كي يقرأني العميان
عاقبوني. ما زلتُ على قيدِ الحياة. لا موتَ أبشع من موتنا. بعده، العذابُ لمَن نجا. إنَّها فرصةٌ لليأس المشروع.
تعالَ أيُّها اليأس، سنعلِّمُك كيف يكون العدم!
كان كلُّ شيءٍ يحترق ويتناثر في العدم. في كلّ جسدٍ موتٌ. رأيناه يستقرُّ في اللَّحمِ الحيّ، في الجدران، في العيون، وفي السماءِ نفسِها. القويُّ منّا قال: كُن شُجاعًا واشتعلْ، ولا تؤمنْ بشيءٍ بعد اليوم؛ فبيروتُ لم تعد مدينةً، بل صارت عاصمةَ الموت والذهول. إنَّها الذبيحةُ، وستتأخَّر القيامةُ كثيرًا.
الموتُ القاتل انتشر كليْلٍ أرخى سدولَه. اللُّغةُ تحوَّلتْ عويلًا وصمتًا. بعدها، لم نعد نؤْمن بشيء. لغتُنا بلا كلمات: لغتُنا أصواتٌ، وبكاءٌ، وعصفٌ، ورماد. الاستغاثات غيرُ مفهومة. سمعها الجميعُ، لكنْ لا وقتَ للاستماع! فالحياة انخطفتْ بسرعةِ الشهقةِ أو النَّفَسِ الأخير. حلّ الذهولُ، التلاشي، اللَّاجدوى، الجراحُ، الدِّماءُ، القتلى.
كلُّ العتمة كانت هناك.
كيف نقرأ جراحَنا وخرابَنا في العتمة؟
تُرى، مَن ارتكب هذا السَّوادَ؟ مَن اجترحَ هذه المذبحة؟
لا جواب.
هناك أحدٌ ما. آحادٌ ما. أمْ يستحيل التعويلُ على أمل؟
اليتامى في كلِّ ألمٍ يَهِمن. يبحثن في أجسادهنّ عن أطرافهنّ، عن بقاياهنّ. والرجالُ في قعر عجزهم يبكون بدموعٍ من رماد. لم يوفِّر الدمُ أحدًا. لا عيونَ لأحد. هناك فراغٌ مريع، وها أنذا أكتب الآن، كي يقرأَني العميان.
يا ذلك اليوم: إنَّك أطولُ من كلّ الأيّام والأسابيع. لقد سجّلتَ رقمَكَ في أجسادِ بيروتَ وأرواحِها. لقد بِتَّ تُعْرَفُ بالرّابع من آب.
لا حبلَ نجاةٍ. شعبُنا هو التجسيدُ المأساويُّ لعبثٍ سياسيٍّ مزمنٍ، مُفْتِنٍ، طاعنٍ في الكذب والاحتيالِ والقتلِ البطيء. أهلُ السياسة يتفنَّنون بالدجل. الشياطينُ وحدها على صداقةٍ طيِّعةٍ مع طُغمة التحكُّم المزمن.
فيا ناس: الشياطين تَحْكمُنا وتُحاكِمُنا وتُعْدِمُنا، ثم تتقدَّم بفرِّيسيَّةٍ لتلاوة رثاءٍ رثٍّ.
يا ويلَنا من أمراء الجحيم اللبنانيّ.
وها قد قُتل مَن قُتل. لم يمتْ أحدٌ مصادفةً. العصابة كانت على عِلمٍ بعنبر الموت. عصابةٌ عن سابق إصرارٍ وتصميمٍ ومعرفة. عصابةٌ احتلَّتْ لبنانَ منذ ولادتِه وشبابِه وكهولتِه وما قبل نهايته. شبقُها مُخيف. تحايلُها مطوَّبٌ من أتباعٍ بقامةِ أحذيةٍ فقط. طُغمةٌ، بتحايلٍ مباركٍ من كلِّ حدبٍ وصوب، بجنونٍ مقيت، ارتكبتْ أمراضًا شتَّى، مُعْديةً ووبائيَّةً، أفظعُها: توظيفُ الله، وتسييلُ الدين، وتعميمُ النفاق المذهبيّ، في تجارة الموت وسرقةِ الحياة.
