمّانَ قابس بلا رمّان.
رأيتُ برتقالَ نابل بنفسجيًّا.
رأيتُ...
بعينيّ رأيتُ البحرَ يذرف الدّمع.
رأيتُ البحرَ يغوص في البحر، فيغرق.
تعاوت في رأسي ذئاب. غنّت ثعالب. سقط برجُ إيفل على رأس باريس. وانتثرت الأهراماتُ في الصحراء. وطلّقتْ علّيسة قرطاج. وكسر حنّبعل نِبالَه. ونثر ابنُ خلدون أوراقَه للصبية. وهاجر الشجرُ من البلاد. وجفّت أضرعُ النّوق. وامّحت نهودُ الصّبايا، فغزلن من شعورهنّ حبالًا، مشانقَ علّقوها في الريح. وتراقصتْ جثثُهنّ في الهواء. وتدلّى من السّماء السابعة لسانٌ أزرقُ، لحس الأرضَ وما عليها.
كنتُ أدور حولي وأفكارٌ غريبةٌ تفترسني، تنهش لحمي. والخبر يذاع ويذاع ويذاع...
***
من الغد، تجمّعت البلادُ في رادس. جاء شعراءُ وفلاّحون وصيّادون، قطّاعُ طرقٍ ومغنّياتٌ وراقصاتٌ ومذيعون وكتّابٌ وحِرفيّون وسُوّاق. تحلّق الكونُ حول تلك البناية العالية الّتي تطوّقها الأشجارُ منذ الأزل.
جاؤوا يشيّعون شاعرَ البلاد.
في حجرته، كان أولاد أحمد يتعطّر. أحسّ لأوّل مرّة في حياته أنّه عارٍ من الألم. كان خفيفًا كما لم يكن مرّةً. كان "حليقَ الذّقن، مهذّبَ الأظافر، أنيقًا، بربطة عنقٍ خضراءَ، وحذاءٍ أسودَ لمّاع."(1)
كان خفيفًا وسيمًا. تشعّ عيناه كسماءٍ تَعِدُ ببرق. وكان ينثر الابتساماتِ في كلّ مكان. أطلّ على الغابة ـــــــــ غابةِ رادس ـــــــــ من نافذته في الطابق الخامس، يودّع "السابقَ واللاحق،" وأومأ إليّ بأنّه مستعدٌّ للرحيل. فامتدّت الأيدي ترفعه على الأكتاف. سرنا به تحت آلاف الشمسيّات البيضاء في المنحدر الملتوي بين الأشجار السابقة تذرف حزنَها في صمت. رأيتُ غابةَ رادس مظلمةً. وكانت السماءُ بلا معنى.
خلفنا قوافلُ من النّسوة، وجموعٌ من الرجال والأطفال والعجائز. طوابيرُ زيتونٍ ونخلٍ ورمّانٍ تزحف في صمت. أسرابٌ من السنابل. جيوشٌ من قمم الجبال. أرتالٌ من الأحلام والآمال... تتحرّك خلفنا بخطوٍ ثقيلٍ، غارقةً في يمٍّ متلاطمٍ من الدمع والألم. وأولاد أحمد متربّعٌ على أكتافنا يعُدّ نجومًا تلألأتْ في سماءِ ما بعد الظهيرة.
***
صرنا على مقربةٍ من المقبرة. على يميننا البحرُ، وعلى شمالنا تنتصب ربوةُ "سيدي بلحسن،" وعليها ملايينُ المريدين في جلابيبهم البيضاء. يطوفون في المقام حاملين مجامرَ البخور. وفوق الربوة سحابةٌ خضراءُ تمطر خمورًا وعسلًا، وبناديرُ كونيّةٌ توقّع زلازلَ ورعوًدا. تسارَع الخطوُ، وزحفت الجنازةُ متوغّلةً في الشارع، فلاحت لنا قبورٌ بيضاء متناثرة كأسنان الموت.
انحرفت الجموعُ شمالًا نحو المنعطف الأخير. شعرتُ بكفٍّ تقع على كتفي. فإذا أولاد أحمد ينطّ على الأرض، فيترجّل في هدوء، ويمسك بيدي، وينسلّ بي من الجنازة في خفّةِ جنّيٍّ مومئًا إليّ بأن اتبَعْني. وفي داخلي انفجر صوت:
ـــــــــ غُشْتُ(2) لم يَحِنْ بعدُ يا صاحبي!
ولمّا ثرثرت حيرتي، وعوى تردّدي في داخلي:
ـــــــــ والـ... والمشيّعون؟!!
ردّ الصوتُ هازئا:
ـــــــــ دعهم يدفنوا موتاهم!
تبعتُه. كان سريعَ الخطو. ينساب انسيابَ مَن يتزلّج على الثّلج. قبل أن يلوحَ لنا شارعُ بورقيبة، توقّفتُ برهةً أتأمّلُ المشيّعين يحفرون قبورًا تكفي لطمرهم جميعًا. سحبني من قميصي. نطّ في قلب الشارع الرئيس وأنا أتبعُه مذهولًا. تسلّق ساعةَ الشارع في خفّة، وأنا أرقبُه مندهشًا. كسّر عقاربَ الوقت البلهاء ورماها بعيدًا. استوى فوق الساعة قائمًا. حدّق في تمثال ابن خلدون برهةً. رفع البصرَ بعيدًا. كصوفيّ مخمور، علّق يدًا في السماء، ومدّ الثانية مبسوطةً. فتح فاه، فإذا هو ينفث نارًا لا تنطفئ ولا تخبو.
تونس
1- من نصّ "الوصيّة" لأولاد أحمد.
2- "شبه متيقّن كنتُ.
أمّا الآن: فعلى يقينِ مالحِ من أنّني سأموتُ
ميتةَ غامضةً
في الصّيف
وتحديدًا
أثناء النّصفِ الثالثِ من شهر غُشْتْ". (أولاد أحمد، نصّ "الوصيّة").