في 13 نيسان 1975 بدأتْ حربٌ طويلةٌ في لبنان، قَتلتْ 150 ألف شخص تقريبًا، وهَجّرتْ مليونًا، ودفعتْ إلى الهجرة ما يناهز 500 ألف شخص، وعوّقتْ أو جرحتْ حوالى 180 ألف شخص. وكلما أطلّت هذه الذكرى، عاد الناسُ إلى الروتين الممجوج في الجرائد والإذاعات، قائلين: "تِنْذكر وما تنعاد." ولكنّ فعل "تنْذكرْ" هذا، طوالَ 41 سنةً، لم ترافقْه محاسبةٌ للذات، لكي يصبح وعدُ عدم تكرار الحرب جدّيًّا وقابلًا للصرف.
كانت بيروت في خمسينيّات القرن الماضي وستينيّاته مركزًا ثقافيًّا مهمًّا، وامتدّ نفوذُها الثقافيّ ليغطّي المنطقة العربيّة. كلَّ يومٍ كانت أكشاكُ الباعة تزدحمُ بالدوريّات الصادرة في بيروت بالعربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة والأرمنيّة، وبتلك القادمة من زوايا الأرض الأربع. وقد سمح لبنان لعقائدَ متعدّدةٍ بأن تتعايشَ بسلامٍ "نسبيّ": فغلب الصراعُ الفكريُّ على علاقات القوميّين العرب والسوريّين واللبنانيّين والماركسيّين ـــــ وكلُّ هؤلاء ساهموا في نهضة لبنان بشكلٍ أو بآخر. أمّا على صعيد النتاج الثقافيّ فقد كانت بيروتُ مركزًا لأكثر من 500 دار نشر. وكانت اللغة التي كَتب بها معظمُ اللبنانيين عربيّةً فصيحةً عصريّةً سلسةً، تستعير مفرداتٍ معرّبةً من الآداب والفلسفات الأوروبيّة. وقد انتشرتْ مؤلّفاتُ اللبنانيين في منازل عربٍ كثيرين، كمؤلَّفات جبران ونعيْمة وزيْدان وعوّاد وإدريس وإلياس خوري وعقل وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وخليل حاوي، أو لغيرِ اللبنانيين ممّن اتّخذوا بيروتَ مقرًّا لهم للتمتّع بالحرّيّة، كأدونيس ونزار ودرويش. كما حقّقتْ بيروتُ إنجازاتٍ مهمّةً جدًّا على صعيد الموسيقى، فكانت أعمالُ العائلة الرحبانيّة ثورةً في الأغنية الشعبيّة نافست القاهرةَ في النفوذ الفنّيّ العربيّ.
إزاء ذلك يتساءل كثيرون: كيف يمكن بلدَ جبران وفيروز والرحابنة، ومنارةَ العرب، وعاصمتَهم الثقافية، ونافذتَهم على الحضارات الغربيّة، ونموذجَهم في التنوّع الدينيّ، أن يَغْرق في حربٍ استغرقتْ 16 عامًا، وأن يُمضي الستةَ عشر عامًا التي تلتها في أزماتٍ عنيفةٍ وسياسيّة؟
الجواب المختصر هو أنّ على اللبنانيين أن يَعترفوا بتاريخهم القريب، وبمسوؤليّتهم تجاهه. وهذا الاعتراف هو بداية "الصحوة الوطنيّة،" وفسحةُ الأمل إلى المستقبل.