لذلك، عاقبوني. فقد صدف أن مرَّت الحياةُ بقربي، فاستسلمتُ لها. كان يَلْزم أن لا...
انتحارُ شاعرٍ شجاع
بيروت وحيدة. الحصار صيفَ العام 1982 يَخْنقها. العدوُّ الإسرائيليّ يزحف ويتغلغل. تصمد العاصمة. خلف العدوّ يصفِّقون. أمامَه حقلُ رماية. يتساقط الشهداء. تسقط بيروتُ بالتقسيط، وتتناثر دمًا.
دخل العدوُّ بيروتَ بحراسةٍ دوليَّة، ومعيَّةٍ محلِّيَّة. حدث أن امتشقَ شاعرٌ سلاحًا، صوَّب نحو القلب وأصاب. انتحر خليل حاوي. انكسر "الجسر." لم يَعْبرْه غيرُ الأعداء. ما كان أبلغَ تلك الطلقة! إنَّها تُذكِّرنا بملك مدينة صُور، عندما سقطتْ بسيفِ الإسكندر المجرم. تعالى الإسكندرُ على الملك وقال له: ها هي صُور تحت أقدامنا؛ أنظرْ إليها ساجدةً!
أنكر الملكُ ذلك. صُور تبقى حرَّةً، قال. تقدَّم الملكُ من الشرفة، وفقأ عينيْه، كي لا يرى صُورَ مستعبَدَةً.
خليل حاوي، بطلقةٍ واحدةٍ، استعاد بيروتَه: أموتُ كي لا أرى بيروتَ جاثيةً على جبهتها! حاوي، شهيدُ احتلال بيروت ربيعَ العام 1982، لم يكن شاهدًا على قتلها وخرابِها، بل كان سيِّدَ موته وسيِّدَ انبعاثة بيروت.
حدث ذلك منذ ثمانيةٍ وثلاثين عامًا. اجتاحت "إسرائيلُ" العاصمةَ. في صفوفها الخلفيَّة "لبنانيّون أقحاحٌ" أهدوْا صديقَهم شارون مفاتيحَ العاصمة العاصية، فدخلها جيشُه من كلِّ الجهات.
سقطتْ بيروت، ولكنَّها لم تجْثُ.
حدث ذلك منذ زمنٍ طويل. حزيران 1982. كان خليل حاوي جذوةً وقُدوةً. "يَعْبرون الجسرَ في الصُّبحِ خفافًا/ أضلُعي امتدَّتْ لهم جسرًا وطيدْ..." حاوي هو الجذوة، وهو صاحبُ الأمرة: أموتُ كي لا أرى بيروتَ ذبيحةً!
لكنَّهم ذبحوها حتى الثمالة.
ومع ذلك، فقد وُلدتْ بيروتُ من جديد. عصت موتَها. هذه البِكْرُ عاصمةٌ عاصيةٌ. انهالت على العدوّ برصاصاتٍ قليلةٍ، في الحمرا وسبيرس وكورنيش المزرعة وأمام محطّة أيّوب... صرخ العدوُّ خائفًا: "يا أهالي بيروتَ الكرام! لا تطلقوا النارَ، إنَّنا منسحبون!"
كان ذلك زمنًا مباشرًا: المواجهةُ سافِرة. العدوُّ سافِر. المقاتلُ سافِر.
انتهت المعركةُ بانسحاب العدوّ زحفًا من بيروت.
