ظلّت قضيّة فلسطين، منذ أن تمّ الإعلان عن قيام الكيان الصهيونيّ، من القضايا المركزيّة في الفكر العربيّ. وقد كانت تحظى باهتمام معظم شرائح المجتمعات العربيّة والإسلاميّة لكونها ذات أبعاد مختلفة لها علاقة بما هو إنسانيّ وقوميّ ودينيّ.

ومركزيّة القضيّة هذه لم تكن في صالح هذا الكيان المصطنع. فقد حقّقتْ عدّة أهداف، من بينها: الإبقاءُ على الذاكرة المرتبطة بمأساة الشعب الفلسطينيّ دائمةَ التجدّد، ونقلُها من جيل إلى جيل كي لا يصبح وصفُ فلسطين بأنّها "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض" حقيقةً تاريخيّةٌ كما يريد لها الصهيونيُّ أن تكون. كما أنّ هذه المركزيّة لا تتيح فرصةَ اندماج هذه الدولة المصطنعة بالمحيط العربيّ، لتبقي ساكنيها "اليهودَ المُهَجَّرين" يفكّرون باستمرار في العودة إلى أوطانهم الأصليّة.

ويمكن ملاحظة فعاليّة هذه المركزيّة عبر أسلوب المقاطعة الاقتصاديّة لكونها لا تقتصر على العرب وحدهم، بل أصبحت اليوم معتمَدةً من طرف جهاتٍ، هاجسُها الأوّلُ الدفاعُ عن هذه القضيّة بغضّ النظر عن إثنيّة أصحابها أو لغتهم أو لونهم أو دينهم. وضمن هذا، أثبتتْ حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) أنّ مثل هذه المبادرات المحاصِرة لهذا الكيان قادرةٌ على تحقيق الشيء الكثير للقضيّة الفلسطينيّة. كما أنّها قادرة ـــ إلى جانب كلّ الأشكال النضاليّة السياسيّة والثقافيّة والأكاديميّة ـــ على جعل هذا الكيان ينصاع لمبادئ حقوق الإنسان في حدّها الأدنى.

لكنّ الجديد في تعاطي بعض وسائل الإعلام العربيّة مع الهجوم الإسرائيليّ الأخير على غزة هو بروز مثقّفين وإعلاميين عرب يعملون ما أمكنهم على ضرب هذه المركزيّة. وبمقتضى هذا الخطاب الجديد، تحوّل المقاومون في هذا الهجوم الأخير إلى مجموعة من المتهوّرين المغامرين الذين "يستفزّون" الإسرائيليّ، فيكتفي هذا بـ "الردّ." وفي هذا، شهدنا أحدَ الصحفيين المصريين في قناةٍ فرنسيّة يتهجّم على المقاومة، فتنبري للردّ عليه صحفيّةٌ إسرائيليّةٌ تتّهم إسرائيل بخرق القانون واستهداف الأبرياء وارتكاب المجازر.

لا شكّ في أنّ لهذا الخطاب الجديد علاقةً بما عرفته الساحةُ العربيّةُ بعد تحويل "الربيع العربيّ" إلى خريف. كما أنّ له علاقة بالجهود التي تبذلها إسرائيل لتغيير اتّجاهات الرأي في العالم العربيّ ككلّ، ولتحقيق همّها الأوّل المتمثّل في التحوّل إلى كيان طبيعيّ مقبول. وهذا الخطاب تحكمه منطلقاتٌ غيرُ معلنة، وهي وجوبُ التسليم بوجود إسرائيل واستمرارها، وأنّ على الفلسطينيّ المقاوم أن يقبل بالأمر الواقع بدلًا من معاكسة مجرى التاريخ الذي "انتهى" بانتصار إسرائيل الكاسح على العرب والفلسطينيين. وينطلق أصحابُ هذا الطرح ــــ بوعي أو من دون وعي ــــ من أنّ التاريخ يسير في اتّجاه واحد، خلافًا لما يؤكّده الفيلسوف الفرنسيّ إدغار موران من أنّ التاريخ انبثاقٌ وانهيار، فتراتُ هدوءٍ ونكبات.

إنّ الذين يذهبون إلى أن المقاومة هي التي تثير العدوّ الإسرائيلي وتستفزّه يكشفون عن تفكير شديد السطحيّة، إذ إنّهم يحسنون الظنّ به، ويفترضون أنْ لا قابلية له للعدوان إلا إذا "ظُلم." ويُظهر هذا التفكير أنّ الإسرائيليّ لا يبادر بالهجوم، بل يكتفي بالردّ والدفاع عن النفس. وباعتماد هذا المنطق في التحليل يتمّ تغييب كلّ التاريخ الصهيونيّ، وكلّ التاريخ الاستعماريّ الذي أدّى إلى نشوء هذا الكيان، وتصبح إسرائيل دولةً شرعيّة، وسكّانها مسالمين متحضّرين، لا يلجأون إلى العنف إلّا إذا استثيروا. كما يُغيّب هذا التفكير حقيقةَ وجود خطط ومخابرات إسرائيليّة تعمل على ضرب المقاومة كلّما قدرت؛ وما التركيز على حدثٍ بعينه (كاختطاف مستوطنين مثلًا) سوى ذريعةٍ لانطلاق عمليّة اعتداء مهيّأ لها مسبّقًا.

ومن جملة ما يعتمده أعداءُ القضيّة، المنتسبين إلى الثقافة العربيّة، من حجج لدفع الرأي العام بعيدًا عن التفاعل إيجابيًّا مع القضية الفلسطينيّة، الترويجُ لفكرة أنّ الأنظمة العربيّة التسلطيّة تتّخذ من هذه القضيّة وسيلةً لامتلاك الشرعيّة ولإلهاء الجماهير عن قضاياها "الحقيقيّة." أصحاب هذا الرأي في المغرب تحديدًا يعرفون قوّة هذه القضيّة في خلق لحمةٍ بين المشرق والمغرب، ورغبة منهم في ضرب جسر التفاعل بينهما يلجأون إلى هذه المغالطات الفكريّة لإحباط العزائم ولإيقاف الاحتجاجات في حالة ضرب الكيان الصهيونيّ للفلسطينيين.

إنّ ضرب مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة في الفكر والوجدان العربيين هو ما تجتهد الدعايةُ الصهيونيّةُ لتحقيقه، بحيث تصبح المواقفُ الشاذّةُ المشارُ إليها أعلاه خطابًا متأصّلًا في محيطنا العربيّ، ومنافسًا لخطاب المقاومة ودعم الفلسطينيين المضطهَدين. والتصدّي لهذا الخطاب الذي تشيعه بعضُ المواقع الإخباريّة، وبعضُ الأصوات الثقافيّة الراغبة في تحقيق مصالح ذات أبعاد سياسيّة عن طريق التقرّب من العدو الصهيونيّ وتبنّي تحليلاته، هو ممّا يجب التركيزُ عليه عن طريق فضح أصحابه وتفكيكِ كتاباتهم التي تخفي أحيانًا أكثر ممّا تظهر.

الدارالبيضاء/المغرب