عُصاب جماعيّ لبنانيّ: "حروب الآخرين على أرضنا"
لو أجريتْ دراساتٌ نفسيّةٌ عن الشعب اللبنانيّ لأمكن الباحثين التوصّلُ إلى أنّ الناسَ في لبنان يعانون عُصابًا جماعيًّا يَقمع أفعالَ اللبنانيين الشنيعة خلال 32 عامًا ويبرّئ ذمّتَهم منها. أمّا تبريرُ مقولة "حروب الآخرين على أرضنا" فله ابتكاراتٌ كثيرةٌ مغايرةٌ للحقيقة، ومنها:
ـــ "أنّ اللبنانيين جميعًا هم ضحايا الحرب" ــــــــ حربِ الآخرين (إسرائيل وسورية والفلسطينيين والعرب والإيرانيين والأميركان...) ــــــــ على أرض لبنان؛
ـــ وأنّ قصفَ المناطق المدنيّة المزدحمة بالسكان عاناه "جميعُ اللبنانيين" بصرف النظر عن أنّ ضاربَ المدفعيّة في الطرف الآخر هو لبنانيّ أيضًا؛
ـــ وأنّ حروبَ إسرائيل ضدّ لبنان "لا دخلَ للّبنانيين فيها،" بل هي دليلٌ على وجود "مؤامرةٍ" على لبنان، قادها "الفلسطينيون والشيوعيّةُ الدوليّة" في البداية (1968 ـــ 1982)، ويواصلها حزبُ الله وإيران لاحقًا.
كلُّ ما تريد أن تقوله هذه "الابتكاراتُ" هو أنّ أمراءَ الحرب الداخليين وسماسرتَها لا يتحمّلون المسؤوليّةَ عن جرائم الحرب. وهكذا أعفي اللبنانيون من المسؤوليّة الجماعيّة عمّا حلّ في بلادهم من أهوال.
في ستينيّات القرن الماضي وأوائلِ سبعينيّاته ظهر جيلٌ رَفَضَ استراتيجيّةَ "قمع الذاكرة" التي انتهجها آباؤه، ومؤدّاها أنّ كلَّ شيءٍ على ما يرام ("اُتركوا اللبنانيين وشأنَهم وهم سيَقتلون بعضهم البعض من القُبل والعناق" كما زعم سعيد عقل). هكذا نشأتْ قوى اليسار اللبنانيّ، وتنوّعت الأحزابُ والحركات السياسيّة والفكريّة. ولكنّ العجزَ عن مواجهة الماضي ظلّ قائمًا، وكانت المبالغةُ في فضائل "الميثاق الوطنيّ" وصيغة "التعايش" وفرادة "الديمقراطيّة اللبنانيّة" خبزًا يوميًّا.
ثمّ كانت الحربُ الطويلة (1975 ـــ 1990). وحين انتهت، بدأت "المناحاتُ" الكتابيّة والكلاميّة محاولةً إنكارَ الماضي الطائفيّ العنصريّ الحربيّ. كما سعى مَن أرّخ لتلك الفترة إلى التقليل من أهمّيّة الجانب الداخليّ للصراع، والانسحابِ من خطايا الماضي، ثمّ اجترارِ "وطنيّةٍ لبنانيّةٍ" مسخ لا علاقة لها بأحداث لبنان في النصف الأخير من القرن العشرين ولا تعرف كيف تتجـّه مستقبلًا.
هذا التبرّؤ والنكران تحريفٌ وغدرٌ بإعادة كتابة التاريخ، ومِن شأنه أن "يغشّ" الضحايا الذين قُتلوا في تلك الحرب. هكذا يعمل كثيرٌ من اللبنانيين على حرمان قتلاهم الشيءَ الوحيدَ الذي يمكن أن يمنحَه إيّاهم بلدُهم: استذكارَهم بصدقٍ وصدقيّة. فلا مناقشةَ جدّيّةً للحرب، بل تُستعاد كلَّ عام ذكرى 13 نيسان بشكلٍ عاطفيٍّ سطحيّ، وبتصريحاتٍ خشبيّةٍ تؤكّد "رغبةَ الناس في التعايش" وأنّ 13 نيسان أصبح "رمزًا لنهاية حالةٍ منبوذةٍ" في تاريخ لبنان. ثمّ يعود الجميعُ الى حظيرة السياسة "الطبيعيّة" التي سادت في السابق.
"ثقافة الحياة" تواجه "ثقافة الموت"
غير أنّ نسيانَ الماضي ونكرانَه ليسا كلّ الحكاية. فقد أمعن البعضُ في تشويهِ ذكرى 13 نيسان بأنْ أَلبَسَ الصراعَ المحليَّ رداءَ "الثقافة والحضارة" في وجه "همجيّة" الآخر. هكذا كانت حملةٌ باسم "ثقافة الحياة" في العام 2005 واستمرّت عدّة سنوات، واستُعملتْ أثناءها كافّةُ وسائل البروباغندا لمهاجمة الطرف الآخر الذي زُعم أنّه يمثّل "ثقافةَ الموت."