أمّا الآن، فالعدوّ ليس سافرًا. فكيف نُقاتله؟
لم ينتحرْ أحدٌ في الرابع من آب 2020. العدوّ ليس سافرًا. إنَّه منتشرٌ ومُختبئٌ في إضباراتٍ وجواريرَ تتحدَّث عن عنبر الموت في المرفأ. القتلة لهم ملامحُ "رجال دولةٍ" وإدارةٍ وعسكرٍ وقضاءٍ ومال. الموتُ الساحقُ، هذا، ابنٌ شرعيٌّ للإهمال، والجشعِ، والتراخي، واللامسؤوليَّة. إنّه تخلٍّ بحجم خيانات.
لقد قتلوا بيروتَ. ابتكروا قتلًا لا شبيهَ له في العالم. اغتالوا أمّهاتٍ وأخواتٍ وآباءً وإخوةً وكلَّ مَن يمتُّ إلى الحياة بصلة حبٍّ أو عملٍ... احتلّ الدخانُ المسمومُ المدينةَ. تشظَّت أجساد. تخلَّعتْ أبواب. تهدَّمتْ منازل. تساقطتْ مَشافٍ. لا مكانَ لإقامة اللبنانيِّين. العراءُ مأواهم، ومساحةُ عويلهم، وفضاءُ آلامهم.
لم يعد لبنانُ كما كان، على بؤسه. بيروتُ لا تشبهُ أمسَها أبدًا. إنَّها مسحوقةٌ سحقًا تامًّا. كومةٌ من أشلاء على امتداد العصفِ الرهيب. كلُّ شيء تغيَّر إلَّا أهل السلطة: ما زالوا كما كانوا.
ليتهم زالوا.
أو ليتنا نُزيلهم.
ثمّ أتساءل إنْ كنتُ أشْبهُ نفسي، أمْ صرتُ ظلًّا لرجلٍ كان، وصار كأنَّه غيرُه. هل أنا أنا، أمْ أنا آخرُ؟
مَن يدلُّني علَيَّ؟
ألم تُصِبْ هذه اللّعنةُ الألوفَ وعشراتِ الألوف من اللبنانيِّين؟
ها أنذا: كلّما مشيتُ، تحسّستُ سحابةً من خلفي كي تقذفَني إلى موتي.
أقولُ في سرِّي: أيُّها الموتُ، لماذا تخلَّيتَ عنِّي؟
سفلةٌ ومُسوخ
ألا نستحقُّ الحياةَ؟ أن نولَدَ كربيعٍ، أن ننشأَ كحقلٍ، أن نكْبرَ كغابةٍ، أن نعيش كهواءٍ، أن نموتَ كوداعٍ أليف؟
لماذا نحن معرَّضون للقتل دومًا؟
الأعداءُ لصيقون بنا؛ إنَّهم هنا وهناك وفي كلِّ مكان. إنَّنا نتنفَّس هواءً معاديًا. نسير على طُرُقٍ محفوفةٍ بالسقوط. لماذا نحن دائمًا على حافَّة الإلغاء؟
لا أخجلُ أبدًا من خوفي. أعلنُ بصوت جريء: أنا خائف! سأصرخُ دائمًا: أنا خائف، ولستُ جبانًا! خائفٌ على كلِّ لبنانيّ. على كلِّ فلسطينيّ. على كلِّ عربيٍّ حقيقيّ. على كلِّ إنسانٍ في هذه الكرةِ التاعسة. القراصنة في كلِّ مكان. العنف لغةُ إبادة.
نعم أنا خائف. خائفٌ منَّا. الأعداءُ من حولنا وفينا. تكفينا "إسرائيلُ" ومَن معها مِن عربٍ وفرنجة. منذ أكثر من نصفِ قرنٍ وهذه الأرضُ ترتجف وتهتزّ. أنفق لبنانُ نصفَ عمره في الدم. عنفٌ من الخارج. عنفٌ، أشدُّ، من الداخل. عنفٌ غيرُ قدَريٍّ أبدًا. عنفُ سياسات السبْي والسرقةِ والهدرِ والاستتباع.
