يريدُ أن يكتب قصّة. لا بدّ من أن يكتب قصّة. وعلى الرغم من أنْ لا شأن له في الكتابة، ولم يسبقْ أن كتب سوى مرّةٍ واحدة، فإنّ رغبةً عنيفةً تدفعه اليومَ إلى أن يدلق كلّ ما في جوفه في قصّة.
كان طالبًا في الصفّ الأول الإعداديّ، في مدرسة نسيب عريضة، عندما كتب قصّتَه الأولى والوحيدة. يذْكر أنّه كتبها للمشاركة في مجلةِ حائط، وأنّ عنوانَها "بعدَ الفراق." لكنّه لا يتذكّر موضوعَ القصة، ولا طولَها، ولا ما دفعه إلى كتابتها. ينبش ذكرياتِ المدرسة في عقله، فلا يلمع في ذهنه إلّا العنوان. يستفزّه العنوانُ، ويستدعي في نفسه العجبَ والسخرية.
ما الذي يمكن أن يكون قد كتبه منذ سبعٍ وعشرين سنةً تحت هذا العنوان؟ ما الذي كان يعنيه له الفراقُ، وهو الذي عاش طفولةً مثاليّةً ومراهقةً عاديّةً؟ عمَّ كان يتحدّث ابنُ الأعوام الثلاثة عشر، ولم يكن قد عَرف في حياته، بعدُ، خسائرَ جسيمةً ولا منعطفاتٍ حادّةً؟ بأيّة كلماتٍ وصفَ لذْعَ الفراق؟ ماذا قال عن أعراضه المفترِسة وتداعياتِه الكاوية؟ كيف عالج القصة، وهو في سنٍّ يُفترض أن يكون أقسى فراقٍ فيها هو فراقُه لكُرَتِه مثلًا؟!
يتضخّم في رأسه الاستغرابُ وينقلبُ إلى إصرار. سيكتب الآن قصّةً تستحقّ أن يسمّيها "بعدَ الفراق." سيكتبُها، وهو الرجلُ الأربعينيّ، بكامل عتادِه العاطفيّ والشعوريّ، وبين يديه سلالٌ طافحةٌ من الخبرات. سيكتبُها بعد أن أحنتْ حمولاتُ الفراق ظهرَه، وصارتْ يدُه على مستوى البوحِ والكتابة.
سيكتبُ عن فراق أبيه المفاجئ في تلك الليلة التي صار بعدها يتيمًا وهو في العشرين. عن الكمد الذي فرش به سلالمَ مشفى "العاصي" القديمةَ القاسية. عن فراقه السريع لمرحلة الشباب، بكلّ ما فيها من لهوٍ ومغامرةٍ وجنون. عن مسؤوليّاته المستجدّة وأولويّاته المُتغيّرة. عن الأمّ والأخ الصغير اللذيْن تعلّقا كالغريقيْن برقبته. عن رجلِ البيت الذي صاره بين جلطةٍ قلبيّةٍ وضحاها.
سيكتبُ عن فراقِ حبيبته الأولى، زميلتِه في معهد "دار اللغات." سيحكي عن قصّتهما بكلّ ما فيها من مشاعر أولى، وأغنيات أولى، وقبلات أولى. سيصفُ الشكلَ الفريدَ لفرح الحبّ، وسيسجّلُ بنشوةٍ وحبورٍ اكتشافاتِه في ميادين الشوق واللقاءات والرسائل. ثم سيحكي عن أسبوع الخصام الذي سدّد ضربةَ الفراق. عن اللقاء الأخير في آخر شارع الدبلان، والذي ظلّ يسميه لفترة طويلة لقاء الجملة الواحدة، حين قالت له: "أنا الآن مخطوبة، أرجوك انسَ كلَّ شيء." سيكتبُ عن لجّة الحزن التي يهوي فيها العاشقُ المتروك، وعن سُرادِق الوحدة الذي ينصُبُه الفراق. سيكتب عن المحبّ الخائب الذي نزل عن منصّة الحبّ الأول إلى ساحة الواقع بأسئلةٍ أكثر واندفاعٍ أقلّ.
سيكتب عن انفصاله عن زوجته وابنته. عن طلاقه الذي كرّس الفراقَ كقدرٍ من أقدار حياته. سيحكي أوّلًا عن زوجته كحبيبة. عن حبّهما النّاضج وخطوبتهما المستقرّة القليلة النكسات. عن بدايات حياتهما الجديدة كزوجين ثلاثينيّيْن متفاهمَيْن، ويسترجع اللحظاتِ التي رافقتْ ولادةَ ابنتهما والأفقَ الذي فتحتْه أمام شراكتهما. وسيتذكّر، بوجعٍ كبير، رحلة "بحيرة قطينة" التي فَقَدتْ فيها البنتُ ذراعَها، وقرعتْ جرسَ الفراق.
سيحكي عن بيتهم بعد الحادثة. عن القناعة التي خلقتْها لديه، ولدى زوجته، بمسؤوليّة الآخر عمّا جرى. سيعدّدُ الواجبات التي زادت وصارت أكثر إرباكًا. سيسجّلُ تُهَم الإهمال والأنانيّة التي تبادلها وزوجته، بصوتٍ عالٍ أولًا، ثم بالإشارات المبطّنة والنظرات اللائمة حتى استحال التواصل. سيحكي عن قرار الطلاق الذي فرضَ نفسه بعد أن غارت الثقةُ وضمر الحبّ. سيكتبُ بحسرة عن أحلام السعادة والاستقرار وهي تتكسّر تحت سياط الفراق. وسيصفُ بمرارة ألمًا نادرًا يعشّقُ في الروح ولا يسبّبه إلّا فراقُ الأبناء.
ثم سيكتبُ عن الفراق الأكبر. الفراقِ الأشملِ والأمضى. فراقِ كلِّ الناس وكلِّ التفاصيل وكلِّ شيء: سيكتبُ عن فراقِ حمص، مدينتِه وعالمِه وذكرياتِه. سيحكي أولًا عن أمّه وأبيه وأخيه. عن بيتهم وجيرانهم وحيّهم في حمص القديمة. عن طفولتِه ومدرستِه وأصدقائه. سيتذكّر حبيباتِه ومغامراتِه، دراستَه وعملَه، نجاحَه وفشلَه. ثمّ سيكتبُ عن يومِ الرحيل. يومِ اشتدادِ القصف وتداخُلِ أصواتِ الأسلحة. اليومِ الذي كان الخيارُ فيه محصورًا بين الموت أو الفراق. سيكتبُ عن انفجاراتٍ داخليّةٍ تحدث في العقل والصدر، تصاحبُ الانفجاراتِ الخارجيّةَ وتبزُّها ألمًا ودمارًا. سيكتبُ عن تمزّقاتِ اللحظةِ الأخيرة، والنظرةِ الأخيرة، والقرارِ الأخير. وعن سنواتٍ كثيرةٍ تضافُ إلى العمر مرّةً واحدةً في لحظة الرحيل. سيكتبُ عن فراقٍ رهيبٍ، كانتزاع جنينٍ حيٍّ من رحم أمّه قبل الأوان.
سيكتب "بعْدَ الفراق" من هنا، من بلجيكا. سيكتبُها وهو العارفُ بمعاني الفراق وأنواعِه، والخبيرُ بما قبْله وما بعده. سيكتبها نكايةً بالولد الذي كانه، بالولد الذي كتب قصّةً لا يعرف شيئًا عنها ولا عن عنوانها. سيكتبها اليوم، بل الآن. سيكتب القصة. سيكتب هذه القصة.