ثم حاول أصحابُ "ثقافة الحياة" أن يبلوروا مفهومَ هذه "الثقافة." فإضافةً إلى حملة "أحبُّ الحياة" الإعلانيّة التي بدأوها بعيْد عدوان "إسرائيل" على لبنان صيفَ العام 2006، فقد عقدوا مؤتمرًا في بيروت باسم "ثقافة الحياة" في تمّوز 2007، ثمّ مؤتمرًا آخرَ في 14 آذار 2008، لكنّهم لم يُجيبوا في المؤتمريْن عن السؤال الأساس: هل تاريخُ لبنان المعاصر هو فعلًا صراعٌ بين ثقافتين؟
بدايةً، لم نرَ في لبنان ــــــــ ولا في أيّ بلدٍ آخر ــــــــ ثقافتين: واحدةً للحياة أو للسلام، وأخرى للموت أو للعنف. ولم نرَ دراسةً أكاديميّةً ــــــ لا اليوم ولا في الماضي ــــــــ عن "التنوّع الثقافيّ" أو "التعدّديّة الثقافيّة" في لبنان. وبالاستناد إلى العلوم الاجتماعيّة، فثمّة في لبنان تعدّديّةٌ دينيّةٌ، ضمن ثقافةٍ واحدةٍ لدى الجميع، هي "ثقافة الطائفيّة،" التي درجتْ عليها البلادُ منذ أواسط القرن التاسع عشر، وفصّلتْها أقلامٌ أكاديميّةٌ كثيرة. ويبقى الفرقُ بين أطراف الصراع اليوم ماثلًا في موقعها على سلّم درجات الثقافة الطائفيّة. إذ لا يمكن عاقلًا أن يتحدّث عن ثقافة شيعيّة وثقافة سنيّة وثقافة درزيّة وثقافة مارونيّة، مثلًا. أمّا الاختلاف في نمط العيش وأساليبِ الاستهلاك والترفيه فهو محضُ "تنوّعٍ من منوّعات البحر المتوسّط،" بالإذن من ميشال شيحا في وصفه للإثنولوجيّة اللبنانيّة.
جاء في وثيقة مؤتمر "ربيع لبنان" (2008) أنّ "الطوائف في لبنان جماعاتٌ يجب أن تحظى كلُّها بضماناتٍ متساوية." وهذا مناقضٌ لجوهر الديمقراطيّة التنويريّة الحقيقيّ، الذي إنّما يريد أن يكون المواطنون أفرادًا. وخلاصة القول إنّ الجدل حول "ثقافتيْن" لا أساسَ علميًّا له، وهو ينطلق ـــــــ في طرفيْه ـــــــ من الثقافة الطائفيّة؛ فالجهتان تمْلكان مؤسّساتٍ طائفيّةً خاصّةً بها، من مدارسَ ومعاهدَ ونقاباتٍ ومعابدَ وحصصٍ في الدولة ووسائل الإعلام وغير ذلك.
واجب المثقّف
قد يجد المثقّفُ الحقيقيُّ نفسَه في "مفاضلةٍ آنيّةٍ" بين فئاتٍ أقلَّ طائفيّةً، وأخرى أكثرَ حدّةً ووضوحًا في طائفيّتها، على سلّم الثقافة الطائفيّة (مثلًا: 5 على 10 طائفيّة "أفضل" من 7 على 10). ولكنْ، بعد فترةِ تأمّل، لن يجد المثقّفُ في خطاب أطراف الصراع في لبنان ما يجعله ينتمي أو ينحاز إلى أيٍّ منها. ذلك أنّ الموقف المبدئيّ للمثقّف هو ألّا يهادن السلطة، حسب تحديدات إدوارد سعيد، فلا يقبلَ بأقلَّ من دولة الرعاية المدنيّة المجرّدة من الانتماء الطائفيّ والمناطقيّ والعائليّ.
كندا