لانفجار بيروتَ مرتكِبون. لكنْ ما نفعُ العقاب؟ هل يعود القتلى؟ هل تندمل جراح؟
لانفجار بيروتَ مرتكِبٌ، بل مرتكِبون. لكنْ ما نفعُ العقاب؟ هل يعود القتلى؟ هل تندمل جراح؟ هل ننسى؟
مَن "يتَّهمني" بالخوف أقولُ له: الخوف فضيلةٌ واعية، ومتوثّبة، وحريصة. مَن ليس خائفًا أقولُ له: اللَّعنة! إنَّك لا تُبالي بأمِّك وأبيكَ وإخوتِكَ وأخواتِكَ وأبنائكَ وبناتِك وكلِّ مَن تعرفُه. أيُّها اللَّاخائف، أنت شيطانٌ ناطق. الشجاعةُ اليومَ هي أن تُعْلي خوفَكَ على مقدَّساتك العائليَّةِ والوطنيَّةِ والإنسانيَّة.
عندنا في لبنان استعمارٌ داخليٌّ مُزمن. الطوائفُ كلُّها، بثكناتِها الشعبيَّة، وأشاوسِها المدرَّبةِ على مذهبِ "بافلوف،" ورهاناتِها الخارجيَّةِ الفاسقة، وزبائنيَّتِها الحقيرة، أشدُّ الأعداءِ عداوةً. الطوائفُ تحتلّ لبنانَ واللبنانيِّين بشرعيّة التزوير والتلفيق والازدراء. وهي تحتلّهم من زمن التأسيس إلى زمن التيئيس، مدعومةً من دولٍ متناحرةٍ ومتناقضة. طوائفيّون خطِرون، معبودون من عبيدهم، مدعومون من زبائنهم، ومتَّكئون على حلفاءَ جُلفاءَ من القارّات الخمس.
تبًّا لبلدٍ يعامل شعبَه الراقي الطيِّب، الحرَّ، معاملةَ العبيدِ والخدمِ والأتباع. لدينا زعماءُ سفلة، أتباعُهم مُسوخٌ رثَّةٌ وشرّيرة.
ما كان لبنانُ، يومًا، وطنًا لجميع أبنائه. اللبنانيُّون صَدَفَ أن جُمِعوا معًا. هم جموعٌ وجماعاتٌ متراميةُ الولاءات والانتماءات. السنّيّ اللبنانيّ أقربُ إلى السنّيّ العربيّ من أيِّ لبنانيٍّ آخر. كذلك الشيعيُّ، مرجعيَّتُه نائيةٌ وقويَّة. المسيحيّ لبنانيٌّ بانحيازٍ غربيّ. "الإسرائيليّون" لهم حصّةٌ في مَن يواليهم سرًّا وعلانيةً. وحدهم شتاتُ العَلمانيِّين يَحلمون بوطنٍ على قياس إنسانيَّتهم: إنَّهم بؤساءُ هذه البلاد.
هل سيكون لبنانُ، ذاتَ زمنٍ، وطنًا؟
يَصْعب ذلك، إنْ لم يكن في الأصل مستحيلًا. لبنان لا يكفي اللبنانيِّين. حدودُهم تضيق عن ولاءاتهم. المشكلة، إذًا، في الأصل: لبنان الصغير لا يتَّسع لكلّ هذه الولاءات. ولا لبنانُ الكبير، نفسُه، اتّسع.
انفجرتْ بيروت. التمَّت دولٌ في مياهه، وهو مستسلمٌ كلِّيًّا. لا رصيفَ لديه يقف عليه. قادتُه أتباعٌ. شعوبُه كذلك. عَلمانيُّوه يَتامى، ولا فُتاتَ لهم غير الأوجاع والأماني المحبطة.
لبنان ليس وطنًا لـ"أبنائه."
إنَّه مجموعةُ أرصفة.
بلادٌ من زجاج
بُنِي لبنان لِلُبنانيِّينَ متباعدين. منذ التكوين، قُدِّمَ لبنانُ إلى الموارنة، ثم خَصُّوا المسلمين بحصَّة. ثنائيَّةٌ أُولى تشعَّبتْ، في ما بعدُ، فباتت كلُّ طائفةٍ أمّةً، لا تقف عند حدود لبنان. لا حدودَ للطوائف؛ إنَّها عابرةٌ لكلّ الحدود. ولأنَّ المنطقةَ مصابةٌ بنفطٍ يُشْتهَى، وباستيطانٍ إسرائيليّمدعَّمٍ دوليًّا، وبحروبِ الأشقّاء، فإنَّه من الطبيعيّ أن تكونَ صلةُ الأرحام الدينيَّة أقوى من روابط المواطَنة.
المواطِنُ في لبنان "مُواطِف." وبين الطوائف مساحاتٌ من زُجاج. ولَكَمِ انكسرَ هذا الزجاجُ: في الخمسينيَّات، ثم في السبعينيَّات، والثمانينيَّات، وهلمَّجرًّا. ولَكَمْ جَرَتِ الاستعانةُ بـ"الأصدقاء الأعداء،" وبـ"الأعداء الأصدقاء،" كي تَغْلبَ طائفةٌ طائفةً أخرى، أو كي تحسِّنَ طائفةٌ مواقعَها في غنيمة السلطة. ووصل بناءُ الزجاج السياسيّ مرحلةَ تنصيب "إسرائيل" رئيسَ جمهوريّةِ لبنان، بقوَّةِ النيران. يومَها، تكسَّر زجاجٌ كثير، ومات كثيرون، خطفًا وتعذيبًا وقتلًا وسحلًا. ارتُكِبتْ مجازر. تغيَّرت الديموغرافيا. إلى آخرِ ما نعرفه من حرب الخمسة عشر عامًا.
هذا ليس اعترافًا؛ إنَّه أمرٌ معروف. وما بعد ذلك، ذاب لبنانُ بالتدريج. حَكَمَه الأمنُ السوريُّ بقبضةٍ حديديَّة. أمّا المقاومة، بكلِّ تلويناتها، فقد انصرفتْ إلى قتال الاحتلال الإسرائيليّ، الذي استضافتْه طوائفُ وأقامت له محطّاتٍ ومناطقَ.
إلى أن حصل التحريرُ سنة 2000.
بعدها، تحوَّل سلاحُ التحرير، لدى البعض، إلى مذمّةٍ وتهمة. أُطلقتِ النيرانُ السياسيّةُ على المقاومة. "تجريدُها من السلاح" هو الشعارُ الذي تستطيب "إسرائيلُ" التشديدَ عليه. وغرق لبنانُ في الدوّامة، وانتشر شعار: "بناءُ الدولة مطلوب، وهو ما تمنعه ترسانةُ المقاومة."
هذا كذب! لم يكن لبنانُ يومًا دولةً. الطوائفُ تبني معازلَ، ويستحيل عليها بناءُ دولة. والدليل أنَّ القوى الستَّ الحاليّةَ موجودةٌ معًا في السلطة، ولم تبنِ دولةً، ولا طبَّقتْ قانونًا، ولا التزمتْ دستورًا، ولا أطاعت قانونًا، ولا أمّنتْ معيشةً، بل دمّرت المؤسّسات، ونهبت المواردَ، وتقاسمت الاختلاسَ، وتبارتْ في الاستتباع. خلف كلِّ طائفةٍ راعٍ برتبةِ آمِر، أو وليّ أمر.
وطنٌ من زجاج. وشعبٌ داشر، على حِلِّ قوله المكرور والممجوج.
وطنٌ خرافيٌّ هذا الوطن. ديموقراطيَّتُه أفصحُ كذبةٍ عرفها التاريخ. إنَّها ديموقراطيَّة "مختصَرة": مجلسُ الوزراء محكومٌ بستّة؛ مجلسُ النوّاب معبَّرٌ عنه بستّة؛ الأشقياءُ الستّة يتحكّمون بكلّ شيءٍ في لبنان.
هذه العلاقات من زجاج، والوطنُ من زجاج، والناسُ حُثالة.
فيا أيَّتها المسوخُ السياسيَّة: أنتم العلّةُ والبلاء. لا أمنَ معكم وبكم. لا حرّيةَ معكم وبكم. لا عدالة، لا تنمية، لا بيئة، لا بحبوحة، لا تعليم، لا كهرباء، لا ماء، لا شيء على الإطلاق. لقد ارتكبت الطبقةُ الأوليغارشيّةُ الحاكمةُ الكبائرَ: أفلست البلدَ. سرقتْ مدَّخرات الناس. "على الأرض يا حكم."
متعِبٌ تكرارُ جرائمهم من دون أن يدفعوا ثمنًا، بل يحظوْن بالتأييد المؤكّد من طوائفهم!
متعِبٌ جدًّا البرهانُ على حقارتهم. بلدُهم اليوم من زجاجٍ مكسور، من حُطامِ أحلامٍ صغيرةٍ دافئة، من ناسٍ طيِّبين ومطرودين.
لقد أزْهرت القبورُ كثيرًا. مذبحةُ العنبر 12 معلّقةٌ في رقابهم: إنَّهم المسؤولون. فهل ينجون من العقاب؟
يا شعبَ لبنان
لا حياةَ لمن تنادي؟
قلّةٌ قويَّةٌ خرجتْ من قوافل الخِراف. رأت صورتَها الحقيقيَّةَ في مرآة وطنِها المكسور. قلَّةٌ حرزانةٌ ومُخيفةٌ خرجتْ في 17 تشرين. مزّقتْ أقنعةَ التكاذب. ترجَّلتْ عن صهوة الادّعاء والعجز. حلمتْ أنّ لبنانَ الوطنَ ممكن. احتلّت الشوارعَ والساحات. كانت لحظاتٍ مجيدةً.
خافت الأقليَّةُ السياسيَّةُ المتحكِّمة، وسرعان ما استعادت زمامَ الشارع. أطلقت العنانَ للسعير الطائفيّ. هجم المسعورون على الناسِ العُراة. كالوا لهم اللّكمات. باركَهم قادتُهم.
لم يكسروا الناسَ تمامًا، ولكنَّهم دفعوهم بالقوّة كي يتراجعوا.
استُغلّت الأزمةُ النقديَّة. لا مال. لا عمل، لا مساعدات. حتى فرغ البلدُ من العمالة والعمل، من الإنتاج والمال. بدأ الجوعُ يَقرع أبوابَ الطبقة المتوسّطة. لبنان في القعر.
الكورونا ساهمتْ. تولّى الإعلامُ تجهيلَ الثورة والثوّار. انكبَّ على إعادة تأهيل الأطراف المتصارعة. استضعفوا حسّان دياب، فنصّبوه، ثمّ أسقطوه. استعادوا المبادرةَ من دون أفق. والغريب أنّ المقصود كان تدفيعَ الحكومة الضعيفة نتائجَ كارثة الانفجار. "أولاد القحبة لا أستثني أحدًا."
ماذا بعد؟
ترجَّلتُ عن أحلامي.
قلتُ لها ابعدي عنّي.
لا أتساءلُ أبدًا لماذا صرتُ عاريًا؟
أنا عارٍ جدًّا. ولا أخجلُ أبدًا.
وبكاملِ وعيي ومعرفتي،
أعلنُ أنَّني خائفٌ منهم
لأنَّني، أو لأنَّنا، قادرون على قول الحقيقة دائمًا.
أيُّها السفلة، أيّتها المسوخ، نحن باقون هنا، أحرارًا وأقوياءَ ومؤمنين بأنَّ للحرية بابًا نقرعه كلَّ يوم.
بيروت